وما أدراك ما شام الأمان.. إنها بقعة من جنان وأسطورة زمرد ومرجان.. فيها للحضارة مجامع وللأدب قلاع وللتاريخ معلقات طوال ودرر من آثار تضعك حيال الدهشة فتغرق بدافئات الذهول الحار وتقول: حقيقة يا شام أنت الأصالة العنقاء الورقاء وأنت وسام العروبة ومربط الآمال.. أنت من ناجاك العز كل زمان ورفرف وهج الأمان على روابيك الحسان.

يا شام يا من سلبت عقولنا يوم لم يكن هناك فاسق يسرق أعظم رسالاتك الإنسانية ليحيلها بمصانع الغدر إلى لهب ونار يكوي بها شمالك وغربك والشرق العنيد فيك لا يبالي ويسافر إلى الجنوب، وملاحم الصمود تقول هيّا الى تطهير الشام من غلمان الباطل وكل استعماري قاتل سواء أكان بربرياً أم فرنسياً وميسلون تشد وثاق النضال على أكتاف الرجال ليطردوا الغزاة، والغزاة لهم باع طويل في تعديات جسام على بلاد صعبة المنال وباغيهم لا حياة له بالشام وما لئيمهم بباق في مهاد الطهر والسلام.

يا شام.. يا حاضنة دمشق سوار الياسمين ويا سارحة بحلب لتلال الفستق، والزيتون في إدلب الخضراء يخيم كالبهاء على أقصى البلاد.. يا من أنجبت معاني الوئام، ونخوة الأطهار تكمل المشوار ونواعير حماة تغني للوفاء وعلى الساحل تموج حمية الأحرار، مؤكدة أن الشام ابنة الخلود أما الشرق فمن بواباته عبرت أمجاد الشام بسحر مهيب إلى أقاصي الكون حين كانت دمشق عاصمة الارتقاء وأمّ الحضارات وكانت قوافيها البديعة تنظم في غرناطة وطليطلة أجمل الأشعار لتستفيق من سبات الجهالة على وقعها الأخاذ كل أوروبا الغارقة حينها في غياهب الضلال ومعسكرات الظلام هي السلطان.

أما دستور الشام الإنساني النقي فما بخلت به بل فرشته على مطارف الأرض لمن هبوا بعدها من أعماق السبات لينسفوا كل القوانين التي تضبط حياة البشر بمنظومات التطور والرقي والأمان وراحوا ينتجون العلم ليس لأجل صناعة إنسان عصري ضامن لحقوقه وممسك بكرامته التي تأخذه للرفاهية والرخاء.. لا.. فمصالحهم سرعان ما تداخلت وأفرزت نظريات الهيمنة والاستعمار.

فهل بعد ما قلته لا أحن الى شام المجد الى صانعة الرجال وواهبة الآمال ورافعة العرب لأبراج الوجود يوم لم يكن لأحد من دول العالم وجود.

كانت الشام في ذلك الحين محج علم ومعرضاً لأفخر الصناعات، كانت تعيش ازدواجية العطاء ففي داخلها ينمو البهاء وسفارات نورها تسكب القيم الحضارية بسخاء على كل فاقد دراية وغارق في بحار اللا نضج والظلام.  

وأسأل: من يقول في ذلك غير مقال.. من لا يذكر ما نهض فيها من عمران وما ولد بين ظهرانيها من مراكز علم ومعاهد لحفظ القرآن.

أنا أقول بعض ما قاله التاريخ في أعظم بلاد حين امتلكت كل سحر يفوق الخيال.. فالحور في دمر كما قال أحمد شوقي كواشف عن ساق وولدان والشمس فوق لجين الماء عقيان وحواشيها الزمردية بعض من جنان وما هي إلا بلاد الاستثناء والجمال الفتان..

 أما نزار قباني فقد رأى فيها مسارح إبداع انحنت لها هامات أهل الأشعار فقال أجمل قصائده المخملية عن دمشق البهية..

 الحنين يا شام يتملكني.. يصنع أطواق فخار أزين بها الليل والنهار.. والحنين عاطفة امتنان إلى مكان أكرمك وأعز شأنك.. أهداك فرحا وباقات ورد وزنبق في كؤوس السلام.. الحنين لا يكون إلا لمن أحبك ومهر صفحات روحك بتواقيع شهباء فيها كرامة ونقاء وحن حنينا كما جاء بمعجم اللغة والأعلام، أي اشتاق واستحن الشوق فلانا استطربه، والحنان الرحمة وحنانيك يا رب أي رحمتك ورزقك..

والحنين للبلاد أقسى ما يتعرض له الإنسان حين يغادرها للدراسة والعمل.. اليوم الحنين امتحان للرجال وعواطف الأجيال، اليوم من يكون في حمص يرنو إلى (عاصيها) بما يدفعه لزيارة حلب والعاصي معه يروي أراضيها بحنان لأنه لا يطيق عطش ساكنيها لو خسفت تركيا منصة الفرات وما حواليها.. ودمشق العشق قد ترسل في مواكب الشوق قلاعها الى الساحل العاجي لتشرق مباهيها.. اليوم قد يأخذنا الحنين إلى درعا لنسرح بمدرجات بصرى ومنهما نشتم رائحة الوداد في أبناء العم.. أليس هذا هو دفء الحنين؟؟

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.