Robert Kaplan
بقاء أي سياسة ملائمة طوال عقود في هذا العالم المضطرب هو في حد ذاته دليل نجاحها، وكان الدعم لملوك العرب المعتدلين والأنظمة الدكتاتورية العلمانية جزءاً من استراتيجية الحرب الباردة الناجحة التي لا حاجة فيها إلى الاعتذار، كذلك ساهم هذا الدعم في تأمين خطوط التواصل البحرية بين منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط والغرب، خطوط تتوقف عليها مصالح الأميركيين.

غالباً ما يُقال إن الربيع العربي يثبت مدى خطأ الدعم الأميركي لأنظمة الحكم المستبدة في الشرق الأوسط لأكثر من نصف قرن، لأن هذه السياسة لم تحقق السلام أو الاستقرار. هذا هراء، فبقاء أي سياسة ملائمة طوال عقود في هذا العالم المضطرب هو في حد ذاته دليل نجاحها، وكان الدعم لملوك العرب المعتدلين والأنظمة الدكتاتورية العلمانية جزءاً من استراتيجية الحرب الباردة الناجحة التي لا حاجة فيها إلى الاعتذار، كذلك ساهم هذا الدعم في تأمين خطوط التواصل البحرية بين منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط والغرب، خطوط تتوقف عليها مصالح الأميركيين.

ما كان من المفترض أن تفعل الولايات المتحدة؟ أكان يجب أن نسقط عدداً كبيراً من الأنظمة في بقعة واسعة من الأرض لعقود لا نهاية لها لأن تلك الدول لا تتكيف مع تجربة الولايات المتحدة التاريخية الخاصة ونظامها السياسي؟ أم ما كان علينا إقامة علاقات دبلوماسية مع هذه الأنظمة في المقام الأول؟ لا يمكن لأي رجل دولة أميركي أن يختار أياً من هذين الخيارين.

فضلاً عن ذلك، ما كان يجب أن يفعل هنري كيسنجر وزبغنيو بريجنسكي وجيمس بيكر؟ أكان من الأفضل أن يمتنعوا عن السعي إلى توقيع اتفاقات فض الاشتباك بين العرب وإسرائيل واتفاقات السلام لأن محاوريهم العرب لم يُنتخبوا بشكل ديمقراطي؟ تذكروا أن إسرائيل لم تبرم حتى اليوم اتفاقات السلام واتفاقات فك الاشتباك إلا مع دكتاتوريين عرب، رجال تمكنوا من خلع خصومهم من السلطة عندما عارضوا صفقات مماثلة.

تقوم القاعدة الأساسية للسياسة الخارجية البراغماتية على ضرورة العمل مع ما توافر، فمن الخطير والمكلف استبدال أنظمة على بعد آلاف الكيلومترات عن بلدنا عندما لا تتوافق هذه مع قيمنا وميولنا. على سبيل المثال، خلال الحرب الباردة والعقدين اللذين تليا سقوط الشيوعية في أوروبا، شكلت الأنظمة المستبدة المواد المتوافرة في منطقة الشرق الأوسط، علماً أن التكنولوجيا وسائل الإعلام الاجتماعي ما كانت مُتاحة بعد لتقويض تلك الأنظمة.

لكن هل أطاح الربيع العربي فعلاً بالمستبدين في الشرق الأوسط؟ جزئيًا فحسب. ففي شمال إفريقيا، استُبدلت ثلاثة من خمسة أنظمة وأجهزتها، إذا ما احتسبنا مصر، أما في بلاد الشام، فلم يُستبدل أي نظام، على الرغم من أن سورية واقفة على شفير الهاوية. وفي شبه الجزيرة العربية، لم يسقط سوى علي عبدالله صالح في اليمن ولا يزال مؤيدوه يتمتعون بالنفوذ. إذاً، يبلغ معدل تغيير الأنظمة في هذه الحالة الثلث، ولا شك أن أنظمة إضافية ستسقط، ففي سورية، قد يتهاوى نظام الأسد قريباً، وسيؤدي ذلك إلى تغييرات في جميع أنحاء المنطقة. علاوة على ذلك، أدى الربيع العربي إلى إصلاح سياسي في المغرب، سلطنة عمان ودول أخرى، كذلك أثر في الحالة النفسية العامة في منطقة الشرق الأوسط. وصارت الأنظمة في مختلف أنحاء العالم قلقة إزاء الرأي العام لدرجة لم نرها قبل انطلاق الثورة في تونس في نهاية عام 2010.

لا شك أن الأنظمة، التي تهاوت أو قد تتهاوى قريباً، كان يجب أن تسقط منذ زمن. كان زين العابدين بن علي في تونس سفاحاً غير ملهم أسس دولة بوليسية في مجتمع أكثر تطوراً من أن يتقبل هذا النوع من الحكام. وكان معمر القذافي في ليبيا طاغية من العصور القديمة عاش في عالم من الأوهام، أما حسني مبارك في مصر، فكان لا يكاد يعي ما يدور من حوله بسبب المرض والتقدم في السن. ولكن حتى علاته هذه لم تكن سبب سقوطه، بل اعتبرت المؤسسة العسكرية المصرية سقوطه ضرورياً لأنها لا تريد ابنه، الذي لم يخدم مطلقاً في الجيش، أن يخلفه في السلطة. وحده سقوط صالح في اليمن لم يكن حتمياً بالضرورة، فقد نجح صالح في البقاء في السلطة لثلث قرن من خلال تحكمه في السياسات القبلية في بلد لا تلائم طبيعته الجغرافيا الحكم المركزي. كذلك، حافظ صالح على قواه العقلية، رغم تقدمه في السن. لكن عموماً، يُعتبر الحكام المستبدون الذين سقطوا الأسوأ، أما الأنظمة الأكثر اعتدالاً، فلا تزال صامدة.

تخضع سورية بالتأكيد لحكم نظام مستبد سرعان ما تتلاشى قاعدة دعمه، وربما يكون هذا النظام قد سقط بحلول الوقت الذي تقرأ فيه هذه الكلمات، مع ذلك، يتعين علينا في سورية، كما في مصر، التمييز بين سقوط رئيس أو سلالة حاكمة أو نظام، فقد شهدت مصر انقلاباً عسكريّاً فحسب، ولا يزال الجيش يحكم كما فعل في ظل مبارك. أما في سورية، فتكثر الاحتمالات، ولا تشير كلها إلى تغيير النظام بأسره، مع أن زوال هذا النظام بالكامل يُعتبر النهاية المحتملة.

خلاصة القول إن الربيع العربي ليس مرادفًا للديمقراطية، إذ حققت الديمقراطية نجاحات كبيرة في تونس، إلا أن نجاحاتها ظلت محدودة في أماكن أخرى، فقد ذهبت نتائج الانتخابات في مصر أدراج الريح نتيجة السيطرة العسكرية المستمرة، ومع أن ليبيا أجرت انتخابات، وربما اختارت رئيساً معتدلاً ومستنيراً، لا تتوافر له المؤسسات الضرورية ليفرض سلطته خارج حدود طرابلس الكبرى. إذاً، لا تقتصر الديمقراطية على التصويت، بل تحتاج أيضاً إلى المنظمات الحكومية القادرة.

يمكننا، للأسف، تعريف الربيع العربي على أنه أزمة في السلطة المركزية، تبين فيها أن من الصعب الدفاع عن أنظمة قديمة في عدد محدود إنما لا بأس به البلدان، بينما تكافح أنظمة جديدة أكثر تحرراً للظهور. علاوة على ذلك، لن تكون هذه الأنظمة الجديدة الأكثر تحرراً دوماً أكثر تنوّراً مما حلت محله، لأن تصويت الناس لا يعني بالضرورة أنهم سيختارون مَن سيحكم وفق القيم الليبرالية الغربية. لا تضمن الديمقراطية تشكيل حكومة جيدة، بل تتيح فقط تحديد الحالة السياسية والعاطفية لسكان دولة ما في مرحلة معينة. وأصاب مَن قال إن هتلر أمسك بزمام السلطة نتيجة انتخابات ديمقراطية، في حين أن الزعيم الشيوعي الصيني دينغ شياو بينغ قد حسن الرفاه المادي وطور الحريات الشخصية لعدد أكبر من الناس في فسحة أقصر من الوقت، مقارنة بأي قائد في التاريخ، وأخيرًا، قد تكون الديمقراطية جيدة بحد ذاتها، لكن التحول الديمقراطي قد يكون عملية طويلة ومضنية تزعزع الاستقرار.

تبقى الحقيقة الأساسية بشأن الربيع العربي أنه لم يحمل لنا المزيد من الحرية فحسب، بل المزيد من التعقيد أيضاً، فبدلاً من رجل واحد ورقم هاتف واحد وبريد إلكتروني واحد للتعامل معه خلال الأزمات الدولية التي تحل بهذا البلد أو ذاك، على واشنطن اليوم أن تأخذ في الاعتبار مشاعر عشرات المسؤولين في بنية القوى السياسية في عاصمة عربية معينة. كان من السهل سابقاً تحديد مَن يمسك بزمام السلطة الحقيقية ويستطيع اتخاذ الخطوات اللازمة لحل الأزمة، أما اليوم، فعلينا الاستناد إلى نظرية ما أو آخر الشائعات أو بعض المعلومات الاستخباراتية.

يعني “المزيد من التعقيد” أننا لا نعرف يقينًا ما إذا كانت التغييرات السياسية في منطقة الشرق الأوسط منذ مطلع عام 2011 تخدم بالضرورة مصلحة الولايات المتحدة. تدعم الولايات المتحدة كدولة ديمقراطية توسع المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم، ويتماشى الربيع العربي في معظم الأحيان مع ذلك، لكن الولايات المتحدة في الوقت عينه قوة تسعى للحفاظ على ترتيب القوى الراهن كي تبقى في موضع هيمنة نسبية.

في الختام، قد يكون من الأفضل تتبع أخبار دول أكثر إثارة للاهتمام، خصوصاً مملكتَي المغرب وسلطنة عمان، اللتين تعملان على تطوير دستورهما، فضلاً عن مشيخات الخليج العربي، التي تملك فيضاً من أموال النفط توزعه على عدد سكانها الصغير. يحاول بعض هذه البلدان، بطرق سلمية وبدرجات متفاوتة، اختبار أنظمة أكثر انفتاحاً، مثبتًا أن أفضل أنواع التقدم ما يحدث تدرجيّاً ولا يحظى باهتمام وسائل الإعلام.
* ترجمة "القوة الثالثة"

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.