أشباح ((Ghosts: عشرات وعشرات الأشكال وقد قدّت من ورق الألمينيوم، منحنية على الأرض، كأنها تنبثق عن جيشٍ من الظلال، حيث الخيلاء تُنازع الفراغ..والنور يستنفدُ لعبة الخفاء/التجلّي كرقصة صوفيّة... أشكال مصطفّة كجنود صغار يخرجون من ألعاب الطفولة، منتظمة في رتابة تنحني أمام إلهٍ مجهول... ألوهية مجهولة وجدار من الصمت..



أشباح... أوراق من الألمنيوم كتلك التي نستعملها في المطبخ لتغليف الأطعمة، وهي بوجهين: وجه خارجي لامع وذو بريق، ووجهُ داخليّ شاحب ومظلم، نسمّيها أحيانا بحكم لونها أوراق الفِضّة، كما أن استعمالاتها المنزلية تحيل إلى الفاقة بقدر ما تكشف عن البذخ..
أشباح... المواد رقيقة والتمثال خفيف والستار معدني. إنه لبواسطة القولبة والتشكيل، وبتكرار الحركة؛ تكاتلت هذه الحشود الشيّقة بتواتر، هنا تنتج اليد لمرّات عديدة هذه الشخوص الغريبة، وكأنها تداعبها بشرود لكن بحنان، كأنها حافّة معروفة أو حبل مألوف كان ذلك في “مجسّم مدينة ليل” حيث بلغ عدد الجنود خمسمائة وستين..



أشباح.. وقد اختفى الجسم وتلاشى الجسد.. ولم يعدُ الوجهُ إلا ثقبا غائرا في ظلامٍ بهيم، أما الأنوثة فيبدو أنها لا تسكن إلا تحت الغطاء الاصطناعي لتساؤلٍ، هو في العمق، كل أولئك اللواتي يمكن أن يكنّ هنا، فالتشيّؤ قد طال كل أنوثة وطَمسَ وجهُ المُختلفِ فيها وأحالهُ سواداً.



هو العمل الأساسي للفنّان التشكيلي الجزائري قادر عطيّة، Kader Attia فنّان بصيت عالمي يعيش بين الجزائر العاصمة وكاسّل (ألمانيا). يتعمّد قادر في تجهيزاته الفنّية الاستناد على مقولات الفراغ، والتكرار، والصّدى والهشاشة بدءا من المواد التي يستعملها. تحاول الأعمال التشكيلية للفنّان الفرنكو-جزائري “قادر عطيّة” تشكيل رؤية العالم، على أنقاض العالم المتصدّع والمتهاوي، عالمنا المثخن بالتهميش والمركزيات النرجسية، والكليشهات الهووية، والمهصور بالضيق، ضيق الأفق والرؤية الذي يورّثه التعصّب للانتماءات والقناعات الأحادية. تقوم أعمال “قادر عطية” كلّها على المحاكاة الساخرة للمظهر، واستفزاز المشاهد، لا تمتلك التجهيزات والتماثيل والجدران والبانوراميات التي يشكّلها أو يثبتها أي محتوى خاص، أو امتلاء، بل هي كلّها تجسيدا للفراغ، يسمّيها أيضا “شاعرية الفراغ” يفعل ذلك على درب الفيلسوف الصيني (لاو تسو) حين يقول: “هكذا يبني الإنسان الأشياء، لكن الفراغ هو ما يمنحها المعنى”. إنه يحاكي بؤس العلامات التي تشكّل عالمنا، أكثر من ذلك يتقصّد الفنان استعمال المواد المبتذلة والمستعملة في الحياة اليومية، وحتى النفايات في تشكيل أعماله: (أكياس بلاستيكية، ورق الألمينيوم، براغي، سلاسل حديدية، براميل نفط، قوارير الجعة).. لا شيء جوهري يمكن أن نخرج به من التأمل في وجود-العالم.



لا يقدّم قادر عطية نفسه بوصفه فنّانا بل بوصفه “باحثا فنّيا” أنه يحاول تقديم الرؤى الفلسفية بتحويل النظرية إلى إنشاء فني، إلى تشكيل وتجهيز installation)،(. ولهذا فأعماله ليست منحوتات ولا ألواح، إنها ليست أعمال أو تحف فنيّة بالمعنى الكلاسيكي، بل عروض تشبه عروض المسرح، إنشاءات زائلة وآبقة، لا تخلّد إلاّ في ذاكرة المتلقي. ولهذا يتجنّب “قادر عطية” استعمال المواد الصلبة والخالدة التقليدية مثل الرخام أو الجص أو البرونز أو الغرانيت، التي تستعمل عادة من طرف الفنانين الكبار لتخليد التماثيل والرؤى. يرى “عطية” أن هذا النزوع التقليدي إلى الخلود والصلابة المؤبّدة للرؤى الفنية تكشف عن نزعة ميتافيزيقية ودينية في “تجاوز الموت بالمرمر”، وهي مركزية انسانوية تحرّف عمل الفنان عن الالتزام السياسي والحقوقي الذي تتطلبه الدنيوة والنضالات السياسية من أجل الحرية والعدالة. في عمل “زيت وسكّر” Oïl and Sugger مثلا، يعرض “عطيّة” فيديو من أربع دقائق ونصف، لمشهد كعبة تمّ إنشاءها بقطع السكر البيضاء تتهاوى فوق طوفان الزيت الأسود، يحاول العمل من خلال هذا المشهد فكفكة التحالف الهشّ الذي نشأ بين النفط والدين في العالم الإسلامي، والمهدد في كل لحظة بطوفان ما (ربما تهاوي أسعار النفط).. لا يمكن للفن إذن أن يبقى مثبّتا عند حدود العالم-الأبدي والصلب كما في الأعمال الكلاسيكية، بل عليه أن يحتفي بالأحرى عن العلاقات الآبقة والعرى الهشة والمتهاوية في كل لحظة، والتي هي علاقات عالمنا المعاصر.



على الفن أن يختبر أصالة الوجود-في-العالم، ويرسي بحوثه في قلب هذه العلاقات التاريخية/التزمّنية التي تؤسس هذا الوجود، في أعمال “قادر عطية” نجد هوسا بـ“المدن الهشّة” التي يتكلم عنها سارتر في “الوجود والعدم”، يتعمّد “عطية” استعمال المواد الأكثر هشاشة بل وما ينتهي صلاحيته من الأغلفة والصفائح القصديرية، بل نجده في تشكيل مدينة “غرداية” (في الصحراء الجزائرية) بمعمارها المميّز، يستعمل دقيق الكسكس في بناء معمار المدينة. إن مدينة معزولة عن العالم في الصحراء قد تنهار كجدران من سميد الكسكس في عالم معولم كعالمنا.



“...خلّص حُبّكَ من الخيرات الزّائفة التي تخسرها، ولتُعجب بالصدى الذي أعجب فيتاغورس، ولتصيخ السمع معه إلى الجوقة السّماوية.” هذه أبيات من “التأملات الشعرية” تبرز لنا كيف يتعاطى “لامارتين” مع الصّدى كدعوة بالإقبال، الصدى هو الحورية التي تبكي وتشتكي من نرسيس، هي ابنة الهواء والأرض.. ثرثارة وفرِحة فقد أُتّهِمَت من طرف “هيرا” التي شتت الانتباه، بمحاباة شغف زوس، ولمعاقبتها فقد حرمتها الآلهة من كل قدرة على الكلام، ومن كل امكانية للضّحك، ولا تستطيع بالتالي إلا ترديد ما تسمعه والجواب على الأصوات التي تناديها، لامرئّ هو الصدى وليس أكثر من صوت، مسكنه الأشجار والغابات، ومن أجل البدء الأول يكون الصدى شهرزاد العصور القديمة.. تحب أن تحكي قصصا آسرة وهو ما اقتربت منه “هيرا” بلا شكّ، لكن ليس فقط لأن الصدى يحب أن تكون له الكلمة الأخيرة.. 



لهذا نجد “أوفيد” « Ovide » يصفه هكذا: “أمام محاورٍ؛ لا يعرف لا الصمت ولا البدء بالكلام؛ إنه الصدى” الرّجع المتصادي. إلى غاية ذلك العصر كان الصدى جِسماً، و ليس مجرّد صوتٍ، ورغم أن تلك الثرثرة لم تكن تستخدم فمها بصورة مغايرة عن اليوم؛ فلم تكن تقوى إلا على تكرار الكلمات الأخيرة من جملة طويلة“.. يقع مسخ الصوت إلى جسم، والجسد إلى كلمة في قلب السردية، فطالما الحوريةُ تدرك أن نرسيس متخفيا، وتحترق حبّا من أجله، فلا يمكنها الشروع في شيء لقد تساءل نرسيس: هل هناك أحد؟ ولا نعرف أيتعلّق الأمر بشخص أو بشيء، لأن نرسيس في نهاية الأمر لم يرى أحدا، اعتقد أنه آخر وهو يحلم أمام صورته المنعكسة على صفحة الماء، ربّما لم يستيقظ من سباته (Narkè).


بالنسبة لمعرض (فياك Fiac 2009) اقترح”قادر عطيّة“تثبيت صنجات الطّبل (cymbales) فوق الحوض الكبير مثمّن الشكل لحديقة”مصنع القرميد“(Tuileries)بباريس، وقد قدّم هذه القطعة بهذه الكلمات:”الصنجات ستترصف مقلّدة الرّجع الصوتي الخاص بها، والأصوات التي تحدثها قطرات المطر أو الريح، ستكون أحيانا منحوتاتُ مرفوعةً إلى الجليل بواسطة التجربة، أو الطبيعي الذي يتعالى بالثقافي..إن ما يهمني هنا هو التساؤل والتسامي بإشكالية القاعدة والنظام، من خلال عمل يخلق علاقة مع الجمهور بواسطة الهواء والرّوح.“يقول عطيّة. حبّات المطر مطارقٌ رقيقة لكنها متينة تصدر الضربات، فثمة من آلات الموسيقى بعدد أيام السنة، غابة من المطريات والمظلات الصوتية، كل مادّيتها عصية، فالتصادي هنا مضاعفٌ واقعيا وفنّيا، في الحقل المربّع لحديقة حضرية. ولأن التثبيت ينعكس على الماء فنرسيس يقيناً ليس بالبعيد..
إن ما ينوي هذا التقريب أن يسوقه هو النسيج الخفيّ لعمل”قادر عطيّة" ذلك التماثل بين تصويت الصنجات وصمت التشكّلات الآبقة، إنه جهد من أجل انتزاع المعنى من عالم الأسعار، النداء إلى التغيير (الكتابة ربّما؟) فنّان تشكيلي يجعل من المرئي امتدادا لفعل الكلام النصّي.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.