تدق طبول الحرب بسرعة متواترة في شمال مالي، حيث أخذ التحرك داخل حكومة باماكو وعلى المستويين الإقليمي والدولي خلال الأسابيع الأخيرة زخماً يبدو أسرع من رياح "الهارمتان" الموسمية الجافة التي تهب على منطقة الساحل الإفريقي الغربي؛ فالأمور لا تسير إلا نحو مسار واحد هو الانتهاء من تشكيل القوة المقاتلة من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" والدول الأفريقية الأخرى المجاورة، واستكمال وضع الخطط العسكرية اللازمة لشن الحرب ضد المتمردين في شمال مالي.

وقد تصاعد الحديث خلال شهر أكتوبر الجاري حول ضرورة التدخل العسكري في شمال مالي على الرغم من مضي ستة أشهر على سيطرة "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" و"جماعة أنصار الدين" على شمال مالي، وإعلان "دولة أزواد" في 6 إبريل الماضي.




ومنذ هذا التاريخ سعت حكومة باماكو إلى توقيع اتفاق مشترك مع مجموعة "الإيكواس" بشأن نشر قوة أفريقية في شمال مالي من أجل استعادة سيطرة الحكومة عليه، وهو الأمر الذي واجه خلافات وصعوبات عديدة خلال الأشهر الماضية، حتى تم التوصل إلى هذا الاتفاق تحت ضغط فرنسي يوم 23 سبتمبر الماضي. وعلى أثر ذلك طلب الرئيس المالي، ديونكوندا تراوري، ورئيس الوزراء، شيخ موديبو ديارا، من الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، إصدار قرار من مجلس الأمن يسمح بتدخل قوة عسكرية دولية بهدف مساعدة الجيش المالي في استعادة السيطرة على مناطق الشمال؛ وهو الأمر الذي أقره مجلس الأمن الدولي في 5 أكتوبر الجاري، حيث وافق على إرسال قوة قوامها ثلاثة آلاف عنصر من "إيكواس" مدعومة من الأمم المتحدة وبدعم لوجستي من بعض الدول الغربية مثل فرنسا والولايات المتحدة، ثم اشترط المجلس يوم 12 أكتوبر أن تقدم المجموعة تفاصيل ومتطلبات خطة التدخل العسكري في غضون 45 يوماً.

وقد اختار بان كي مون يوم 6 أكتوبر رئيس الوزراء الإيطالي السابق، رومانو برودي، مبعوثاً خاصاً له لمنطقة الساحل الأفريقي، كما وافق وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي يوم 15 أكتوبر على تسريع البحث والتخطيط لمهمة عسكرية محتملة في شمال مالي، وأكدوا على أنه "لا يمكن لدول الاتحاد القبول بأن يستقر الإرهاب في تلك المنطقة الخارجة عن القانون". ويتوقع أن تقوم هذه الدول بإرسال ما بين 150 إلى 400 مدربًا عسكريًا لتدريب الجنود الماليين وتنسيق الجهود مع القوة التي ستشكلها "إيكواس".


وتسعى فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد إلى مساعدة "إيكواس" في إنهاء هذا الأمر خلال ستة أسابيع، أي قبل أن تنتهي المدة التي منحها مجلس الأمن للانتهاء من تقديم خطة التدخل العسكري. ولذا شهدت العاصمة المالية، باماكو، يوم 19 أكتوبر اجتماعاً دولياً موسعاً من أجل تنسيق مواقف الأطراف الإقليمية والدولية حول التدخل العسكري الوشيك في شمال مالي.


وانتهى الاجتماع إلى توافق المجتمعين حول ضرورة مساعدة الحكومة المالية في استرجاع الجزء الشمالي من البلاد، واستكمال دول غرب أفريقيا وضع خطة عملية توضح طبيعة تشكيل القوة الجماعية وتحديد احتياجاتها ومهامها الأساسية والمساعدة التدريبية واللوجستية المطلوبة من القوى الدولية.


وشارك في هذا الاجتماع ممثلون من دول الجوار من: بوركينا فاسو والنيجر وكوت ديفوار والجزائر وموريتانيا والسنغال وغينيا ونيجيريا وتشاد وبنين وليبيا، إلى جانب الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والاتحاد الأوروبي والمنظمة الدولية للفرانكفونية.


وتأتي هذه التحركات الإقليمية والدولية على خلفية سيطرة متمردين من الطوارق وجماعات متطرفة مسلحة -منذ أعمال قتال اندلعت في يناير الماضي- على أقاليم (تمبكتو وغاو وكيدال) في الشمال، والتي تشكل نحو ثلثي الأراضي المالية، وإعلانهم قيام دولة أزواد في إبريل؛ وذلك في ظل فشل حكومة باماكو والجيش المالي الذي مني بهزيمة كبيرة من المتمردين بعد دخول البلاد في حالة من الفوضى الأمنية والسياسية جراء الانقلاب العسكري الذي قاده النقيب، أمادو سانوغو، ضد الرئيس المالي السابق، أمادو توماني توريه، في 22 مارس الماضي، قبل شهرين فقط من انتهاء ولايته الرئاسية الثانية.




أولاً: أسباب التعجيل بالحرب
لم تهدأ لغة الحديث عن الحرب خلال الأشهر الستة الماضية، لكن ثمة عدداً من الأسباب دفعت إلى كسر حالة الجمود في مالي حول ضرورة طلب التدخل العسكري، وإسراع الأطراف الإقليمية والدولية إلى حشد الجهود لخوض هذه الحرب، إذ تبدو الدولة غير قادرة بعد الفوضى التي ضربت البلاد على التعامل مع خطرين وجوديين مختلفين: الانقلاب العسكري الذي أحضر حكومة غير منتخبة، وسيطرة المتمردين في الشمال على ثلثي الأراضي المالية، والذين يضمون بينهم مجموعات إسلامية تختلف في درجة تطرفها، فضلاً عن نزوح الآلاف إلى دول الجوار بعد الحرب وانتشار الجفاف، وقيام متطرفين إسلاميين بهدم مساجد وأضرحة تاريخية في مدن شمال مالي، وسعيهم إلى تطبيق الشريعة بالقوة.




وتكمن أولى الأسباب في أن الانقلاب الجنوبي ونجاح التمرد الشمالي أنهيا حالة الاستقرار والتطور الديمقراطي التي عرفتها مالي خلال العقدين الماضيين، إذ كانت توصف مالي بأنها البلد المستقر في منطقة تعج بالانقلابات العسكرية، فبعد أن قام الضابط، أمادو توريه، بالاستيلاء على السلطة في 16 مارس 1991 على وقع احتجاجات شعبية ضد نظام الرئيس الديكتاتوري، موسى تراوري، قاد توريه مرحلة انتقالية لمدة عام واحد، سلم بعدها السلطة للرئيس المنتخب، ألفا عمر كوناري، في عام 1992، بعد انتخابات تشريعية ورئاسية جرت على أسس ديمقراطية.

وابتعد أمادو توريه عن المشهد السياسي في سابقة نادرة الحدوث في الدول الأفريقية، لكنه عاد بعد عشر سنوات ليفوز في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في مايو عام 2002، ثم تمكن من الفوز بولاية ثانية في انتخابات 2007، وشهدت سنوات حكمه تحقيق بعض الإصلاحات السياسية، فيما بقيت المشكلات الاقتصادية والتنموية أبرز التحديات والمصاعب التي عرضت حكمه لبعض الهزات السياسية والأمنية، كما استمرت معاناة الأقاليم الشمالية -حيث الطوارق- من الفوضى الأمنية والإهمال التنموي وغياب مظاهر الدولة؛ لتنتهي ولايته بانقلاب عسكري في مارس الماضي أسهم فيه إلى حد بعيد الاضطرابات التي شهدتها مناطق الشمال في يناير.


وفيما يخص حكومة باماكو، فإنها اضطرت إلى طلب التدخل العسكري الخارجي بعد تمنع نسبي، ويعود ذلك لبعض العوامل، منها أن الرئيس المالي بالوكالة، ديونكوندا تراوري، تسلم السلطة في 9 إبريل من الانقلابيين، لكنه لم يتمكن من تشكيل حكومة وحدة وطنية إلا في 21 أغسطس، وكان هذا شرطاً أفريقياً ودولياً لتقديم المساعدة العسكرية إلى حكومة باماكو.


وكان الجيش المالي يعتقد طوال الأشهر الماضية في قدرته على استرجاع الأقاليم الشمالية بدعم أفريقي محدود لا يتمركز تواجده في العاصمة باماكو، لكن ثبت فشل هذا الاعتقاد بعد أن تمكن متمردو الشمال من السيطرة على مناطق إضافية في المناطق الحدودية بين شمال مالي وجنوبها، إذ استولت حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا في الأول من سبتمبر على مدينة دوينتزا التي تبعد 400 كيلومتراً عن أقاليم الشمال. كما لا يبدو في استطاعة القدرات العسكرية المحدودة للجيش المالي أن تنتصر على متمردي الشمال الذين باتوا أكثر عتاداً وتسليحاً.


ومن جانب آخر تخشى حكومة باماكو من أن تأخذ بعض الكيانات الداخلية في وسط وجنوب البلاد منها زمام المبادرة في التصدي للتمرد الشمالي، وخاصةً بعد أن شكلت ست حركات للدفاع الذاتي يوم 22 يوليو جبهة موحدة تهدف إلى تحرير الشمال، وهي جبهة تضم ممثلين عن قوات تحرير مناطق شمال مالي ومليشيا غاندا-كوي وغاندا-إيزو التي استخدمت سابقاً لمقاتلة الطوارق وتحالف مجموعات منطقة تمبكتو والقوة المسلحة لمكافحة الاحتلال، حيث تعتبر الحكومة أن قوة مثل هذه الكيانات قد تؤثر فيما بعد على استقرار الوضع السياسي والأمني في البلاد.


وثالثاً تفضل حكومة باماكو "تدويل" أزمة الشمال، وتقول إنها طلبت الحوار مع المتمردين والتنظيمات الإسلامية المسلحة، لكنهم لا يريدون وحدة البلاد. ولم تعرض حكومة باماكو إمكانية قيام نظام حكم ذاتي في الشمال تحت دولة كونفدرالية أو فيدرالية من أجل تجنب الحرب، وذلك خشيةً من أن ينعكس ذلك سلباً على الوضع السياسي والأمني الهش منذ الانقلاب العسكري.


أما فيما يتعلق بالمواقف الإقليمية والدولية، يقول المحلل الأمريكي، جريجوري مان، أستاذ التاريخ الإفريقي بجامعة كولومبيا الأمريكية، إن هناك ثلاثة أسباب تعجل بالتدخل العسكري،

أولها: الضغوط الدولية الكبيرة التي مارستها فرنسا، والتي اعتمدت مؤخراً على دبلوماسية عدوانية تجاه مالي، وسعت إلى تفعيل التعاون والشراكة مع موريتانيا والجزائر و"إيكواس" من أجل التدخل العسكري، وهي الدبلوماسية التي أصبحت محل التحرك الفرنسي بعد تعدد عمليات خطف رهائن فرنسيين من قبل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وفي دول الساحل الإفريقي.

ويتمثل السبب الثاني في تراجع الولايات المتحدة عن فكرة إقامة حكم ديمقراطي وحكومة قوية منتخبة في باماكو، واللجوء إلى خيار التفاوض مع زعماء الطوارق من أجل استعادة وحدة البلاد قبل الشروع في عمل عسكري في الشمال؛ وذلك خوفاً من انتشار التهديد الذي يمثله تنظيم القاعدة في شمال مالي.


وكان وزير الدفاع الفرنسي، جان لو دريان، قد صرح في مناسبات مختلفة إلى أنه "يجب منع تحول مالي إلى ساحلستان في غرب إفريقيا"، وأن بلاده "ترحب بأي عمل عسكري في مالي وتراه حتمياً"، لكنه أشار إلى أن "فرنسا لن تقود أي عملية عسكرية في مالي، وإنما سوف يقتصر دورها على تقديم التدريب والدعم المالي واللوجستي لأي قوة أفريقية سيجري تشكيلها من دول غرب أفريقيا".


وينطبق ذات الموقف على الإدارة الأمريكية التي أعلنت في 2 أكتوبر على لسان، جوني كارسون، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشئون الأفريقية، أنها "تدعم الانتشار العسكري المحتمل لقوات من الإيكواس ومن دول المنطقة مثل موريتانيا والجزائر في شمال مالي تحت إشراف الأمم المتحدة"، أي أن الدور الأمريكي سوف يقتصر هو الآخر على الدعم اللوجستي والاستخبارتي، ومن غير المعروف ما إذا كانت وزارة الدفاع الأمريكية قد قررت استخدام طائرات من دون طيار لمهاجمة "الإرهابيين" في الشمال كما يحدث في أفغانستان واليمن، أم لا.


أما حلف شمال الأطلسي "الناتو" فقد أكد أمينه العام، أندرس فوج راسموسين، في الأول من أكتوبر، على أن "الحلف لا يعتزم التدخل في مالي.. لكن الحلف يتابع الوضع بانتباه هناك".


مغزى ذلك أن الأطراف الدولية، وخاصةً واشنطن وباريس، تدعمان التدخل العسكري بقوة، لأنهما لن تغامران بخوض حرب مباشرة في شمال مالي على غرار العراق وأفغانستان، وسوف تكتفيان فقط بتقديم الدعم التمويلي والتدريبي لعناصر القوة الأفريقية المشتركة؛ وبالتالي لا يحمل الحل العسكري للأزمة المالية مخاطر حقيقية مباشرة عليهما، أي أن هذه الدول تفضل حلاً أفريقياً لمشكلة دولية كبيرة، وتحمل دول الجوار وحدها عبأ منع انتشار الفوضى المالية إلى بقية المنطقة.


ويكمن السبب الثالث في أن التدخل في مالي أصبح ضروريًا في لجوء مئات الآلاف من الماليين إلى الدول المجاورة، وبسبب تضرر هذه الدول، وتحديداً النيجر ونيجيريا وموريتانيا، بشكل مباشر من التنظيمات الجهادية، إذ ربما، باستثناء الجزائر نسبيًا، لا يمكن أن تصمت هذه الدول أمام هذا التهديد لفترة طويلة.


فقد أدى الصراع في مالي إلى تفاقم الوضع الإنساني والأمني المتدهور في منطقة الساحل المضطربة، والتي هي حزام يمتد في 12 دولة من أفقر دول العالم في الجناح الجنوبي من الصحراء، وتسبب الصراع ثم الجفاف في شمال مالي، بحسب بيانات الأمم المتحدة ومنظمة الصليب الأحمر الدولي، إلى نزوح أكثر من 260 ألف مالي إلى الدول المجاورة، وخاصة موريتانيا التي يتواجد فيها حوالي مائة ألف نازح، وتشرد حوالي 200 ألف شخص داخل مالي، ويعاني أكثر من 5 مليون شخص من أزمة غذاء حادة.


وعلى الرغم من أن الوضع الإنساني أسوأ بكثير في مناطق أخرى مثل سوريا ودارفور بالسودان، إلا أن فكرة التدخل العسكري في شمال مالي تبدو مغرية دوليًا وإقليميًا، إذ يكفي فقط أن يتردد اسم –ووجود- تنظيم القاعدة في شمال مالي، فهذا وحده كفيل بإحضار التدخل الخارجي، حتى وإن كان هذا التنظيم يجد جذوره لدى الجماعات الإسلامية الجزائرية وليس إلى أسامة بن لادن، وحتى إن كان من غير المعروف على وجه الدقة كثافة وجود القاعدة بهذه المناطق.


وبالنسبة لدول الجوار، فإن أغلبها يتحمس للتدخل العسكري خشيةً من امتداد نفوذ التنظيمات الإسلامية المتطرفة إليها بعد أن تتخذ من شمال مالي ملاذاً آمنًا تشكل منه قاعدة انطلاق لتحقيق أهدافها بالمنطقة، وخاصةً مع إمكانية تدفق الجهاديين الإقليميين والعالميين هناك؛ مما يجعل شمال مالي بؤرة للعناصر الإرهابية والإجرامية؛ وبالتالي ترى هذه الدول أن استخدام القوة أمرًا ضروريًا لمنع تغلغل الجماعات المسلحة العابرة للحدود الوطنية والمنخرطة في الجهاد والإرهاب والاتجار في المخدرات والسلاح.


تجدر الإشارة إلى أن موريتانيا والنيجر والجزائر ومالي قد اتفقوا في مايو من العام الماضي 2011 على تشكيل قوة مشتركة قوامها 75 ألف جندي لتأمين منطقة الساحل والصحراء التي تمتد عبر حدودهم، على أن تبدأ هذه القوة العمل خلال 18 شهراً من أجل التصدي للجريمة المنظمة عبر الحدود والحرب على تنظيم القاعدة والتنظيمات الجهادية التي تتنامى في المنطقة وتجارة المخدرات والأسلحة. وأنشأت الدول الأربع مركزًا للقيادة المشتركة في "تمنراست" في جنوب الجزائر.


ومما لا شك فيه أن تنظيم في بلاد المغرب الإسلامي قد نشط خلال السنوات الأخيرة في منطقة الساحل والصحراء، ونفذ العديد من عمليات خطف الأجانب في بعض هذه الدول وعميات الهجوم على مواقع في عواصم بعض هذه الدول. ويخصص التنظيم أميرًا لمنطقة الصحراء التابعة لتنظيم القاعدة، والتي تشمل الرقعة الجغرافية للصحراء الكبرى الواقعة شمال مالي، وتعرف لدى التنظيم باسم "صحراء الإسلام الكبرى".


وتساند القاعدة كافة المناطق التي يحدث فيها تدخلات عسكرية خارجية مثل الصومال، وينشط مقاتلوها في منطقة غرب أفريقيا التي تشكل إحدى بؤر التوتر الكبرى في القارة، نظرًا لغياب الأمن وعدم الاستقرار في كثير من بلدانها، حيث يتواجد التنظيم في مناطق الحدود جنوب الجزائر، عبر مالي والنيجر وحتى موريتانيا.


وقد استطاع التنظيم إقامة روابط مع شباب المجاهدين في الصومال، وصولاً إلى جماعة بوكو حرام النيجيرية التي يرجح أن تكون مرتبطةً بجماعة طالبان النيجيرية، فكريًا وأيديولوجيًا، والتي تأسست في عام 2002، حيث يمثل تواجد تنظيم القاعدة في نيجيريا تهديدًا خطيرًا لدولة نفطية مهمة.




ثانياً: ردود فعل المتمردين في الشمال
ما إن بدأت التحركات الإقليمية والدولية تنذر باحتمال شن الحرب على شمال مالي، حتى بدأت العديد من الحركات هناك في العمل على تكييف أوضاعها لمجابهة هذه الحرب، ففي 24 أكتوبر، وبعد لقاء تفاهم تم بين بلال آغ الشريف، زعيم "الحركة الوطنية لتحرير أزواد"، وأحمد ولد سيدي محمد، زعيم "الحركة العربية لتحرير أزواد"؛ تمكنت الحركتان من الاتفاق على الدخول في تحالف سياسي، سوف توقعان على مسودته النهائية قريبًا، وذلك من أجل تجنب مخاطر الفتنة العرقية التي تسعى بعض الجهات الإقليمية للعب عليها للوقيعة بين الطوارق وبعضهم البعض.




وتعد "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" واحدة من حركات عديدة ظهرت في العقود الماضية مثل الحركة الشعبية لتحرير أزواد التي تأسست في عام 1988، وتسعى وفقًا لما تقول إلى تحرير أرض أزواد والحفاظ على هوية الطوارق. وقد تشكلت الحركة في نوفمبر 2010 كأكبر تنظيم يمثل طوارق شمال مالي، وعاد آلاف الطوارق مدججين بالأسلحة من ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي ليتمكنوا من إعلان الدولة في 6 إبريل الماضي. وقد اندمج بالحركة كل من: الحركة الوطنية للأزواد والحركة الطوارقية لشمال مالي. ويصف بلال آغ الشريف الحركة بأنها ذات طابع علماني.

أما "الحركة العربية لتحرير أزواد"، فقد تشكلت مطلع العام الجاري، وتضم أبناء القبائل العربية بالإقليم، والمكونة أساسًا من قبيلة "لبرابيش". ولم تشترك الحركة في القتال الذي أدى إلى سقوط أزواد، لكنها تسعى إلى الدخول في شراكة مع "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" من أجل تجنب تهميش العرب.


كما تسعى "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" و"حركة أنصار الدين"، الطوارقية الإسلامية، إلى تفعيل اتفاق فشلا في التوقيع عليه في مايو الماضي، يتضمن اندماجهما في حركة واحدة أطلق عليها "المجلس الانتقالي لدولة أزواد الإسلامية"، بسبب إصرار "حركة أنصار الدين" على أن يتضمن الاتفاق تطبيق الشريعة الإسلامية، بينما رأت حركة تحرير أزواد أن ذلك يتعارض مع مبادئها العلمانية. وقد أعلنت الحركتان يوم 20 أكتوبر توحيد صفوفهما لمواجهة التدخل العسكري المرتقب ضد الطوارق.


وتأسست "حركة أنصار الدين" على يد الزعيم الطوارقي، إياد غالي، وهو من أبناء أسر القيادات القبلية التاريخية لقبائل "الإيفوغاس"، وتعرف الحركة نفسها بأنها "حركة شعبية جهادية سلفية". وغالي هو دبلوماسي سابق عمل قنصلاً عامًا لجمهورية مالي في جدة بالمملكة العربية السعودية، لكنه اعتنق الفكر السلفي الجهادي في الأعوام الأخيرة، ومع سقوط القذافي عاد إلى أزواد، واتخذ من سلسلة جبال "أغارغار" مقرًا له، وبدأ في تجميع المقاتلين الطوارق تحت مسمى "حركة أنصار الدين" التي كان لها دور بارز في السيطرة على أقاليم الشمال.


وشرعت الحركة على الفور في تنفيذ الحدود الشرعية ضد الذين يرتكبون مخالفات شرعية تستوجب إقامة الحد، وانخرط أعضاؤها في حملة قوية تستهدف ما يصفونها بأوكار الخمور والدعارة والفساد الأخلاقي في مدينة تمبكتو، وقاموا بتدمير العديد من الأضرحة القديمة في العديد من القرى والمدن.


وتعد هذه الحركة الفصيل الثاني الأكثر نفوذًا بين طوارق شمال مالي بعد "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" التي تتبنى خطًا علمانيًا كمبدأ للدولة الجديدة، فيما تعتبر "أنصار الدين" تطبيق الشريعة الإسلامية شرطًا لإقامتها.


وتوجد خلافات في مالي ودول الجوار حول تصنيف حركة أنصار الدين؛ ففي الوقت الذي ترى الجزائر أنها تنظيم يمثل طوارق شمال مالي، تعتبرها دول أخرى مثل مالي ونيجيريا حركة إرهابية بحكم أنها تحالفت مع تنظيم القاعدة.


الحركة الثالثة صاحبة النفوذ في شمال مالي هي "حركة الجهاد والتوحيد في غرب أفريقيا" إحدى الحركات الإسلامية المسلحة، والمنبثقة عن تنظيم القاعدة، وقد أسسها في أكتوبر 2011، "سلطان ولد بادي"، أحد شخصيات المجتمع العربي في أزواد، وأمير تنظيم القاعدة السابق في منطقة الصحراء، الموريتاني "حماد ولد محمد الخير" الملقب بـ "أبو القعقاع"، وانضم للحركة عشرات المقاتلين من أبناء القبائل العربية في شمال مالي، لتصبح الحركة بذلك واجهة للتيار السلفي الجهادي في المجموعات العربية بأزواد، مثلما تشكل "حركة أنصار الدين" الواجهة السلفية الجهادية داخل المجموعات والقبائل الطوارقية.


وقد دخلت هذه الحركة في اقتتال داخلي مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد، واستطاعت في أواخر يوليو الماضي أن تسيطر على مدينة غاو، عاصمة أزواد، وطردت منها بلال آغ الشريف أمين عام الحركة.


ويعتبر "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" نفسه حامي المشروع السلفي في شمال مالي، ويرتبط بعلاقات قوية مع حركتي "أنصار الدين" و"الجهاد والتوحيد". وكان التنظيم قد وصل إلى منطقة الساحل في عام 2003 على يد أمير كتيبة الملثمين "مختار بالمختار" الملقب "بلعور"، ويعد أقدم وأقوى التنظيمات السلفية في الصحراء الكبرى عمومًا ومنطقة أزواد خصوصًا. وتسعى هذه التنظيمات السلفية والسلفية الجهادية إلى استقطاب العديد من المقاتلين الجهاديين من مختلف الدول لمواجهة الحرب المحتملة في أزواد.




ثالثاً: صعوبات الحرب ومخاطرها
الحرب على شمال مالي، سواءً من أجل استعادة حكومة باماكو للأقاليم الشمالية أو من أجل مواجهة التنظيمات الإسلامية المسلحة، لا تخلُ من عقبات عديدة تعترض إمكانية نجاحها، بدليل الصعوبات التي تواجه تشكيل القوة الأفريقية، كما أن نتائج هذه الحرب تحمل في طياتها مخاطر وعواقب سلبية كبيرة على مالي وعلى دول الجوار.




ويمكن استعراض هذه الصعوبات والمخاطر بإيجاز فيما يلي:
1 ـ هناك صعوبات كبيرة تأتي من قبل جنوب مالي ذاتها، فالوضع السياسي القلق في باماكو سوف يؤثر على القتال في الشمال، وثمة خلافات سياسية بين القوى الأساسية حول هذه الحرب، ولا يعني تشكيل حكومة وحدة وطنية في أغسطس الماضي أن التحالف الحكومي قوي ومستقر، فالحكومة ضعيفة لا تقوى على فرض رؤيتها على الأطراف الإقليمية، بل قد يعصف بها عدم الاستقرار، حيث لا يتمتع أي من الأطراف الثلاثة التي تتقاسم السلطة وهم: الرئيس المؤقت ديونكوندا تراوري، ورئيس الوزراء شيخ موديبو ديارا، وزعيم المجلس العسكري السابق النقيب أمادو سانوغو، بالقوة اللازمة أو الشرعية الشعبية الكافية أو القدرة على منع تفاقم الأزمة الداخلية، ولا يزال الوضع هشًا في الجنوب الذي يبقى مفتوحًا على جميع السيناريوهات، بدءًا من حدوث انقلاب عسكري آخر، إلى حدوث اضطرابات سياسية واجتماعية تؤثر سلبًا على المؤسسات الانتقالية في البلاد، وانتهاءً بانتشار الفوضى الأمنية.


2 ـ لا يزال قادة الانقلاب العسكري الذين يسيطرون على الجيش المالي يمارسون الحكم من خلف الكواليس، وهم كانوا يرفضون فكرة التدخل العسكري الخارجي، ومعهم بعض من النخبة السياسية والمثقفين؛ وبالتالي ليس مرجحاً أن يسمحوا بتقويض صلاحياتهم تماماً إلى قيادة جماعية أفريقية لأن هناك صعوبة في التوافق حول حدود المسئولية بين الجانبين، وهم يدينون بالولاء إلى زعيم المجلس العسكري السابق النقيب أمادو سانوغو الذي قاد الانقلاب في مارس الماضي ضد الرئيس أمادو توريه.


3 ـ ثمة صعوبات قد تعترض التنسيق الكامل بين القوة الأفريقية وبين حكومة باماكو والجيش المالي، فقد عارض الجيش في البداية فكرة التدخل الخارجي المباشر، ورأى بعض قادته أن بإمكانهم حل المشكلة عبر حصار الجماعات المتطرفة في الشمال، فهم يخشون من تواجد الأطراف الإقليمية في العاصمة المالية، وقد ألقى الجيش باللوم على دول الإيكواس بسبب احتجاز سفن محملة بأسلحة للجيش المالي ومعارضتها خططه بشأن تسليح الميليشيات العرقية على طول نهر النيجر لمقاتلة المتمردين.


ويؤكد هذه الحقيقة المفاوضات الصعبة التي جرت بين حكومة باماكو والإيكواس، فقد كان يصر الرئيس المالي، ديونكوندا تراوري، على أن انتشار القوات العسكرية المقاتلة في باماكو ليس واردًا بسبب رؤية قادة الانقلاب العسكري، فيما أصرت مجموعة إيكواس على ضرورة أن تقبل السلطات المالية حدًا أدنى من انتشار تلك العناصر المسلحة في باماكو، سواءً لضمان لوجستية العملية أو لتأمين المؤسسات الانتقالية، كما رأت أن المساعدة على تدريب الجيش المالي وتوفير الدعم له ليس كافيًا، وأن قوات غرب أفريقيا لا يجوز أن تقف متفرجة حتى تكون فعالة ميدانيًا، وبالفعل اضطرت حكومة باماكو إلى القبول بشروط إيكواس.


4 ـ ثمة صعوبات تتعلق بنمط الحرب ذاتها، لأن المتمردين في شمال مالي ليسوا كتلة متجانسة يمكن محاربتها بسهولة. ويفسر عبد الرحمن عبد القادر، أحد كبار الباحثين في معهد دراسات الأمن في أديس أبابا، ذلك بالقول: "سيكون خطأً فادحاً تصور أن تهزم قوة جماعية مشكلة من 3300 إلى 3700 فرد من هزيمة المتمردين في شمال مالي واستعادة 300 ألف كيلو متراً من الأراضي؛ فهذه القوة ستخوض حرباً غير متماثلة وسط صحارٍ واسعة وكثبان رملية ودرجات حرارة مرتفعة، وهي عوامل يتقن فيها المتمردون الحرب... وبإمكان هذه الجماعات الإسلامية المتشددة أن تلجأ إلى الدول المجاورة التي يسهل اختراق حدودها المفتوحة بسهولة كبيرة".


وعلاوة على ذلك فقد دفعت الاستعدادت التي تجري لشن العمل العسكري بالحركة الوطنية لتحرير أزواد إلى التحالف مرة جديدة مع جماعة أنصار الدين التي تسيطر مع الحركة على مدن غاو وكيدال وتمبكتو، وتتعاون مع حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، ذات الطابع السلفي، في كل مناطق إقليم أزواد. وقد تؤد الحرب إلى كثافة تواجد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من أجل الدفاع عن أزواد المستقلة، وإحداث انتشار للجهاديين من الطوارق في النيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا وليبيا والجزائر.


5 ـ لا تبدو نتائج العمل العسكري في شمال مالي مأمونة العواقب، إذ تعتريها مخاطر عديدة قد تكون كارثية. وفي هذا الصدد يشير الكاتب، سيمون أليسون، في مقال نشرته جريدة دايلي مافيريك الجنوب أفريقية، تحت عنوان: "التدخل في مالي فكرة خطرة تحظي بتأييد شديد"، إلى أن "الأصوات المرتفعة التي تطالب وتتحرك من أجل التدخل العسكري، تغفل ما قد يحدثه هذا التدخل من مرارات عذاب وعواقب وخيمة؛ فالجميع من الناحية النظرية سوف يخرج رابحًا من الحرب في شمال مالي، باستثناء مالي نفسها ودول الجوار... التدخل له عواقب دراماتيكية يمكن أن تمتد آثارها إلى كل دول الساحل والقارة".


وتبرز هذه المخاطر في أن الحرب سوف تؤدي إلى خسائر بشرية ومادية باهظة في صفوف الماليين والأفارقة، وربما لن تقود لنصر حاسم لتنتهي حتى في حالة هزيمة المتمردين إلى مغادرة المجموعات المسلحة للمدن الأزوادية نحو قواعدها في الجبال والكهوف البعيدة، لتبدأ من هناك حرب عصابات قد تقصر أو تطول بحسب الظروف والملابسات التي سيجري فيها التدخل العسكري. كما أن هذه المجموعات، وعلى رأسها حركة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد، قد هددت باستهداف قلب وعواصم الدول التي ستشارك في العدوان على شمال مالي، ولهم القدرة على فعل ذلك بسبب انتشار الطوارق عبر صحراء الساحل الأفريقي، وفي كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو والجزائر وليبيا.


ومن جانب آخر يغفل الحل العسكري طبيعة الخلافات بين الحركات المسيطرة على الشمال، ويجعلها كلها في خانة واحدة، فالحركة الوطنية لتحرير أزواد علمانية الطابع، فيما الحركات الإسلامية المسلحة تعمل على إقامة دولة دينية بالقوة، وكان يمكن التركيز على التفاوض مع هذه الحركة بدلاً من لجوئها إلى التنسيق مجدداً مع هذه التنظيمات المتطرفة من أجل صد العدوان المحتمل.


وفي الوقت الذي ينشغل فيه الغرب بمحاربة "الإرهاب" والسيطرة على الموارد الطبيعية وضمان تدفق النفط من غرب أفريقيا، فإنه يغفل طبيعة أقاليم الشمال التي يتداخل فيها الديني بالعرقي بالسياسي، فالميليشيات المسلحة الآن ترفع شعارات فكرية وسياسية ولكنها تتأسس في الأصل على قبائل ومجموعات عرقية كالطوارق والعرب والصونغاي والفلان. ويعني ذلك إمكانية انتشار المزيد من الفوضى نتيجةً لتداعيات الحرب، والتي ستؤدي إلى صراعات عرقية وقبلية تقود في النهاية أيضاً إلى عدم وحدة الأراضي المالية، بل ربما تخلق "صومال" جديدة في غرب أفريقيا.


* إبراهيم عالي، محلل سياسي - مصر


حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.