هناك علاقات خفية بين تفاقم الطائفية وتدهور الثقافة، فقد صعدت فئاتٌ وسطى صغيرة خاصة من البوادي والأرياف والحارات المكتظة، وكانت تتواكبُ مع أزمات اقتصادية في النمط الخراجي الجديد، حيث الأجهزة تنفصل عن الناس، والفئات الوسطى الكبيرة تبحث عن الأسواق بأي شكل في وسط مزاحمات من العمالقة السياسيين الاقتصاديين.
القوى اليسارية والقومية القديمة تفككت علاقاتُها بالثقافات العميقة، وكانت أدوات التسطيحِ والأدلجة الموظفة للشموليات غيرَ قادرةٍ على الحفر المعرفي الثقافي، ولهذا فإن مواكبتها للأدب والفن التقدميين اضمحلت. ومن هنا عدم قدرتها على التصدي لفهم ظاهرات إبداعية كبيرة، وحماية المراكز الثقافية التقدمية المتداعية في المجلات والصحف ودور النشر والمواقع الإلكترونية، رغم أن عناصر نادرة في الاتجاهات التحديثية واصلت الإنتاج وسط طوفان من الأمية الثقافية ونتاجات العولمة، ودعك من إمكانية أن تقوم هذه المنابر بالتحول لمحطاتٍ ناقلة للكهرباء الثقافية وسط الجماهير، عبر الاحتفاء بالكتب والآداب والفنون والظاهرات الثقافية عامةً كما كانت تفعل في زمن جذورها النضالية التي كانت ذات ظروف شظف وحصار وقلة إمكانيات.
في تحللِ رأسمالياتِ الدول الشرقية تحللٌ للخرائطِ الوطنية، وجسدَ هذا فشلَ نمطٍ بيروقراطي استغلالي أدى إلى بروزِ الثقافات العتيقة للمذاهب والملل المختلفة تفكيكا لأقطار ومجتمعات المسلمين والمواطنين عامة، حيث راحت تجر التفسخات التي جرت بعد انهيار الحضارات العربية الإسلامية المختلفة وليس أن تعي ماهية تلك الثقافات العالمية وقتذاك. أي أدى هذا إلى سيادةِ النصوصية والمواد اللاعقلانية والقشورية الدينية والعودة لأزمنة ما سُمي عربيا عصور الانحطاط، ولن تجد من كتاب المذهبيين السياسيين من يقوم بالحفر المعرفي ولو كان بسيطا في ظاهرات الحياة والثقافة والتاريخ، بل يكرر ما هو موجود من نصوص يعرفها الجميعُ عن السور والدين والمواعظ.
وقد حدثَ تصدٍّ من بعضِ كبار المثقفين العرب للتفسخ الطائفي الاجتماعي ومحاولاته تصدر المسرح السياسي الاجتماعي، عبر قراءاتٍ كثيرة موسوعية للآداب والفنون والفلسفات القديمة، لكن أغلبها ضخم الحجم ويُصاغ بأدواتٍ منهجية ولغوية فوق مستوى الجمهور العادي، كما أنه لا يحتفى بهذه الجهود في أجهزة الإعلام لمنع التسطيح في فهم التاريخ العربي.
مثلما أن أنظمة الرأسمالية الحكومية لم تقم بأي ثورة ثقافية لمحو الأمية ولتقدم العلاقات بين النساء والرجال ونشر العقلانية والعديد من المهمات الاجتماعية الثقافية، كما أن هذه القراءات العقلانية لا تُسوق عبر أدواتِ الرأسمالياتِ الحكومية المتحللة الراهنة، ولا تحصل على دعم الرأسماليات الخاصة المتصاعدة التي توجهت لمطبوعات الربح وفضائيات البث التجاري الساحق ونشر الثقافة السوداء كثقافةِ العنف والجنس والفن الرخيص. وصارت تفاهات هذه(النجوم) مواد يومية تُنشر في كل مكان ونموذجا لاحتذاء الأجيال، وترافق ذلك مع نشر السموم والعداء للثقافة والكتب وحصار المكتبات.
ولهذا فإن أميي الثقافاتِ الدينية هم الذين تولوا البثَّ الجماهيري، حيث ظهرت هذه الفئات من شقوقِ فسادِ الرأسماليات الأولى، واحتضان الرأسماليات الخاصة الأخرى، وهي تدبجُ النصوصَ المتعالية من فوق المنابر الشعبية، وقراءاتُها لحقائق التراث العربي الإسلامي الإنساني معدومة، فهي قراءة طوائف تمزيقية لا قراءةَ موحِّدين، قراءات يومية وعظية تحريضية ذاتية في شتى الجهات، وتشيعُ الانقسامات والتسطيحَ الفكري أكثر فأكثر، والغريب أن شباب هذه الجماعات لا علاقة لهم بالثقافة العربية الإسلامية وتجد هذا في عدم معرفة الجذور للإسلام والفرق ومشكلات التطور التاريخي للأمم الإسلامية ولا يعرفون الآداب العربية الإسلامية وغزارة إنتاجها بكل تأكيد.
لهذا فإن العلاقات الكبرى العظيمة التي نشأت بين الإسلام والاتجاهات الفكرية السياسية وبين الآداب والفنون، مقطوعة هنا، منسوفة، في ظل أناسٍ يعيشون على المواد الخام الرثة للانهيارات الاجتماعية السابقة، ومن هنا نجد هذا الانفصال العدائي عن الآداب والفنون، فالطائفيات مسطحة، أمية، متحفزة، قصيرة النظر، تعيش على شذراتِ نصوصٍ نارية، وتصعّد القوى السياسية الاجتماعية المتعصبة، وتخربُ العلاقات الإسلامية والإنسانية، لكونها بلا فكر ديمقراطي إنساني رحب، وقد غيبت التوحيدَ فأُصيبت بالأنيميا الوطنية القومية.
التراجع واسع عن الإرث الإنساني، والتمحور والانغلاق على الذوات الماضوية، يتبعهما عداءٌ للأشكال والأنواع الفنية والأدبية، ولروح الحرية والفرح والتوهج، وتغدو النصوص الإبداعية ملغاة منبوذة، لأنها تحمل وهجَ الحياة المتنوعة، وعطاءات الإنسانية التعددية العصرية حيث البشرية معمل روحي خلاق مشترك.