* كاتب و مفكر عربي
يعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم التي ما زالت غامضة أو ملتبسة، خصوصاً لما يشوبه من إبهام فيما يتعلق بالجزء الثاني من المصطلح ونعني به "الانتقالية"، فهل توجد عدالة انتقالية؟ وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية المرتبطة بأحكام القضاء واللجوء إلى المحاكم بأنواعها ودرجاتها؟
وإذا كانت العدالة قيمة مطلقة، ولا يمكن طمسها أو التنكّر لها، أو حتى تأجيلها تحت أي سبب كان أو ذريعة أو حجة، فإن العدالة الانتقالية تشترك مع العدالة التقليدية في إحقاق الحق وإعادته إلى أصحابه، وفي كشف الحقيقة، وفي جبر الضرر وتعويض الضحايا، خصوصاً لما له علاقة بالقضايا السياسية والمدنية العامة، وكذلك في توخّي صلاح المجتمع من خلال إصلاح قوانينه وأجهزته القضائية والأمنية، لاسيما المعنية بإنفاذ القانون.
لكن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية المتواترة في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو من حالة حرب أهلية إلى حالة السلم، أو الانتقال من حالة صراع سياسي داخلي يرافقه عنف مسلح إلى حالة السلم وولوج سبيل التحوّل الديمقراطي، أو الانتقال من حكم سياسي تسلّطي إلى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديمقراطي، أي الانتقال من حكم منغلق بانسداد آفاق، إلى حكم يشهد حالة انفتاح وإقرار بالتعددية، وهناك حالة أخرى وهي فترة الانعتاق من الكولونيالية أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة إجراءات إصلاحية ضرورية، وسعي لجبر أضرار ضحايا الانتهاكات الخطيرة، وخصوصاً ذات الأبعاد الجماعية.
قد يتبادر إلى الذهن أن اختيار طريق العدالة الانتقالية يتناقض مع طريق العدالة الجنائية، سواءً على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي، في حين أن اختيار الطريق الأول لا يعني استبعاد الطريق الثاني، وخصوصاً بالنسبة للضحايا، ولاسيما مسألة إفلات المرتكبين من العقاب!!، وقد كان هذا الأمر محلّ نقاش جاد -لاسيما للتجربة التونسية- في ندوة نظمّها مركز الدراسات الوطنية في تونس مؤخراً.
ولعل مفهوم العدالة الانتقالية ودوافعها السياسية والقانونية والحقوقية والإنسانية، أخذ يتبلور وإنْ كان ببطء في العديد من التجارب الدولية، وفي العديد من المناطق في العالم، ولاسيما في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخص ضحايا النازية، وانْ كان قد شابه شيء من التسييس، وخصوصاً بعد تقسيم ألمانيا من جانب دول الحلفاء، كما اتخذ بُعداً جديداً في أميركا اللاتينية وخاصة بعد ما حصل في تشيلي إثر الانقلاب العسكري في 11 أيلول (سبتمبر) 1973، الذي قاده الجنرال بينوشيه.
ومنذ سبعينيات القرن العشرين وحتى الآن، شهد العالم نحو 40 تجربة للعدالة الانتقالية، من بين أهمها تجربة تشيلي والأرجنتين وبيرو وسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب أفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان، وقد شهدت البرتغال وإسبانيا والدول الاشتراكية السابقة شكلاً من أشكال العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، اتسم بعضها بالاستمرارية القانونية أو ما أطلقنا عليه "فقه التواصل"، وساد بعضها "فقه القطيعة" كما هي تجربة ألمانيا الديمقراطية، لاسيما بعد اتحادها مع ألمانيا الاتحادية.
ويعتبر البعض أن تجربة لبنان ما بعد مؤتمر الطائف شهدت شكلاً من أشكال المصالحة الوطنية كان يمكن أن يفضي إلى تحقيق العدالة الانتقالية، لكنني أعتبر أن الشروط العامة للعدالة الانتقالية لا تنطبق عليها، وخصوصاً كشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا والإصلاح المؤسسي، إلاّ أن التجربة اللبنانية -على الرغم مما عليها- بحاجة إلى تأمل ودراسة، ولاسيما في ظروف لبنان الراهنة والمعارك السياسية "المتكررة"، لكي لا يعيد التاريخ نفسه!!
وعلى الرغم من أن المقاربة اللبنانية للعدالة الانتقالية ناقصة ومبتورة، فإن التوافق القلق والهش دون أدنى شك أفضل من الاحتراب والاقتتال، الأمر الذي هو بحاجة إلى بحث في إطار التوافق اللبناني، دون نكء للجراح في عدالة انتقالية، مع تنازلات متبادلة واعتراف مجتمعي على أساس التسامح وعدم تكرار ما حصل.
ولا بدّ من إدراج تجربة المغرب كإحدى أهم التجارب العربية والدولية في إمكانية الانتقال الديمقراطي السلمي من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء (الوزير الأول)، وفتح ملفات الاختفاء القسري والتعذيب، وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة، وتعويض الضحايا، والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات.
وقد بدأت فكرة العدالة الانتقالية تدخل الأدب الحقوقي والسياسي الحقوقي على المستوى العربي، ابتداءً من المغرب العربي ومروراً بمصر، ووصولاً إلى دول المشرق العربي، والأمر له علاقة بانتشار الثقافة الديمقراطية بشكل عام والثقافة الحقوقية بشكل خاص، لاسيما ارتباط ذلك بانبثاق العديد من مؤسسات المجتمع المدني ونشاطها وفاعليتها، وخصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وموجة التغيير التي اجتاحت أوروبا الشرقية، وقادت إلى تحوّلات ديمقراطية أنهت الأنظمة الشمولية، وفتحت الباب على مصراعيه لإشاعة الحريات، وتعزيز دور المجتمع المدني، وإعلاء شأن الفرد، وتقليص توجه الدولة للتدخل في الشؤون الاقتصادية، وغيرها من التوجهات الانفتاحية التي انتقلت إلى العديد من دول أميركا اللاتينية وبعض بلدان آسيا وأفريقيا، حيث اعتبرت الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان القيمة العليا التي يقاس بموجبها تقدم أي مجتمع، وهو الأمر الذي يفترض علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم على أساس اختيار المحكومين للحكام بشكل دوري، وفصل السلطات، وتأكيد استقلال القضاء، وإعمال مبدأ سيادة القانون ومبادئ المساواة والمواطنة.
وإذا كان مثل هذا التوجّه يرتكز على قواعد عامة مشتركة تمثّل المشترك الإنساني، فإن لكل بلد خصوصيته، ولا تشبه عملية انتقال ديمقراطي غيرها من العمليات، نظراً لاختلاف التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتاريخي، على الرغم من المشتركات بين الأمم والشعوب.
ولعل هذه المسألة تنطبق -إلى حدود كبيرة- على مسألة العدالة الانتقالية المطروحة اليوم بشدة بعد انتفاضات الربيع العربي الناجحة منها أو تلك التي تنتظر إجراء تغييرات من شأنها أن تحتاج إلى الإفادة من المبادئ العامة للعدالة الانتقالية، على الرغم من أن لكل تجربة عربية نكهتها الخاصة ومذاقها المختلف، وذلك بحكم التطور التاريخي واصطفافات القوى والطبقات الاجتماعية والدينية والإثنية، وتنوّع الفاعليات والأنشطة السياسية والفكرية، فضلاً عن طريقة الانتقال، وحجم العنف، وتراكم الفساد المالي والاداري، وغيره من المشكلات.
وإذا كان هدف هذا المقال البحث في التجارب الدولية لمقاربتها من زاويتها الفكرية والمبادئ العامة وظروف التطبيق، فإن الغرض يتركز على الإفادة من النجاحات التي حققتها، وبالقدر نفسه التوقف عند أخطائها وثغراتها وعيوبها لتجاوزها وتجنبها وعدم الوقوع فيها، ذلك أن أي عملية تقليد أو تكرار لنموذج ما دون الأخذ بنظر الاعتبار خصوصية كل تجربة سيكون تشويهاً للنموذج الأول، وإكراهاً للنموذج الثاني، فللأول سياقاته وظروفه الناجحة والفاشلة، وللثاني أوضاعه الخاصة وتركيباته المختلفة، ولا يمكن زرع بذرة في بيئة غير ملائمة، مما سيؤدي إلى عدم نموها، ولو تمت فسيكون نموّها لأجل قصير، ومن بعد ذلك تذوي وتموت. وكلا الحالين ينذران بالمخاطر، مما يؤدي إلى ضياع الزمن والجهد والموارد دون طائل أو جدوى تذكر.
لكن حقيقة الحاجة إلى تجارب دولية تبقى مهمة وقائمة لاستلهام الدروس والعِبَر والإفادة منهما بشفافية وانفتاح، وهذه مسألة ضرورية لتحصين التجارب الخاصة وجعلها بعيدة عن التقوقع والانغلاق من جهة، وفي الوقت نفسه ملاحظة التمايز بين التجارب بحيث لا تقود التجربة العالمية إلى استنساخ مشوه أو تقليد أعمى، الأمر الذي يحتاج إلى معرفة ودراية بظروف كل بلد لإنجاز مشروع عقد جديد لتنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم فيه، تلك التي يمكن أن تندرج فيها مبادئ وقواعد ذات طابع قيمي، حيث تتحول إلى مبادئ دستورية عليا، بما فيها ما ينطبق على العدالة الانتقالية لأن ذلك يمس جوهر التحول الديمقراطي ومحتواه اللاحق. وبقدر احترام الخصوصيات والتمسك بها، فالأمر يحتاج إلى الاطلاع على التجارب ودراستها لاستكمال صورة التغيير على المستوى الكوني والبحث في المشترك الإنساني.
إن تجربة تونس لا تشبه تجربة مصر، مثلما أن تجربة ليبيا لا تشبه تجربة اليمن، وتجربة المغرب مختلفة عن تجربة العراق، مثلما تختلف تجربة الأردن عن تجربة سوريا، حتى وإن كان هناك الكثير من المشتركات بينها.
يعتقد البعض أحياناً أن مجرد انهيار نظام تسلطي واستبدادي يعني الاقتصاص من جميع أركانه وعناصره، وقد لا يريد انتظار الإجراءات القانونية والقضائية لبطئها، وقد يكون لعدم جدواها في إنزال العقاب بالمتهمين بالارتكاب، لاسيما بعد مضي زمن ليس بالقصير، ناهيكم عن التحوّطات التي كانت تضعها الأنظمة السابقة للإفلات من العقاب، وقد يندفع بعضهم الآخر لأخذ العقاب بنفسه طالما أن "الجميع" يعرف أن هناك ارتكابات، ومثل هذا الأمر لا يجمعه جامع مع العدالة الانتقالية التي تتطلب حكم القانون في ظرف استثنائي وضمن أوضاع انتقالية، أما العقاب السياسي الجماعي فليس ذلك سوى عدالة انتقامية.
أما العدالة الانتقائية فنقصد بها معاقبة البعض وإهمال البعض الآخر لاعتبارات تمييزية دينية أو طائفية أو اجتماعية أو سياسية أو غير ذلك، والعقوبة الانتقامية أو الانتقائية تؤدي إلى إثارة الكراهية والبغضاء والثأر والأحقاد، وتعطّل وتعرقل عملية الانتقال الديمقراطي الذي هو الأساس والهدف للعدالة الانتقالية، وهو ما أخذت به مبادئ شيكاغو التي تتلخص في محاكمة المشتبه في ارتكابهم لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وإبراز الحق في الحقيقة، وتشجّع التحقيقات الرسمية في الانتهاكات السابقة عن طريق لجان لتقصّي الحقائق أو هيئات أخرى، والاعتراف بالوضع الخاص للضحايا، وضمان وصولهم إلى العدالة، كما تعدّ سبل جبر الضرر وتحقيق الإنصاف وتنفيذ سياسة العقوبات والإجراءات الإدارية ودعم البرامج الرسمية والمبادرات الشعبية لتخليد ذكرى الضحايا، وتثقيف المجتمع فيما يتعلق بالعنف السياسي الماضي وتخليد الذاكرة التاريخية.
كما أن من واجب الدول أن تدعم وتحترم الوسائل التقليدية والأهلية والدينية في التعاطي مع الانتهاكات السابقة، والمشاركة في الإصلاح المؤسسي لدعم سيادة القانون، واستعادة ثقة الجمهور، وتعزيز الحقوق الأساسية، ودعم الحكم الرشيد، ولعل تلك الحزمة من الأسئلة ستكون موضوع بحث ونقاش وجدل ليس بين النخبة والباحثين والمتخصصين فحسب، بل على صعيد الفاعلين السياسيين والفكريين من جهة، وفي الشارع من جهة أخرى، خصوصاً وهي تواجه جميع التجارب التي شهدت الربيع العربي!