يعتبر برتراند راسل أحد القامات الفلسفية الشامخة في القرن العشرين. فقد سطر العديد من الكتب حول موضوعات تتراوح  بين المنطق الرمزي  إلى السياسات الحديثة.

في العام 1920 نشر راسل واحدة من أولى الدراسات النقدية حول البولشفية وذلك من وجهة نظر ليبرالية وقد استشرف العديد من النقاط التي طرحها راسل في هذه الدراسة تلك التي سوف يستخدمها أورويل فيما بعد في روايته 198.

كان جورج أورويل مميزا كإنسان وكاتب. حياته الشخصية كانت مأساوية. مرضه أحد الأسباب،  لكن الأسباب الأهم  تبقى في  تشبثه  بمفهوم الإنسانية وعجزه عن خلق أوهام مريحة. ذلك النوع من الرجال، كان سيبدو في الأزمنة الفكتورية شخصاً راديكالياً مطمئناً مؤمناً بقابلية كمال الإنسان وبالتقدم المتطور والمنظم، أجبره عصره على مواجهة حقائق أقسى من تلك التي هيئت لأسلافنا الفرص الذهبية لجدالاتهم.

وككل شاب يملك تعاطفات وجدانية ثرة، ثار أورويل في البداية على النظام الاجتماعي لعصره ولأمته، وألهبته الثورة الروسية بآمال عريضة . كان من المعجبين بتروتسكي، لكن آماله سرعان ما تحطمت بروسيا الثورة بعد ما حل  بالتروتسكيين على أيدي الستالينيين في الحرب الأهلية الأسبانية، دون أن يمنحه ذلك أية آمال أخرى لتعويض خذلاناته. وجاء مرضه ليقوده إلى اليأس التام في روايته 1984.

لم يكن أورويل متشائماً بطبيعته، كما لم يكن ممسوساً بالسياسة. اهتماماته كانت أوسع من ذلك. وكان سيبدو شخصاً أنيساً لو أنه عاش في زمن أقل ألماً.

في مقالة لافتة متعاطفة مع تشارلز ديكنز، يطلق أورويل العنان لنفسه في التعليق على قناعاته التي تقول إن الأهمية لا تكمن في إصلاح المؤسسات، فالأمور ستكون على ما يرام إذا ما سلك البشر الدروب القويمة. لقد كان أورويل يملك الكثير من التعاطف الإنساني والمشاركة الوجدانية ما منعه من سجن نفسه في عقيدة جامدة.

أوجز أورويل نظرته إلى ديكنز عندما وصفه: ((الضاحك بمسحة من غضب. الخالي من عقدة البحث عن انتصارات وخبث النوايا. إنه وجه ذلك الإنسان الذي يقاتل دائما ضد شيء ما، يقاتل علانية دونما خوف. إنه وجه إنسان يغضب بسخاء  – بكلمات أخرى –  وجه لبيرالي من القرن التاسع عشر.  مفكر حر. هذا النموذج الذي تنبذه أورثوذوكسيات عصرنا الكريهة الضيقة التي تتنافس لكسب أرواحنا)).

لكن السياسة تتسيد عصرنا كما تسيد اللاهوت القرن الرابع. وكتابات أورويل السياسية هي التي ستبقيه في ذاكرتنا خصوصا روايته “مزرعة الحيوانات”.

تجبرنا مزرعة الحيوانات على مقارنتها برحلات غوليفر·، خصوصا المقطع الذي يتحدث عن الهويننمس··  .

صحيح أن حيوانات أورويل بما فيها الحصان النبيل ، لا تشبه تجسيدات سويفت للعقل الصقيعي. لكن أورويل  شأن سويفت انتمى كلاهما بعد موت الملكة آن إلى حزب مهزوم. وتجرعا مرَّ الهزيمة، ثم اليأس الذي جسداه هجاءً لاذعاً ساخراً. لكن وفي الوقت الذي يعكس فيه هجاء سويفت كراهية كونية مشوشة، نجد عند أورويل رقّة باطنة، فهو يكره أعداء من يحبهم ، بينما لا يستطيع سويفت إلا أن يحب ( وبشكل باهت) أعداء من يكرههم. وأكثر من ذلك فإن بغض سويفت للبشر ينشأ بكليته من طموح محبط، بينما تنشأ كراهية أورويل من خيانة المدافعين بالاسم فقط  للمثل الكريمة. يقين أن أورويل لا يشارك سويفت أياً من هزائمه ففي مقالة لافتة عن غوليفر يعلن أورويل بإنصاف وإقناع، عن صَغار آمال سويفت وغباء مثله.

ثمة مقالة صغيرة ومثيرة كتبها أورويل عام 1941 عن ” ويلز، وهتلر ودولة العالم”. ففي بداية ذلك العام كان ويلز· يردد، غافلاً بسبب  طيشه عما حدث في  عام 1914، بأن قوة هتلر الكريهة قد قضي عليها: ((إن موارده العسكرية المبددة والمنحسرة  ربما كانت الآن ليست أعظم مما كان لدى الطليان قبل أن يوضعوا على المحك في اليونان وأفريقيا)). يرد أورويل معارضاً تبشير ويلز بدولة العالم قائلا: (( ما الفائدة من الإشارة إلى أن دولة العالم مرغوبة؟ فكل العقلاء ولعقود خلت متفقون بالجوهر مع السيد ويلز، لكنهم أي “العقلاء” لا يملكون السلطة. إن هتلر مجرم مهووس ولديه جيش بملايين الرجال)). لم يستطع ويلز وحتى أواخر حياته أن يواجه الحقيقة التي تقول: ” بأن العقلاء لا يمتلكون السلطة.” لكن أورويل واجهها، وعاش ببرود وتعاسة في هذا العالم الواقعي.

إن الراديكاليين أمثالي وأمثال ويلز، يجدون الانتقال إلى عالم القوة المطلقة صعباً.وإني ممتن لأورويل وأمثاله الذين يزينون إبليس بالحوافر والقرون والتي بدونها يبقى مجرد تجريد.

إن عصرنا يستدعي طاقات من الإيمان أعظم مما كان يحتاجه القرن الثامن عشر والتاسع عشر. تخيلوا غوته·· وشيللي· وويلز وقد زج بهم في بوخينفالد· لسنوات. كيف سيخرجون؟ من الواضح أنهم لن يخرجوا بنفس الحال التي دخلوا فيها. فغوته لن يكون ذلك ” الأولمبي”·. ولن يكون شيللي “الملاك العاجز”. وكان ويلز سيفقد إيمانه بقدرة العقل الكلية. فثلاثتهم كانوا سيمتلكون المعرفة فيما يتعلق بالواقع الفعلي ، لكن هل كانوا سيكتسبون الحكمة؟

يعتمد هذا على مدى شجاعتهم وقدرتهم على التحمل وقوة إيمانهم الفكري.  فتتسع رؤى معظم الفلاسفة عندما يحصلون على ما يسد الرمق، فالجوع يقود المرء إلى الجنون. ومن نافل القول إن لألم الشديد يجعل من الناس أكثر حكمة.

إن رجالات زمننا هذا الذين يشبهون غوته أو شيللي أو ويلز في الطباع أو في القدرات الفطرية، خاضوا وعلى الأغلب إما تجارب شخصية أو مشاركات وجدانية تخييلية تشبه أكثر أو أقل تجربة السجن في بوخينفالد، وكان أورويل أحد هؤلاء الرجال. لقد حافظ أورويل على عشق معصوم للحقيقة، وسمح لنفسه أن يتعلم أكثر الدروس مرارة. لكنه فقد الأمل، ما منعه من أن يصبح نبياً لعصرنا. ربما كان من المستحيل في عالم كهذا أن يجمع المرء الأمل مع الحقيقة. وإذا كان هذا قد حدث فإن جميع الأنبياء ليسوا بأنبياء.

بالنسبة لي، عشت طويلاً في عالم أكثر سعادة ما يجعلني لا أقبل هذا المبدأ المتوهج. وإنني لواجد في رجال شأن أورويل نصف ما يحتاجه العالم، ما يلزم النصف الآخر  متابعة بحثه عن الحقيقة.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.