انتصار ثقافة “كل امرئ لنفسه”

“لا نراهن في توفير عشاءنا على حسن اهتمام الجزار أو بائع الجعة أو الخباز بنا، ولكن على حسن اهتمامهم بمصالحهم.”

هذه العبارة التي قالها آدم سميث، مؤسس علم الاقتصاد والوجه البارز في الفكر الليبرالي، تدفع إلى الاعتقاد بأن الليبرالية تُمَجِّد انتصار الأنانية والمصلحة الخاصة، مُتجاهلةً للصالح العام ولقيمة الكرم. فالتاجر لا يكترث للمشاعر.

إن من شأن هذا الاعتقاد أن يبرر تدخل السلطات العمومية، الحريصة والساهرة على جلب المصلحة العامة. وقد يتمثل هذا التدخل، حسب كل تيار من التيارات الفكرية، في تقنين ومراقبة النشاط الخاص، أو في الذهاب إلى حد منع كل حرية اقتصادية (التخطيط الإجباري).

سيدفع هذا الاعتقاد بآخرين إلى الدعوة إلى “اقتصاد تشاركي” (البعض يتحدث حتى عن “اقتصاد جماعي”) وإلى عدالة توزيعية، ويتم بذلك منع أي إشارة إلى المصلحة الخاصة.

هل المصلحة الخاصة ضرب من الأنانية؟ هل ُيؤْثِر الإنسان الآخرين على نفسه إلى درجة أن يعيش حياة من التضحية والتفاني الخالصين من أجلهم؟ تعلمنا حياة القديسين أنه خلف مظاهر الحب الكامل للآخرين إلى درجة أن نهبهم حياتنا، تكمُن الفرحة الشخصية الناتجة عن الحب التام، والانغماس في النعيم المطلق. ولأن جميع الناس ليسوا بقديسين، فإنهم في نهاية المطاف يفكرون قليلا أو كثيرا أو بحماس بالغ بأنفسهم. ومع هذا، فهل يُمنَع هؤلاء الناس من أن يفكروا في أسرهم، وفي الناس الذين يجتمعون بهم؟

ما حاول آدم سميث شرحه هو أن التبادل، وهو أساس الحياة الاقتصادية، يَمُرُّ عبر مراعاة مصالح الأطراف الفاعلة. وهذا ليس خطأ، بل لعله خدمة للمجتمع.

يقول آدم سميث أن المشاعر الأخلاقية تدفع بالناس في اتجاه الآخرين، لأن ذلك من طبيعتهم ولأن ذلك هو قدرهم: هل بإمكان الإنسان أن يعيش متجاهلا لكل الآخرين؟ نعلم منذ أرسطو بأن الإنسان هو “حيوان اجتماعي”. يتطلب البقاء على قيد الحياة والعيش بشكل أفضل من الجميع أن يعتمدوا على الآخرين، وأن يضعوا أنفسهم في مكانهم (التعاطف)، وبالتالي معرفة احتياجاتهم وقدراتهم. بماذا يرغبون؟ وماذا يمكن أن يضيفوا لي؟

هل تعكس هذه الأسئلة أية أنانية؟ لا، فالباعث على طرحها هي المصلحة الخاصة، والتي هي في الوقت ذاته مصلحة الآخرين.

اليد الخفية

تكمن المصلحة الخاصة للإنسان في السعي إلى تجاوز أوجه القصور لديه، لأنه ليس عالما بكل شيء. هناك إذن الكثير مما يمكن له تعلمه من الآخرين و”من الأسهل تعلم الأشياء عن ابتكارها” (باستيا). ما يسميه آدم سميث ب “تقسيم العمل” ليس سوى التطبيق العملي لظاهرة أَعَم وأشمل هي تقسيم المعرفة، والتي تعتبر موضوعا مفضلا عند هايك (Hayek). وهذا هو ما يفرض علينا اللجوء إلى التبادل.

من طبيعة التبادل أن يكون “مرتبطا بالسوق” (catallactique): فهو يجعل المصالح الخاصة التي تبدو للوهلة الأولى مختلفة أو حتى متعارضة، تصبح منسجمة. تتمثل مصلحة المنتج أو البائع في سعر مرتفع، في حين أن مصلحة المستهلك أو المشتري هي السعر المنخفض. تبقى القيمة في كل الأحوال ذاتية، فهي تستند على تقدير شخصي وثانوي لما نعطيه وما نتلقاه. ولأن تقييم الأشياء يختلف من شخص إلى آخر، فالتبادل يصير ممكنا، مُحَوِّلا بذلك تعارض المصالح إلى تناغم. ما عَنَاهُ آدم سميث من خلال عبارة “اليد الخفية” هو أن: نظاما عفويا سيتأسس بناءً على التبادلات البينية المتعددة والصفقات المنجزة. لا شك أن هذا النظام هو غير كامل، كما هو الحال بالنسبة للناس أنفسهم، الذين يسعون إلى التقدم باستمرار، مفضلين الزيادة على النقصان. وبهذا الشكل، فإن النظام الاجتماعي العفوي، الناتج عن الفسيفساء السوقية، يتميز بكونه نظاما تطوريا. فهو لا يقوم على التوازن (التوازن ليس حيا)، ولكن على أساس التناغم (المتمثل في التنوع والدينامية). وهكذا، فإن سلسلة المصالح والتبادلات هي غير مرئية على الرغم من أنها حقيقية. فهذه اليد الخفية، كما يقترح إسرائيل كيرزنر(Israël Kirzner) ، تملك أصابعا تتجلى في المقاولة، والتي تسعى إلى التوسط بين المصالح.

الصالح العام والمصلحة العامة

أعود إلى آدم سميث: “على الرغم من سعي الجميع وراء مصلحته الخاصة فقط، فكل فرد يعمل غالبا بطريقة أكثر فعالية لمصلحة المجتمع، باختلاف لو كان يهدف حقا إليها… لم أرى قط أن أولئك الذين ينشدون عبر أعمالهم التجارية العمل من أجل الصالح العام، قد فعلوا العديد من الأشياء الجيدة”.

تُعَبر هذه المقولة المقتبسة عن التقائية المصالح الخاصة التي تنصهر في مصلحة المجتمع، ولكن أيضا عن الشكوك إزاء أولئك الذين يدَّعون العمل من أجل الصالح العام وهم متناسون لمصالحهم الخاصة.

يكمن الصالح العام وفقا للتحليل الليبرالي، في التناغم الذي يسود بين الملايين من الناس الذين يعمدون إلى التبادل يوميا دون اللجوء إلى العنف أو النهب بغرض تلبية احتياجاتهم، ويفضلون بدلا من ذلك تقاسم معارفهم والتوفيق بين مصالحهم. الصالح العام ليس هدفا اجتماعيا، بل هو وسيلة للعيش المشترك في تفاهم وسلام. وتلزمنا على الأرجح قواعد اجتماعية ومؤسسات، لكي يكون الأمر كذلك، ولهذا السبب فإن الليبرالية تدعو إلى سيادة القانون. هذا هو المصلحة العامة.

للأسف، فإن الجماعويين (وفي طليعتهم الاشتراكيين) يرغبون في إعطاء مفهوم المصلحة العامة محتوىً محددا وتقزيم دور المصالح الشخصية. أية حسابات اجتماعية تسمح بوضع هدف كُلِّيٍ تترتب على أساسه جميع الأنشطة الإنسانية؟ هل ستكون الأمثلة الاجتماعية (optimum social) هي مجموع المصالح الخاصة؟ تُظهِر نظرية أرو (Arrow) استحالة ذلك. ففي هذه الظروف، لا يمكن للمصلحة العامة أن تنتج إلا عن خيار سياسي قد تُمليهِ السلطة المطلقة (صيغة التخطيط السوفياتي) أو سلطة ديمقراطية: المصلحة العامة هي إذن نتيجة لعملية التصويت، ولكننا نصل بهذا إلى “معجزة مخدع التصويت” (miracle de l’isoloir) التي استنكرها جيمس بوكانان: كيف يتأتَّى للناخبين، الذين تحركهم مصالح شخصية دنيئة في الأوقات العادية، أن يتخلوا عنها حينما يصبحون في مخدع التصويت وألا يفكروا إلا في المصلحة العامة فقط؟

 في الواقع، لا يَفرُز ما يشبه هذه المصلحة العامة إلا عن تحالف بين المصالح الفئوية التي يَحرُص المرشحون والأحزاب على التملق إليها. هذه هي لعبة الوعود الانتخابية وجماعات الضغط، التي كشفت مدرسة “الاختيار العام” (Public Choice) اللثام عنها، ومنطق القرارات العمومية. المصلحة العامة ليست سوى ذريعة لانتهاك المصالح الخاصة للبعض بغرض خدمة المصالح الخاصة للآخرين. إنه في النهاية صراع الجميع ضد الجميع، وهنا توجد الأنانية. وهذا هو الذي يقضي على أي تناغم اجتماعي.

منبر الحرية.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.