إعتدنا إن نتعامل مع دولنا القديمة التي صارت في بطون الكتب وخاصة تلك التي قامت بعد إنتهاء دولة الخلفاء الراشدين على أساس أنها كانت دولا إسلامية حقيقية, وحتى أنها كانت تعمل بوحي من الشريعة على مستوى الكثير من نشاطاتها, وكان من ثقافتنا أن نتلقى هذه التسمية دون أية مراجعة حقيقية أومتأنية لإحتمال أن لا تكون تلك الدول لها علاقة أخلاقية بالإسلام بالمستويات التي تمنحها حق تلك التسمية.

وحتى أولئك الذين ظلوا يتغنون بالماضي التليد أو بمحاولة بعثه فإنهم كانوا يفعلون ذلك بعيدا عن صفته الدينية وإنما من خلال إيجاد معادلة تجمع ما بين العروبة والإسلام بشكل علماني ولا علاقة له بنصوص فقهية أو بمرجعيات دينية. أما التيارات اليسارية وفي المقدمة منها الماركسيون فلم يكن يهمهم على أي مستوى الوقوف أمام أية معادلة من هذا النوع, ففي العالم المعاصر كان هناك ثمة متسع لإتباع نظريات ومناهج جديدة تتعامل مع المتغيرات الكبيرة والعميقة التي طرأت على جميع المستويات, ولم يفعل الوطنيون العلمانيون الليبراليون سوى ان يقولوا إن مال الله لله وما لقيصر لقيصر.

, وكنا آنذاك ونحن نقرأ فرضيات العودة إلى دولة الخلافة من جديد وخاصة تلك التي كان يطرحها الأخوان المسلمون نشعر بالحاجة إلى الضحك, فلم يكن مقدرا أن نقف أمام تلك الفرضيات إلا من خلال إعتقادنا بأن من يتمسك بها ما زال يعيش تماما في الماضي. ولم تكن نظرية ولاية الفقيه على الجانب الشيعي قد خرجت إلى العلن, وهي كانت أتت بعد ذلك من أجل مساعدة المؤسسة الشيعية للخروج من فكر المعارضة إلى فكر الدولة بعد أن تبين لها أن خروج الشيعة الأفراد إلى فكر الدولة المدنية بات بحكم المؤكد.

ما يهمنا الآن هو أن صعود الإسلام السياسي بات مرتهنا مرة أخرى بتجديد الأحلام ببناء دولة إسلامية تستمد أحكامها من الشريعة التي سيكون لها الدور الأساسي في تحديد قوانين الدولة وسلوكيات أهلها حتى على مستوى طريقة الدخول إلى الحمام والمرافق وليس فقط على صعيد الزواج باربعة وحق التصرف باليمين والعلاقة بأهل الذمة. وسنرى أيضا أن هذا الصعود السريع والكبير قد أدى لدى البعض إلى إحياء فكرة نظام الخلافة إنطلاقا من الإيمان بإمكانية بناء دولة كهذه على غرار الدول الإسلامية القديمة, وهذا بالضبط ما يجعلنا نتساءل.. وهل كانت هناك حقا دولة إسلامية بالفعل حتى يجري بعثها من جديد أو إحيائها أو التمثل بها, فإن لم تكن فمعنى ذلك أن الحديث عن فكرة إقامة دولة إسلامية ينطلق من وهم أو ينطلق إلى وهم.

إن هناك الكثير من الشواهد التاريخية التي تؤكد على غياب هكذا دولة, فحتى مع دولة الخلفاء الراشدين فإنه لا يمكن حساب وجودها كحالة تاريخية واحدة بل حالات متفرقة ومختلفة وقائمة على إجتهادات وسلوكيات خلفائها أكثر من كونها كانت دولة معرفة بأداء ومناهج واحدة. فدولة عثمان لم تكن كدولة عمر, ودولة علي لم تكن كدولة عثمان, أما الحروب والردات الكثيرة والنزاعات الزعامية فقد أكدت على أن تلك الدولة كانت تعيش مخاض التأسيس دون وجود لما يؤكد على أنها نجحت في الولادة. وفيما يمكن حساب الفتوحات وخاصة تلك التي تمت في زمن الخليفة عمر بن الخطاب كأحد الأدلة الكبرى على وجود ناشط لتلك الدولة غير أن ذلك لا يمكن الإقرار به لوحده كدليل على وجودها ولا يمكن له أن يخفي حقيقة أن المسلمين لم يكونوا قد غادروا حالة الدعوة إلى حالة الدولة.

لعل المشهد الرئيسي الذي أكد فشل مشروع الدولة الدينية هو قيام الدولة الأموية ذاتها. لكن حالة قيام هذه الدولة التي تأسست أولا على حسم الصراع ضد الخليفة الراشدي الرابع ومن ثم على مجموعة من المذابح التي في مقدمتها جريمة كربلاء, بكل ما في هذه المشاهد من مآس مؤلمة, قد أدت إلى تغييب واحد من أهم التساؤلات. فبعيدا عن رهبة تلك المذابح وهوية المقتول أو القاتل لم تبحث حالة تأسيس الدولة الأموية على مستوى ما إذا كان تأسيسها قد جاء ليؤكد على فشل إمكانات قيام دولة دينية, أم أنها كانت قد جاءت كحسم لطريقة دينية مختلفة. فالجدليات التي دخلنا فيها بعد ذلك وخاصة بعد مذبحة كربلاء قد ألغت الحاجة إلى تساؤل كهذا وأبقتها في ميدان الصراع على الأحقية بالخلافة وحول السلوك الجرائمي لمؤسسي تلك الدولة وليس حول ما إذا كانت تلك الدولة قد ختمت بالشمع الأحمر على إمكانات قيام دولة دينية لأسباب ليس منها ما ينتقص من قيم الدين الأخلاقية أو يتعارض مع نشاطاته وطقوسه, وإنما لأن الدول في الأساس لا تقوم على مسألة الدين الذي وإن قام كحركة تغيير إجتماعية إلا أنه سينتهي إلى حالة شخصية.

في الحقيقة تحتاج إجابة مقنعة على تساؤل من هذا النوع البحث عنها بكل حرفية, وهي مسألة ليست بالسهلة, فثمة تراكمات ثقافية وإنحيازات عاطفية ومذهبية تجعل مسألة التمسك بهذه الحرفية قضية صعبة, إن لم تكن مستحيلة, فالموقف من الدولة الأموية غالبا ما كان يجري حسمه سلبيا أو إيجابيا على أساس مذهبي, كما أن الكارثة التي إفتتحت بها هذه الدولة أعوام تأسيسها الأولى لم تترك مجالا للبحث عنها خارج إطار الإدانة الدينية, أما البحث السياسي الحرفي الذي يقوم بهدف الإجابة الفكرية االمحايدة فقد ظل بعيد المنال ومؤجل حتى إشعار آخر.

وسأدعي أن الوقت قد حان, وخاصة بعد صعود الإسلام السياسي وتصاعد دعوات بناء الدولة الإسلامية, لأن نتساءل عما إذا ما كان نجاح معاوية بن أبي سفيان في عملية تأسيس دولته قد جاء لمجرد أنه غدر ومكر كما قال عنه بن أبي طالب, أم ذلك النجاح كان قد تطلب نمطا من العمل الذي كان بن أبي طالب قد إعتبره غدرا ومكر.

ومع أن مقارنات على المستوى الأخلاقي والديني هي غير مطلوبة بين بن أبي طالب من جهة وبين ابن أبي سفيان من جهة أخرى, لكن هل سيمنعنا ذلك من القول أن تأسيس الدولة الأموية قد جاء لكي يؤكد على إنتصار عقيدة الفصل ما بين السياسي والديني.

يقول بن أبي طالب حينما ذكروا أمامه دهاء معاوية: والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يمكر ويغدر, ولو كنت أمكر وأغدر لكنت أدهى العرب. لكن معاوية لم يكن مجبرا على إعتبار سياسته في إدارة الصراع مع بن أبي طالب قد جاءت من باب الغدر والمكر, وهو سوف يكون أكثر ميلا للتعامل معها على أساس أنها جاءت من باب الدهاء. كما أن بعضا من المتخصصين في علم السياسة, لا في الدين والمناهج المثالية والأخلاق, سوف يؤكدون على أن تأسيس الدول لا يقوم على الأخلاق فقط, وإنما يقوم في معظم الأحيان على دهاء غالبا ما يعتبره الأخلاقيون المتدينون المثاليون غدرا ومكر.

وسوف يجعلنا ذلك ربما في مواجهة أن نقارن بين علي بن أبي طالب كرجل أخلاقيات مثالية ودين, ومعاوية كرجل سياسة ودولة وضعية, مما يضعنا على طريق البحث في كلا الشخصيتين بمعزل عن خلطهما سوية, وبمعزل عن الخوف من أولئك الذين يجلون شخصية بن أبي طالب إلى حدود التعظيم. وكما أعتقد فإن عبورا إلى هكذا نوع من المقارنات المتأسسة على توصيف حرفي وبحثي محايد سوف يجعلنا أقدر على تحصيل إجابات معقولة باتت بحكم المطلوبة, وهي لا تأتي هنا لغرض تحديد من كان الأقرب إلى الله والأكثر إيمانا, علي أم معاوية, وإنما هي همها أن تجيب على التساؤل: هل أن قيام الدولة الأموية قد جاء كسياق في صراع أوجبته الحاجة إلى قيام دولة على أسس غير دينية, وهل أن الحسم قد تم ما بين الأخلاقي والسياسي ليؤكد بالنهاية على أن الدين لا يمكن له أن يؤسس دول, وإن هو أفلح في تأسيس نفوس.

فإذا لم تكن الدولة الأموية إسلامية, وكذلك الدولتان العباسية والعثمانية, فمعنى ذلك أن الصراع السياسي – الأخلاقي كان وضع لنفسه نهاية تاريخية بإنتصار الدولة المدنية على مفهوم الدولة الدينية مما يؤكد على أن فرضية تأسيس دول على اساس ديني قد أثبتت خطأها.

وإن ذلك لن يدخل مطلقا في خانة إنتصار السياسة على الدين, وإنما في خانة فصل التداخل بينهما بالمستوى الذي يميز بين نوع ومجال كلا النشاطين.

ولذلك فإن التبشير بإمكانية تأسيس دولة إسلامية وإعادة تفعيل نظام الخلافة إعتمادا على إمكانات نجاحه لكونه كان قد نجح سابقا سيصطدم بقوة بحقيقة أن العرب مع الإسلام قد دخلوا في الدين وليس في الدولة الذي جاء الصراع من أجلها دليلا على عدم قدرة الدين على إحتراف السياسة, والتي هي الحاجة الأساسية المطلوبة لبناء دولة أرضية.

وإذا كان الدين لم يقدر على بناء دولة, ليس بسبب عجز ذاتي وإنما لأنه ليس مصمما لهذا الغرض, وإذا كان ذلك حدث حينما كانت فاعلية الدعوة الإسلامية على أشدها, فكيف بنا الآن والعالم قد تغير وتطور, وخرج منه من خرج ودخل إليه من دخل.


حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.