تعيدنا الدكتورة بثينة شعبان في كتابها «عشرة أعوام مع حافظ الأسد» (مركز دراسات الوحدة العربية 2015) إلى مرحلة غاية في الحساسية مرت بها سورية بين عامي 1990 و2000 والتي شهدت محادثات السلام العربية الإسرائيلية،

 لترسم من خلال عدد هائل من الوثائق إلى جانب المشاهدات الشخصية مسار تلك المحادثات وما تعرض له من عوائق وما شهده من انعطافات وانحرافات لم يرض عنها الرئيس حافظ الأسد، وكيف استطاع بصلابته التفاوضية وما يمتلكه من ذكاء دبلوماسي التأكيد على الحقوق العربية عموماً لاسيما أنه كان يمتلك رؤية شاملة للأمور تجعله ينأى بسورية عن التنازلات التي قدمتها بعض الأقطار العربية، ملتزماً بوحدة المسار العربي إذ «لم يكن راغباً بصفقة سلام منفردة».

الجولان أولوية

أحد عشر فصلاً كرست من خلالها  الدكتورة شعبان الأرشيف الرسمي للرئيس حافظ الأسد والأرشيف الرسمي لوزارة الخارجية السورية لتعطي صورة عن مواقف الرئيس المؤسس الذي كان مراقباً لأدق التفاصيل، ومستذكراً إياها كلما لزم الأمر، ومتمهلاً صبوراً يرفض التسرع لأنه برأيه «لا ينتج أبداً قرارات حكيمة» وكان يصرّ دائماً على كرامة سورية وشعبها مؤكداً أنه «إن كان الطريق إلى الجنة يمر عبر الإذلال، فنحن نرفض أن ندوسه»، لكنه في الوقت ذاته -بحسب مترجمته الشخصية- كان يرفض أن يضيع أية فرصة يمكن أن تضع مرتفعات الجولان أولوية قصوى على الأجندة الدولية، وهذا ما دفعه للقبول بمؤتمر مدريد للسلام عام 1991.

وتؤكد المستشارة الإعلامية والسياسية للرئاسة السورية في كتابها بنسخته العربية (الكتاب صادر باللغة الإنكليزية عام 2013) أن الأسد كان حازماً بكل ما يتعلق بالأرض السورية والتي كان يعتبر «كل شبر منها مقدساً» وهي جوهر الصراع، إذ كان الفرق لديه كبيراً بين حدود عام 1923 وحدود الرابع من حزيران التي تتيح لسورية الوصول إلى مياه ثلاثة أنهر (بانياس واليرموك والأردن) إضافة إلى بحيرة طبريا، في حين أن النظرة الأمريكية لم تكن تلقي كثيراً من الأهمية على مثل هذا التفصيل، تقول شعبان: «سورية لن تقبل بأي شيء أقل من حدود الرابع من حزيران 1967. وأوضح الرئيس الأسد هذا تماماً لكل من كارتر عام 1977، وبوش عام 1991، وكلينتون عام 1994، ولم يكن «روس» بحاجة إلى تسعة أشهر لاكتشاف هذا المطلب، إذ كان يعرف ذلك منذ البداية».

مذكّرات شخصيّة

إضافة إلى الأرشيفين الرسميين يبرز من خلال الكتاب اطلاع على معظم المذكرات الشخصية لمفاوضين شاركوا في المحادثات التفاوضية مع الأسد بدءاً من «جيمس بيكر» وزير الخارجية الأمريكية في عهد جورج بوش الأب، إلى «مارتن إنديك» مستشار الرئيس بيل كلينتون في أمور الشرق الأوسط، مروراً بمذكرات «كلينتون» المعنونة بـ«حياتي» والتي تحدث فيها عن قمة جينيف، و«وارن كريستوفر» في مذكراته «فرص في العمر لا تتكرر»، ومذكرات «دنيس روس» التي حملت عنوان «السلام المفقود»، و«إيتامار رابينوفيتش» رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض إلى الجولة السادسة من المفاوضات في واشنطن.

كما ركزت شعبان على الحرب الإعلامية التي قادها الغرب وأمريكا خدمةً لإسرائيل وتبييض صفحتها أمام الرأي العام العالمي رغم كم المجازر التي ارتكبتها في فترة محادثات السلام، بما فيها مجزرة قانا، مبينةً أن وسائل الإعلام الغربية سعت أيضاً إلى تأطير صورة للرئيس الأسد بأنه ضد السلام في الشرق الأوسط، رغم أنه كان واضحاً في موقفه تجاه تلك المفاوضات لكنه كان يسعى إلى الدقة والوضوح في كل تفاصيل عملية السلام فهو كما قال: «أريد أن أوقع على اتفاقية سلام يمكن لأجيال المستقبل أن تدافع عنها سنوات طويلة بعد أن أموت». تقول شعبان: يجب التنبيه هنا إلى أن اتفاقيات السلام التي تم التوصل إليها بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد، وبين الأردن وإسرائيل، وبين الفلسطينيين وإسرائيل في أوسلو، لم تولِّد حالة حقيقية من السلام بين العرب والإسرائيليين، وهذا السبب في وقوف حافظ الأسد ضد تلك الاتفاقيات. لم يكن موقفه يرجع إلى كونه ضد السلام في الشرق الأوسط، لكن تلك كانت الصورة التي صوَّرته بها وسائل الإعلام الغربية دوماً».

صحيفة تشرين

كما بينت صاحبة كتاب «المرأة العربية في القرن العشرين» أن الإعلام السوري كان مواكباً لتلك المرحلة الحساسة من تاريخ العرب، وعلى سبيل المثال، جاء في فصل «طوبى لصانعي السلام» من كتابها أن حواراً أجراه الراحل موفق العلاف المندوب الدائم لسورية في الأمم المتحدة ورئيس الوفد السوري المفاوض إلى واشنطن عام 1991 مع صحيفة تشرين أبرز فيه موقف سورية من السلام، مما أزعج موشي بن أهارون من الجانب الإسرائيلي متهماً العلاف بأنه أساء اقتباس كلام رئيس الوزراء اسحق شامير حول رؤيته لما أسماه «اتفاقية سلام شاملة» معتبراً أن تلك المقابلة «تركت علامات استفهام كبيرة في عقول الإسرائيليين عن جدية الموقف السوري».

ولم تكتف الدكتورة شعبان بالسرد المتقن والجمع بين الشخصي والتاريخي والتوثيقي بل ضمنت كتابها الموجه أساساً إلى المجتمع الغربي الكثير من التحليلات السياسية بغية إضاءة بعض المفاصل في المحادثات يغفلها المحللون وكتّاب السياسة الغربيون خدمةً لإسرائيل وحدها، وحفاظاً على أمنها الذي يضعونه في أول أولياتهم ضمن الشرق الأوسط. تقول في الفصل الثامن الذي حمل عنوان «تفاهم نيسان»: «منذ اغتيال رابين في تشرين الثاني 1995، أخذنا نشعر في سورية أن الراعي الأمريكي يطلب منا باستمرار القيام بأشياء لا نرغب فيها، والغرض الوحيد من ذلك هو مساعدة شمعون بيريز على اكتساب مصداقية وشرعية. بدأ الأمر بالطلب من الأسد أن يقابل بيريز في كانون الأول، وتبع ذلك اقتراح أمريكي أن يرسل الأسد برقية تعزية إلى «ليا رابين»، أرملة إسحاق رابين، والآن تطلب الولايات المتحدة منا حضور قمة مع بيريز، لكي يكتسب صورة جيدة في أعين المجتمع الدولي وأعين ناخبيه داخل إسرائيل. وفي منتصف عام 1996، بدأنا نشعر أننا، كنا ندفع ثمن موت رابين، حين يُطلب منا باستمرار أن نخطو الخطوة الإضافية أو نقوم بالإيماءة الإضافية للوصول إلى السلام و«دعم إرث رابين».

مماطلة ممنهجة

وتجمع صاحبة كتاب «ديمقراطية الأجساد المتطايرة» كل الوثائق اللازمة لترسم مسارات عملية السلام وكيف أن سورية التزمت بكل ما يلزم لدعم تلك المسارات في حين وقفت الأطراف الأخرى عائقاً أمامها، أو على الأقل عرقلتها وماطلت كثيراً فيها، لدرجة قالت عنها الدكتورة شعبان في خاتمة كتابها: «إنني لم أشهد إطلاقاً إضاعة للوقت على مثل هذا النحو المنهجي والمتعمّد، وعلى هذا المستوى العالي، وكله لقاء تكلفة باهظة».

وتوصف أستاذة الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق تراجع لغة السلام بقولها: «حين أعود بذاكرتي إلى وديعة رابين أشعر بحاجة إلى التعليق على الطريقة التي تدهورت بها لغة السلام، ففي عام 1994، كان الإسرائيليون يتحدثون عن «تفكيك المستوطنات»، وتحول هذا في أواخر التسعينات إلى «تجميد المستوطنات». ومع قدوم القرن الحادي والعشرين، صار بحث الموضوع نفسه يجري على أساس «إبطاء بناء المستوطنات». ثم أصبحت المسألة في عامي 2009 و2010 «وقف بناء المستوطنات مدة ثلاثة أشهر»، والآن في عام 2014، أخذوا يتحدثون عن «تجميد بناء مستوطنات جديدة»».

وتضيف: «تبرهن الحالة الراهنة للصراع العربي الإسرائيلي على صحة الموقف الذي وقفته سورية من عملية السلام، بدءاً من مدريد 1991 وصولاً إلى جنيف عام 2000 فالسلام يحتاج لأن يكون عادلاً وشاملاً، وكما كان الرئيس حافظ الأسد يقول: «لا يمكن لأمن أحد الطرفين أن يتحقق على حساب الطرف الآخر». وعلى الرغم من الحملات الإعلامية التي نفخت في أبواقها لكل من كامب ديفيد 1978 وأوسلو في عام 1993 فإن شعوب المنطقة بعيدة جداً من العيش بسلام.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.