لوحة الوصيفات (1656) لفيلاسكاز وتُعرف أيضا تحت عنوان “عائلة فيليب الرابع” هي لوحة معروضة حاليا في متحف برادو بمدريد. وقد وقع اعتبارها من أهمّ اللوحات العالمية التي أثارت بغموضها ولغزيّتها القراءات الأكثر تنوّعا في تاريخ فنّ الرسم الحديث.
فما هو سرّ هذه اللوحة؟ لا شيء غير الرسّام يرسم نفسه وهو يرسم. كلّ المشهد سيتبخّر في فراغ تلك المرآة التي تستقرّ في وسط اللوحة.


لقد اختار فوكو أن يفتتح كتابه المشهور “الكلمات والأشياء” بلوحة الوصيفات لفيلاسكاز. ما علاقة الوصيفات بالاستقصاء الأركيولوجي الذي يقوم به هذا الكتاب لابستمية الثقافة الغربية الحديثة؟ علينا أن نشير إلى أنّ “الكلمات والأشياء” يبدأ من ضحكة فوكو على نصّ كتبه بورغيس يستشهد بموسوعة صينية تصنّف الحيوانات تصنيفا غريبا إلى :“أ) يملكها الامبراطور، ب) محنّطة، ج)داجنة، د) خنازير رضيعة، ه) جنّيات البحر، و) خرافية، ز) كلاب طليقة، ح) ما يدخل في هذا التصنيف، ط) التي تهيج كالمجانين، ي) حيوانات لا تُحصى، ك) موسومة بريشة دقيقة من وبر الجمل، ل) إلى آخره، م) التي كسرت الجرّة لتوّها، ن) التي تبدو من بعيد كالذباب” (1).. إنّ ما كان يضحك فوكو إنّما هو دفاع بورغيس عن هذا التصنيف الغرائبي للحيوانات. تلك ضحكة فلسفية تزعزع كل تقاليد الغرب في ممارسة العلاقة بين الأنا والآخر. وذلك “للاستحالة العارية أن نفكّر هكذا”...فوكو يتساءل “ماهو إذن ما يستحيل تفكيره؟” ويجيب “إنّ ما هو مستحيل ليس تجاور الأشياء وإنّما الموقع نفسه الذي يمكن أن تتجاور فيه”(2). ذلك أنّ هذه الحيوانات لا يمكن لها أن تلتقي أصلا، إلاّ في الصوت غير المادي الذي يلفظ تعدادها، إلاّ

على الصفحة التي تدوّن هذا الصوت، وأين يسعها أن تتحاذى إن لم يكن في لامكان اللغة؟.. إنّ ما تزعزعه فكرة فوكو هنا هو هذه العلاقة بين الكلمات والأشياء التي فرضها نظام التمثيل الكلاسيكي وإرادة الحقيقة الحديثة التي تعتقد أنّ العقل الحديث قد حقق تقدّما في حين أنّ الأمر يتعلّق “بصيغة وجود الأشياء والنظام الذي يوزّعها ويقدّمها للمعرفة، كانت قد تغيّرت بشكل عميق” (3).

ضحكة فوكو من بورخيس هي ضحكة سيمتدّ صداها إلى لوحة الوصيفات لفيلاسكاز بوصفها البراديغم بامتياز لتمثيل عصر التمثيل. لوحة تحمل لغزها معها وتخلخل كل ثوابت العقل الحديث : الرسّام والمتفرّج، الكلمات والأشياء، الملكة والوصيفات،..المرئيّ واللامرئيّ..النظرة وهي تحدّق في الفراغ...ما أراده فوكو هو تحرير مشهد الرسم برمّته من كلّ العادات الحديثة في علاقة الذات بالآخر والنسخة بالنموذج والرسّام بالمتفرّج...تحوّل عميق سوف يسجّله فوكو على سطح لوحة الوصيفات: وصيفات فيلاسكاز ليست هي وصيفات فوكو...ثمّة الرسّام الذي يرسم نفسه لكنّه يتراجع عن لوحته..لحظة التردّد بين رأس الفرشاة الماهرة وفولاذية نظرة الرسّام..فراغ يسكن بين اللوحة التي تبعثر شخوصها على سطح يتظاهر باستقرار نظامه، والألوان المتردّدة بين ما تراه وما تحدّق به..


ثمّة طلاق بين الكلمات والأشياء..تحرّر من نفوذ الذات الحديثة بكل مسرح التمثيل الذي بحوزتها : الحدود بين المرئيّ واللامرئيّ بين الذات والموضوع بين النموذج والنسخة... تهريب للرسم من النموذج إلى النظرة.. ماذا تخفي لوحة الوصيفات في نظرة الرسّام إلينا؟ لا شيء غير “هذا المكان البسيط، إنّه محض تبادل : إنّنا ننظر إلى لوحة وفيها رسّام يتأمّلنا بدوره. لا شيء أكثر من وجهٍ لوجهٍ، من عيون تفاجئ بعضها، من نظرات مستقيمة، تتراكب حين تتقاطع. ومع ذلك فإنّ هذا الخيط الرفيع من الرؤية يحتوي بالمقابل شبكة معقّدة من الشكوك، والمبادلات والتهرّب. فالرسّام لا يتّجه بعينيه نحونا إلاّ بمقدار ما نتواجد في مكان موضوعه الرئيسي، ونحن المشاهدين، لسنا إلاّ مجرّد زيادة. وإذ نستقبل هذه النظرة، فإنّها تطردنا، ليحلّ محلّنا ما كان منذ بدء الأزمنة يتواجد هناك قبلنا : النموذج نفسه”(4) .

 

داخل لوحة الوصيفات تقع زعزعة فكرة النموذج نفسه لأنّ الرسّام سيكون بوسعه أن يتقبّل “من النماذج بقدر ما يأتيها من مشاهدين”. قلبٌ للأدوار لامتناه بحيث لم يعد للرسّام وللمتفرّج أمكنة طبيعية وأوضاعا بديهية.. سيتبادلان الأدوار على طول ذاك “الخطّ الملحّ” الذي يمتدّ من عيني الرسّام إلى ما ينظر إليه..“خطّ ملحّ لأنّنا لا نستطيع تلافيه”(5) .أمّا عن المرآة “التي لا تعكس شيئا في الواقع ممّا يوجد في المكان الذي توجد هي فيه” فيطالبنا فوكو “بالتظاهر بعدم معرفة” ما ينعكس في قاعها..إنّ هذه “اللوحة كلها تنظر إلى مشهد هي نفسها بدورها مشهد بالنسبة له. إنّها محض تبادل تظهر به المرآة الناظرة و المنظورة : على اليسار القماشة المدارة، التي تغدو بها النقطة الخارجية محض منظر، وعلى اليمين الكلب المستلقي، العنصر الوحيد في اللوحة الذي لا ينظر لأنّه لم يُرسم، ببروزاته الكبيرة والضوء الذي يلعب في فروه الحريري، إلاّ ليكون غرضا يجب النظر إليه” (6)..


سيقع تحرير اللوحة من سلطة الملك والملكة، بوصفهما لا يحضران داخل اللوحة إلاّ في قعر تلك المرآة التي لا تمثّل شيئا غير الغياب “الغياب كخدعة من الرسّام نفسه”. وحده الملك والملكة يسكنان المرآة لأنّهما لا ينتميان إلى اللوحة. هذان الوجهان الشاحبان المهملان داخل تلك “المرآة المهجورة” “هما أكثر الوجوه شحوبا ولاواقعية، وأشدّها تشويها : مجرّد حركة أو قليل من الضوء يكفيان لتبديدهما، ومن بين كل هذه الشخصيات المصورة، هما الأكثر إهمالا، إذ أنّ أحدا لا ينتبه لهذا الانعكاس الذي ينزلق وراء كل الناس ويدخل بصمت في حيّز لا ينتبه له أحد. فرغم كونهما مرئيين، فإنّهما الشكل الأهزل والأبعد عن كل واقع” (7). في هذه اللوحة تقع بعثرة كل المقاييس الكلاسيكية للتمثيل أي كل وسائل الذات الحديثة في السطو على المعنى والشكل والحقيقة. وفي هذه اللوحة ثمّة وفق عبارات فوكو: “فراغ جوهري يشار إليه بإلحاح من كل الجهات : الاختفاء الضروري لما يؤسسه –لما يشبهه ولمن هو في نظرة ليس سوى شبه. إن هذا الفاعل نفسه الذي هو الذات، قد حُذف. ربّما أنّ التمثيل قد تحرّر أخيرا من هذه العلاقة التي كانت تقيّده فانه يستطيع أن يقدّم نفسه كتمثيل محض” (8)..


ههنا ستخرج اللوحة عن إطارها وستتحرر من سلطة رسّامها الذي صار هو نفسه مشهدا... لم يعد ثمّة ذات بكل نفوذها الكلاسيكي : تحكم وترسم وتنظّم المكان وتدّعي ملكية الحقيقة..تحرير اللوحة من الكلمات التي نعتقد أنّها تحاكيها ومن النموذج الذي يدّعي الرسّام أنّه ينظر إليه..لا تشابه ولا محاكاة ولا انعكاس..يقول فوكو : “عبثا نقول ما نراه، لأنّ ما نراه لا يسكن أبدا فيما نقول، وعبثا عملنا على أن نجعل الآخرين يرون بالصور والاستعارات والمقارنات ما نقوله الآن، فالمكان الذي تتلألأ فيه ليس هو المكان الذي تراه الأعين وإنّما هو المكان الذي يحدّده تتابع التراكيب اللغوية” (9).


لقد مثّلت لوحة الوصيفات في قراءة فوكو حسب عبارة دانيال أراس “تمثيل التمثيل الكلاسيكي” معتبرا أنّ نصّ فوكو عن الوصيفات “هو نصّ مشهور جوهري ومتألّق ينبغي قراءته وإعادة قراءته..إنّه نموذج للذكاء ولجمال الكتابة..لكنه نص مغلوط تاريخيا” (10).


لماذا تبدو إذن قراءة فوكو للوصيفات قراءة قائمة على خطأ تاريخي؟ يميّز دانيال أراس بين نوعين من القراءة للرسوم : الأولى قراءة تأويلية والثانية قراءة تاريخية. يقول : “إنّ كلّ نسق فوكو يقوم على المرآة التي توجد في عمق لوحة الوصيفات والتي تعكس صورة الملك والملكة التي من المفروض أن يكون الرسّام بصدد رسمها”(11)... من داخل اللوحة ينظر إلينا فيلاسكاز، إنّه يتموقع قُبالة لوحته، وعلى يمينه الذي هو يسارنا، ثمّة لوحة بصدد ولادته صحبة فريق من الوصيفات، وذلك داخل غرفة مضاءة بنوافذ على يميننا. وفوق الجدار العميق ثمّة مرآة تعكس ملك وملكة اسبانيا. والطريف هو أنّ فيلاسكاز ينتمي هو الآخر إلى لوحته بوصفه رسّاما وبوصفه مرسما. فالرسّام هو جزء من المشهد وهو نفسه بصدد الرسم والنظر معا إلى رسمه. إنّه اللوحة والمتفرّج والذات التي ترسم في آن معا.

تقوم فرضية فوكو إذن حسب توصيف دانيال أراس على “أن نتظاهر بعدم معرفة ما تعكسه المرآة” (12).

لكنّ هذه الفرضية تبدو فرضية مستحيلة حسب أراس، مادامت هذه اللوحة قد رُسمت بطلب من ملك اسبانيا وهي مخصّصة للتعليق بمكتبه الخاصّ. فمن المستحيل تخيّل أنّ ملك اسبانيا سيتظاهر بأنّه يجهل أنّه هو نفسه الذي ينعكس في المرآة. ولأنّ “فوكو قد حوّل هذه اللوحة إلى لوحة ديمقراطية، فهو ينظر إلى الوصيفات كما لو كنّ معلّقات في المتحف”. بل لقد صار بوسع كلّ منّا وفقا لذلك أن يتخيّل أنّه هو نفسه الذي تعكس صورته المرآة..كأنّما فوكو قد اقتلع الصورة من القصر الملكي وأعادها إلى مكانها الطبيعي في المتحف حيث تخلد كل اللوحات : هناك حيث بوسعها أن تبذّر خلودها في عيون العابرين.

حسب قراءة أراس ثمّة نوع من الفخّ داخل لوحة الوصيفات. هذه اللوحة التي نراها اليوم، لا يمكن فيها للوصيفات إلاّ أن يفكّرن بأنفسهن على نحو مستقلّ عمّا كان يفكّر به فيلاسكاز نفسه.. وفي الحقيقة وهو أمر ما لا يعرفه فوكو ولا يمكن له أن يعرفه، لأنّ الأمر يتعلق بآخر عملية ترميم للوحة بعد موت فوكو هو التالي : أنّ لوحة الوصيفات في الأصل ليست هي لوحة الوصيفات التي جعلها فوكو نقطة أرخميدس في الكشف عن تاريخ الحداثة الغربية. إنّ هذه اللوحة هي نتاج للوحتين رُكّبت إحداهما على الأخرى. ففي اللوحة الأولى، لا وجود للرسّام وهو بصدد الرسم. ليس ثمّة غير المرآة وستار أحمر وشابّ يمدّ عصا القيادة إلى وليّ العهد.. ههنا لوحة خاصة بالأسرة الحاكمة. وفي اللوحة الثانية ثمّة وليّ العهد والمرآة بوصفها حضورا طقسيا للملك والملكة، باعتبارهما أصل هذه السلالة الملكية.. يتعلّق الأمر “بلوحة سياسية” تقصّ حكاية العائلة الملكية، حيث يولد وليّ العهد وحيث يعود الملك للوريث الذكر لذلك كان على فيلاسكاز أن يغيّر من أمر اللوحة بناء على طلب الملك. وصفوة القول أن “ليس ثمّة لوحة تجمع بين الملك والملكة.. المرآة هي التي تغيّر من دورها”. ما فعله فيلاسكاز في حركة متملّقة للملك هو إذن تغيير القسم الأيسر من اللوحة بالنسبة لنا،

 فاقتلع الشابّ الذي يمدّ العصا وعوّضه بفيلاسكاز نفسه بصدد رسم ما يُفترض أنّه الملك والملكة. ما حدث إذن هو أنّ المرآة قد غيّرت من وظيفتها في حين حافظ الملك والملكة هذان الكائنان العجيبان، على دورهما، بوصفهما ذاتا مطلقة هي مصدر التمثيل لكنّها غير مضمونة التمثيل في آن معا.

 

إنّ لوحة الوصيفات إنّما تقترح علينا مُلحة : أنّ المرآة قد غيّرت من دورها. ففي الصياغة الأولى من اللوحة الأولى كانت للمرآة في عمق اللوحة أن تلعب دورا دقيقا : أن تعكس سلالة الملك. أمّا في الصياغة الثانية فقد صار لها دور التملّق. هكذا “وضع فوكو، رغم عدم معرفته بالتاريخ المفصّل للوحة، قد وضع أصبعه على الفخّ الأقصى للوحة الوصيفات” (13). وفي كل الحالات فإنّ ما فعله فيلاسكاز شبيه حسب عبارات أراس “بفعل الساحر”.. لم يعد الرسّام يرسم ما يرى. ولا يستطيع الملك والملكة أن يكونا هناك حيث يصيران نموذجين بصدد الرسم.. ثمّة لغز في هذه اللوحة لأنه ليس ثمّة الزوج الملك والملكة .. لكنّ الطريف في هذه الحكاية هو أنّ لغز لوحة الوصيفات ليس من صنع فيلاسكاز. وهكذا أمكن القول على لسان أراس “إنّ اللوحة نفسها تقترح لغزا غير قابل للحلّ.. وإنّه بفضل فوكو أمكننا أن نسائل اللوحة على هذا النحو”(14).

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.