تتجاوز مهمة الهواتف المحمولة توفير وسيلة للاتصال إلى لعب دور متزايد الأهمية في مجالات كالخدمات الصحية والتعليم والخدمات المالية، لاسيما في الدول النامية التي تُعاني مشكلات جمة في هذه القطاعات الحيوية.
ومثلاً في مجال الخدمات المالية، يفتقر كثيرون في الدول النامية إلى سبل بسيطة وفعالة لإدارة دخولهم كالحسابات المصرفية، والحصول على القروض، وتأسيس مشروعات صغيرة. وتُمثل الخدمات المالية عبر الهواتف المحمولة فرصةً للتغيير في بعض من أفقر مناطق العالم، إلا أنها لا تتوافر بشكل متساوٍ للنساء، الفئة الأكثر تأثيراً في رفاهية الأسرة بأكملها، ومن ثم المجتمع ككل.
وتناولت رئيسة مجلس الإدارة المشاركة لمؤسسة «بيل وميليندا جيتس» الخيرية، ميليندا جيتس، في مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، أهمية الهواتف المحمولة للنساء في البلدان النامية لما تُوفره من فرصة الوصول إلى الخدمات المالية الرقمية، وتمكينهن بشكل أفضل من التخطيط لمستقبل أسرهن وأطفالهن.
وبدأت جيتس مقالها بعرض صورة من حياة امرأة تعيش في بلدٍ نامٍ، ولا تمتلك حساباً مصرفياً خاصاً، وتضطر للاحتفاظ بمدخراتها داخل آنية أو أسفل الفراش أو إخفائها وسط الحقول، وتُواجه قلقاً مستمراً من سرقتها، وأحياناً من استيلاء زوجها على أموال خصصتها لتأمين حاجات أطفالها. وإلى جانب المشكلة المتعلقة بمكان ادخار النقود، تُواجه صعوبة إذا ما أرادت إرسالها إلى أحد أقربائها أو معارفها في قرية أخرى، وغالباً ما يُصبح حصولها على قرض في حالات الطوارئ مستحيلاً.
وقد يترتب عن ذلك لجوء مثل هذه المرأة إلى إيقاف تعليم أحد أطفالها أو بيع بقرة الأسرة التي تعتمد عليها لتحصيل دخلها، أو اللجوء إلى خيار أسوأ، وهو الاضطرار إلى الولادة في المنزل دون مساعدة طبية، نظراً لافتقارها إلى تكاليف المستشفى.
ويعني ذلك أن الخدمات المالية لا تُعد ترفاً، فغيابها يجعل الحياة أكثر مشقة وأغلى كلفة وأكثر خطراً، كما يحد من قدرة النساء على التخطيط لمستقبل أسرهن، ويظل المجتمع محاصراً وسط دوائر مُتصلة من الفقر، وعلى مستوى أوسع، تُكبح إمكانات النمو الاقتصادي للبلدان النامية.
ولذلك يسهل تفسير الأسباب التي دفعت للتبشير بنشر الخدمات المالية الرقمية في المناطق الأفقر من العالم كتقدم مهم قد يُغير الاقتصاد العالمي. وتُقدم الخدمات المالية الرقمية للعالم فرصةً بالغة الأهمية لتوفير الحسابات المصرفية لأكثر من ملياريّ شخص للمرة الأولى في حياتهم، والإسهام في إنقاذ ملايين العائلات من الفقر، وتسريع مشاركة الدول النامية في السوق العالمية.
لكن هذه الرؤية لن تصير حقيقة من تلقاء نفسها، ودون تصحيح المسار القائم فلن تتحقق على الإطلاق. ويتطلب اكتمال تأثير الخدمات الرقمية المالية وصولها إلى مجموعة مهمة من الفاعلين في الاقتصادات النامية، أي النساء. وعلى الرغم من الاتنشار السريع لهذه التقنية، إلا أنها لا تتوافر للنساء بمُعدل انتشارها بين الرجال.
وتُقدم بنغلاديش مثالاً على الهوة القائمة في توافر الخدمات المالية الرقمية بين الجنسين، إذ يفتقر أربعة من كل خمسة أشخاص في البلاد للحسابات المصرفية التقليدية، لكن الخدمات الرقمية المالية، التي تُقدمها شركات، مثل «بي كاش» bKash، غيرت طريقة إنجاز الأعمال في بنغلاديش.
ومع ذلك، تمتلك نسبة 44% فقط من النساء في بنغلاديش هواتف محمولة مُقارنةً مع 72% من الرجال، وكنتيجة لذلك، تستخدم 13% فقط من النساء الخدمات المالية عبر الهواتف المحمولة، مُقابل نسبة 33% من الرجال.
وتظهر الفجوة ذاتها بين الجنسين في البلدان ذات الدخول المنخفضة والمتوسطة، إذ تقل احتمالات امتلاك النساء لهواتف محمولة بنسبة 21% مُقارنةً مع الرجال. كما يزداد عمق الفارق في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، ويتبع الفجوة في الوصول إلى التكنولوجيا فارق مماثل في توافر الخدمات المالية.
ويتضح مدى عظم الفرص المهدرة بعزل النساء عن الاقتصاد بالنظر إلى تشكيلهن نصف سكان العالم، كما أن فوائد تمكين النساء اقتصادياً تطول مختلف الأطراف في المجتمع، ويمثلن حينها أحد أهم محفزات النمو في المجتمعات النامية، كما يلعبن دوراً مركزياً في بناء مجتمعات مُزدهرة.
ويرجع ذلك أساساً إلى اختلاف طريقة المرأة في إنفاق المال، إذ عادة ما تخصص النساء المزيد من المال لصحة ورفاهية عائلاتهن بمعدل يزيد 10 مرات عن الرجال، كما تمنحن أولوية للرعاية الصحية وتوفير الطعام المغذي والتعليم لأسرهن. وبالتالي فإن توفير الخدمات المالية الرقمية للنساء يُيسر عليهن استثمار المال لتأمين مستقبل أسرهن، وهو ما يعود بالفائدة على الجميع، نظراً لأن الأطفال الأفضل صحةً وتعليماً اليوم يُؤسسون لمجتمعات أكثر صحة وازدهاراً غداً. وتُقدر «الجمعية العامة لشبكات الهاتف المحمول» أو «جي إس إم إيه» أنه يُمكن لتغطية الفارق في ملكية الهواتف المحمولة بين الجنسين فتح سوق بحجم 170 مليار دولار في قطاع الهواتف المحمولة فقط على مدى الأعوام الخمسة المُقبلة.
ويدفع ذلك للتساؤل عن سُبل توفير هذه التقنية لأعداد أكبر من النساء. وتقول جيتس إن من بين الأمور اللازمة لذلك إتاحة المزيد من المعلومات حول الأسباب التي تُقلل من فرص النساء في اقتناء هواتف محمولة، والاشتراك في الخدمات المالية عبر المحمول.
وربما يُساعد في هذا الشأن تقرير المؤشر العالمي للشمول المالي الذي سيُصدره «البنك الدولي» خلال الشهر الجاري، وسيُتيح فهماً جديداً لطرق استخدام النساء للخدمات المالية الرقمية، وطرق سد الفجوات القائمة بين الجنسين.
كما تُحاول دول «مجموعة العشرين» دراسة السُبل التي تساعد بها خدمات الدفع الرقمية في تمكين رائدات الأعمال، وإشراك مزيد من النساء في الاقتصاد الرسمي.
وفي هذه الأثناء، تتعاون الحكومات والمنظمات غير الهادفة للربح والقطاع الخاص في إزالة العوائق الحالية، مثل الالتزام بالدفع الرقمي للرواتب والخدمات الاجتماعية، والبحث عن خيارات مبتكرة تُساعد في تيسير اقتناء الهواتف المحمولة على النساء.
كما تبحث شركات الخدمات المالية عبر الهواتف المحمولة عن سبل لجعل خدماتها أكثر جاذبية للنساء. وعلى سبيل المثال، أدت استعانة شركة «تيليسوم زاد» Telesom ZAAD للخدمات المالية عبر المحمول في الصومال بموظفات إلى زيادة نسبة النساء في قاعدة المتعاملين معها إلى 24% خلال عام واحد مُقارنةً مع 17% من قبل.
ومن شأن الاستعانة بأساليب أكثر ابتكاراً المساعدة في سد الهوة بين الجنسين، وتوفير هذا التقدم التقني المهم للجميع. ومن هنا ينبغي لكلٍ من قطاع التكنولوجيا والتنمية العالمية الاستثمار في هذا المجال.
واختتمت ميليندا جيتس مقالها بالقول: «خلال عقد من الآن، ستعتمد الاقتصادات في الدول النامية بشكل متزايد على الخدمات الرقمية المالية»، متسائلة «هل سنُقيد من نموها للجميع من خلال ترك أفقر النساء في العالم محاصرات وسط نظام الاقتصاد النقدي الذي يشهد تقلصاً، أم هل سنستثمر في مستقبلنا عبر تمكين هؤلاء النسوة من الاستثمار في مستقبلهن»

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.