كلّ الوجوه قابلة للتشويه...غادروا وجوهكم قبل أن يمسك بكم الفنّ التشكيلي...




يعود فنّ البورتري أو رسم الوجوه الى زمن بعيد من عُمّر البشر، إلى كهوف الحضارات القديمة حيث وقع نحت تماثيل للآلهة أو وجوه لبشر أو هيئات لكائنات أخرى..لكن ثقافة الوجه لم تبدأ رسميا إلاّ في وقت متأخّر مع عصر النهضة الايطالية بحيث يصحّ اعتبار الجوكندا ( 1503-1506) أوّل وجه حديث صار بوسعه أن يبتسم دون أن يخشى وصايا اللاهوت ضدّ ابتسامته. ماذا تخفي الجوكندا في ابتسامتها؟ ربّما كانت تخبّئ اسم الوردة الذي هو اسمها الخاصّ أي فلورنتين..أو هي تسخر من كل الوجوه الأخرى التي سبقتها إلى اللوحة وانسحبت بمجرّد ابتسامة جامدة..لكنّ ابتسامة الجوكندا هي الأخرى انسحبت منذ سقط العالم في عنف النازية والفاشية والحرب اللامتناهية. فصار فنّ البورتري يشتغل على هزم الوجوه والفتك بها وتشويهها. تلك هي المسافة التشكيلية الفاصلة بين عالم يجعل الابتسامة التشكيلية رمزا له وعالم يتّخذ من الوجوه المشوّهة وجها له.. وفي الوقت الضائع بينهما ربّما يكون العالم قد انهار كي لا يترك وراءه غير مفاعيل لحمية وتوتّرات وأعضاء متناثرة بلا شكل يحميها..لكنّ انهيار عالم الشكل خلّف وراءه منطقا جديدا للإحساس أي مفعولا بصريا جديدا ومنطقة أخرى لرسم مغاير للرسم التقليدي. في عالم فقد وجهه من فرط فظاعة مشاهد الرعب فيه يشتغل الفنّ التشكيلي المعاصر على رسم تشوّهات الوجوه بدلا عن تجميلها..ذاك هو الإحساس الذي التقطه الفيلسوف الفرنسي مؤوّلا لوحات الرسّام البريطاني المعاصر (1909ـ ـ 1992) رسّام القساوة والرعب.




مع الرسّام الانقليزي فرنسيس بيكن لم يعد المخطّط مفعولا بصريا ولم تعد الصورة جوهرا بل صارت عرضا ..وصار المخطّط منطقة محمومة لم تعد فيها اليد تنقاد بتوجيه من العين بل صارت تفرض نفسها على البصر بوصفها ارادة مغايرة..في هذا الفضاء اللمسي للوحة تتقدّم اليد نحو القماشة مؤلّفة اضطراب الورقة على نحو إرادي..إنّ في الأمر كارثة تشكيلية أشدّ عمقا حيث يكون العالم البصري والعالم اللمسي قد كُنّسا ولم تبق غير “عين الإعصار” تُعيّن سكونا أو توقّفا أو عطالة ترتبط بأشدّ اضطرابات المادّة ويصير الرسم ضربا من السكون المحاط بالحياة في أشدّها وفي شواشها و فوضاها واضطرابها ..ههنا يتكوّن العالم اللمسي ويتكاثر ويتكثّف من العلاقات بين الألوان وتوتراتها ونضارتها وبرودتها وتوهّجها. ههنا في منطق الإحساس وحيويته يصير الضوء زمنا للوحة..في حين يقتحم الرسّام فضاء الرسم بريشته وميولاته الخاصة الخطية واللمسية وبفوضى حواسّه وسورة أهوائه..كل شيء يصير مرئيا في الرسم : الضوء واللون والانفعالات والميول والخطوط والمزاجات وكل انحرافات الرسم.. ثمّة داخل هذا الفضاء اللمسي، الذي تلمسه العين لأنّ العين هي التي ترسم في تواطؤ خفيّ وغامض مع اليد، لوحة لم تعد تروي أيّة حكاية ولا هي علامة على عبقرية..ليس وراء اللوحة أيّ خالق.. لم يعد الرسم ذاكرة لأحد..




داخل هذا المنطق الجديد للإحساس تتداخل الصيرورات مع الرسومات والرسومات مع حركات اليد ولمسات العين وسرعات اللون وكثافة الخطوط..في هذا الفضاء التشكيلي تتشابك اليد واللمسة والريشة والقلم..إنّه المحسوس بذات حسّه.. بلا محاكاة ولا تمثيل ولا ثنائيات للنسخة والأصل.. تدفع بنا قراءة دولوز لفنّ الرسم من خلال كتاب منطق الإحساس الى تصوّر حيوي مضادّ لكل تصور عدمي سالب لفضاء اللوحة..فاللوحة لا تجسّد ولا تحاكي ولا تمثّل .انّما تمسك بالقوى الحيوية..إنّ الرسّام لا يفعل شيئا آخر غير رسم الإحساس..وهو ما يعثر عليه دولوز في لوحات بيكن من أجسام معذّبة ومفاعيل لحمية..ومن أحصنة للجرّ أو من مرايا ذات ثلاثة أبعاد ..ما يقصده بيكن ليس صدمة المتفرّج بل تعنيف الإحساس بوصفه شرطا للإبداع حسب دولوز نفسه ..وذاك هو معنى إدراك القوى والإمساك بها وهي في سورتها وحيويتها بدلا عن تثبيت الوقائع على صدر اللوحة..إنّ رسم القوى هو إذن ما يعيّن دلالة الرسم حيث لا ننتظر من الرسّام أن يمنح شكلا للأشياء بل على العكس من ذلك عليه أن ينزع عنها كل شكل ..ههنا يبدو الإحساس سيّدا لتحرير اللوحات من الأشكال بل لتشويه الشكل وخروجه عن مساره الأصلي واختراع مسارات جديدة وأشكال طافرة وقوى حيوية وصيرورات مغايرة ..ليس ثمّة في الرسم أيّ قصص بل ثمّة أحداث تشكيلية..شيء ما يحدث على فضاء اللوحة، شيء ما يمرّ وينفلت هو انبثاق للمحسوس في حيويته وليس في نسخة باهتة منه..




ثمّة منطق ما للإحساس يعثر عليه دولوز في رسومات فرنسيس بيكن. نحن أمام نمط جديد من الرسم : لوحة تطارد الطابع التشكيلي والتجسيدي والسردي. إنّ فنّ الرسم كفّ في لوحات بيكن عن أن يكون تشكيليا ولا تمثيليا ولا حتى سرديا. إنّ اللوحة لا تمثّل ولا تجسّد ولا تقصّ أيّ قصّة. نهاية السرديات الكبرى والصغرى معا. يقول دولوز :“ليس للرسم نموذج كي يمثّله ولا تاريخ كي يقصّه” (1). ليس ثمّة في اللوحة غير علاقات بين الأشكال لا هي تمثيلية ولا تشكيلية ولا قصصية، ذلك أنّ بيكن “لم يكفّ عن رسم أشكال في حالة تزاوج، لكنّها لا تحكي أيّ حكاية”. ليس ثمّة قصّة ثمّة أشكال معزولة فوق الكرسي أو فوق الفراش أو فوق الأريكة..داخل الدائرة أو داخل متوازي السطوح. هي أجسام معزولة تجلس القرفصاء..ذاك كلّ ما ثمّة في اللوحة..ما تبقى من اللوحة جملة من الإمكانات التي سيقع تعطيلها سلفا من قبيل المشهد الطبيعي أو الأرضية اللونية ..لا مكان في لوحات بيكن للمشهد ولا لعمق لوني ولا لأيّ شكل مهيّئ لاحتضان بقية الأشكال..إنّما يتعلّق الأمر “بملامح لادلالية محرومة من الوظيفة التجسيدية”(2) .




في كتابه فنّ المستحيل يكتب بيكن ما يلي :“حينما فكّرت في لوحاتي كما لو كانت نحوتات، خطرت ببالي فجأة الطريقة التي وفقها يمكنني أن أجعلها في فنّ الرسم رسومات.. سوف تكون نوعا من الرسم المنظّم الذي تنبثق فيه الصور كما لو كانت تنبثق من بحيرة لحم. إنّ هذه الفكرة ذات إيقاع رومنسي فظيع، لكنّي أرى الأمر على نحو صوري تماما...سيكون ثمّة أشكال متعدّدة..سيكون ثمّة بلا ريب رصيف يعلو أكثر ممّا يعلو في الواقع، وفوقه يمكن أن تتحرّك نحو من قطع اللحم التي تعلوها الصور، وإن أمكن أناسا معيّنين يقومون بجولتهم اليومية. إنّي آمل أن أرسم أشكالا تنبثق من لحمها الخاص بقبّعاتها المستديرة ومطريّاتها..وأن أجعل منها أشكالا حادّة وموجعة بقدر عملية الصلب”(3) 




ليس ثمّة رسم على فضاء أبيض. ينبغي القطع مع كل اكليشيات سابقة على الريشة .يقول دولوز: “من الخطأ أن يعتقد المرء أنّ الرسّام يشتغل على فضاء أبيض وأعذر. إنّ مساحة الرسم محتلّة سلفا بكلّ أشكال الاكليشيات التي ينبغي القطع.
ركح هستيري وألعاب قوى وأجساد تجهد نفسها كي تتحرّر عبر عضو من أعضائها ..لكن لماذا الهروب من الجسد؟ يجيب دولوز : من أجل الالتحاق بالبنية المادية..




مع بيكن ”كلّ الرؤوس مهيّأة للتشويه“كما يحدث في لوحة autoportrait de 1973 أو الإنسان ذو رأس خنزير ..على عين المكان يقع التشويه...يمكنك اختيار حيوانك المفضّل كي يكون لك وجها...نتحوّل إذن من الجسد المعزول إلى الجسد المشوّه ..فحينما يغادر الشكل مهمّته التشكيلية يصير الى جسد مشوّه الشكل..ليس الشكل شيئا آخر غير الجسد نفسه..لكنّ الجسد هنا شكل فقط أي ليس ببنية..وذلك يعني أنّ هذا الشكل الذي أصبح جسدا ليس وجها ولا يملك أيّ وجه..للشكل رأس بل يمكننا ردّه الى مجرّد رأس..فبيكن بوصفه رسّام بورتريه”هو رسّام رؤوس وليس برسّام وجوه“(4). ثمّة فرق شاسع في اعتبار دولوز بين رسم الوجوه ورسم الرؤوس : فالوجه هو تنظيم فضائي، في حين يغدو الرأس تابعا للجسد..بل هو روح بوصفه جسدا، أي روح حيوانية..الرأس هو بعبارات دولوز”الروح الحيوانية للإنسان“: روح خنزير أو روح ثور أو هو روح كلب أو روح خفّاش..




من هنا نفهم كيف أنّ رهان لوحات بيكن هي بالضبط الفتك بالوجه وهزمه وتشويهه والتنكيل به لأنّه وجه التنظيم ووجه الجهاز ووجه النظام والنسق والمؤسسة. لذلك يبدو أنّ بيكن يرسم دوما من أجل العثور على رأس ما تحت الوجه أو من أجل إعادة إحيائه..وهو ما يكتبه دولوز بالحرف الواحد :”إنّه مشروع خاصّ جدّا يتّبعه بيكن بوصفه رسّام بورتريه : هزم الوجه العثور على الرأس أو جعله ينبثق من جديد تحت الوجه(5)“ .وهنا أيضا تظهر عمليات تشويه الوجه في كل مرّة :كيف أنّ الوجه يضيّع شكله تحت عمليات التنظيف وضربات الفرشاة التي تشوّش نظامه وتجعل ظهور الرأس بدلا عنه ممكنا..بيكن يراهن على رؤوس بلا وجوه أو هو لا يترك للوجه غير قسماته الدنيا. ويصير حينها ممكنا على صدر اللوحة أن يقع استبدال رأس الإنسان برأس حيوان..لكن الحكاية لا تتعلق بمجرّد تعويض رأس بآخر..فرأس الحيوان ليس شكلا بل هو ملامح وقسمات وضربات فرشاة أو هو ارتعاشة عصفور تحلّق فوق المساحة الممسوحة الخاصّة بالريشة العابرة..في حين تلعب ظلال بورتريات الوجوه من جهة أخرى دور الشاهد فقط.




 




في هذا الحقل الطقوسي للرسم يحدث أن تقع”معاملة كلب واقعي بوصفه ظلاّ لسيّده، أو أن يتّخذ ظلّ الإنسان هيئة وجود حيواني مستقلّ عائم وغير محدّد. كأنّما الظلّ يهرب من الجسد ههنا مثلما يهرب حيوان ما نرعاه في داخلنا“(6). إنّ ما يرسمه بيكن ليسمجرّد تطابقات شكلية بل نحن ازاء حقل غموض ومساحة إبهام بين الحيوان والإنسان. فالإنسان يصير حيوانا لا في معنى هويّة جديدة بل في معنى”نوع من التزاوج بين الإنسان والحيوان ..لقاء مشترك“(7). إنّ اللحم هو موضوع اللقاء بامتياز بين الإنسان والحيوان. يكتب دولوز في هذا المعنى أنّ في الأمر ضرب من”الشفقة على اللحم ..ليس ثمّة أيّ شكّ في أنّ اللحم هو موضوع شفقة بيكن بامتياز“...لكنّ اللحم هنا ليس لحما ميّتا، بل هو لحم يُحافظ على كلّ الآلام ويحمل فوق جلده كلّ ألوان اللحم الحيّ..الكثير من الآلام والهشاشة، لكن مع الكثير من الإبداع الجميل وألوان وألاعيب بهلوانية”(8).




إنّ بيكن لا يشفق على الحيوان تحديدا إنّما شفقته هي شفقة على كلّ انسان يتألّم. فكلّ انسان يتألّم هو بالنسبة إلى بيكن لحم. هكذا يكون اللحم هو موضع اللقاء بين الإنسان والحيوان. هذه الحالة هي تحديدا الحالة التي يلتحم فيها الرسّام مع موضوعات فزعه وشفقته..




أن ترسم الإحساس معناه أن تسجّل الواقعة. لكن لا أحد يعلم تحديدا “لِم يلمس رسم ما مباشرة الجهاز العصبي”. الرسم يشوّه الجسد لذلك هو لا يحكي حكاية..بل هو يصرخ. إنّ كل شكل يرسمه بيكن هو إحساس متراكم أو هو متخثّر كما في شكل الصلصال. وذاك هو معنى شعار بيكن :“لقد أردت رسم الصراخ بدلا عن الرعب”. كل رسومات بيكن تحيّد الإحساسي وتتناقض مع التشكيل. إنّه بذلك يطرح جانبا كل ما يثير الرعب..فحين يرسم بيكن مثلا “البابا يصرخ، فلا شيء في رسمه يثير الرعب”، فهو يرسم الستار كي يعزل صرخة البابا، وذلك كي يمنعه من أن يُرى، ويجعله كما لو كان “يصرخ قبالة اللامرئي” (9). إنّ الرسم ههنا يحمل كل العنف الذي تعيشه الأجساد كقطع لحم، كأوجاع عارية،كدماء تتألّم..إنّه يرسم كتلا من اللحم أي ما تبقى من البشر في ساحة حرب فظيعة...




يقول دولوز : “إنّ بيكن يحمل في ذاته كل عنف ايرلندا، وعنف النازية وعنف الحرب. إنّه يمرّ من رعب الصلب، وخاصّة من قطعة الصلب، أو الرأس – اللحم أو الحقيبة النازفة”(10)..




إنّ الرسم لا يصلح إذن للحكي بل يصلح للصراخ. والصراخ يصلح لعزل الصرخة ومنعها من العيون..لا أحد يتماسك أمام الصراخ..لا أحد سيبقى في رتبة المتفرّج..الصراخ ليس بثّا للرعب إنّما هو إحساس في سورته. لأنّه طالما ثمّة رعب ثمّة حكاية تُحكى. وكلّما ثمّة حكاية كلّما ضيّعنا الصرخة. فالحكاية تفترض ذاتا تحكي بدلا عن جسد يُحسّ. والحكاية تفترض معنى أو واقعا نحكيه فنشكّله أو نجسّده أو نتخيّله أو نبكيه. الإحساس ليس شعورا. لأنّ الشعور ذاكرة وتاريخ وقصّة. إنّ العنف في الرسم ليس عنف الحرب. وهنا يذكّرنا دولوز بمفهوم القساوة لدى أرتو: “إنّه مثلما الأمر لدى ارتو : القساوة ليست ما نعتقده، ونادرا ما ترتبط بما يقع تمثيله”.




ليس ثمّة مشاعر في لوحات بيكن. ثمّة أحاسيس أي غرائز تداعبنا مرّة وتفترسنا مرّة أخرى. إنّه المرور من إحساس إلى آخر..لا شيء غير سلسلة من الحركات من أجل البحث عن أفضل إحساس. لكنّ مقياس أحاسيسنا القصوى ليس كمية المتعة إنّما هو الإحساس الذي يملأ الجسد -اللحم في لحظة هبوطه أو تناقضه أو تمطّطه. ثمّة ضرب ممّا يسمّيه بيكن نفسه من “منطق الحسّ” في فنّ الرسم. ما بين لون ما وذوق ولمس ورائحة وضجيج وثقل..هناك نوع من “التواصل” الذي يعتبره بيكن بمثابة “منطق الحسّ” أي لحظة غير تمثيلية للإحساس نفسه.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.