تعيش تونس حالة تمدد غير مسبوقة- وربما مستغربة من العديد من المراقبين- للسلفيين الجهاديين والتنظيمات والأفكار القريبة أو المرتبطة بالقاعدة، وقد برزت هذه الظاهرة من خلال تتالي حصول أعمال إرهابية، كتلك التي شهدها منذ أيام جبل الشعانبي (غرب تونس). حيث تحصنت مجموعة إرهابية بالجبال ودخلت في اشتباكات مسلحة مع الأمن والجيش التونسي. كما عمدت الجماعات السلفية إلى محاولة فرض ممارسات دينية، ونمط عيش "جديد" على التونسيين. من خلال السيطرة المساجد وعلى الفضاءات العمومية واحتكارها لأنشطتهم "الدعوية".
وفي هذا السياق حاول تيار "أنصار الشريعة" فرض قوة الأمر الواقع على المجتمع والدولة. حينما أعلن عن تنظيم مؤتمر لأتباعه في الساحة العامة لمدينة القيروان التاريخية. رافضا التقدم بطلب ترخيص قانوني لنشاطه. فالترخيص هو من "عند الله" وفق تصريحات قادة التنظيم. في تحدى للقانون وللدولة، وفي مسعى غايته بداية الإعداد للخروج عن سلطان الدولة كمقدمة للانقلاب عليها لاحقا. اذ يرون فيها أنها "طاغوت" و"جاهلية جديدة" ولا تحكم بشرع الله.
لكن ما يلفت الانتباه أن مظاهر هذا "التمرد السلفي" برزت بالخصوص من قبل التيار السلفي الجهادي، وتحديدا جماعة "أنصار الشريعة" بزعامة أبو عياض، وهو تيار لا ينفي ارتباطه التنظيمي والفكري بتنظيم القاعدة. الذي استفاد من أوضاع أمنية ما تزال هشة. ومن بيئة سياسية يغلب عليها التشتت والاستقطاب السياسي والإيديولوجي، وهيمنة الأجندات الحزبية والصراع حول الزعامة.
وهنا ينطرح السؤال المخيف والمثير: هل أن هذا المناخ السوسيو-سياسي والأمني الحالي سيساعد على تحويل تونس، التي عرفت بتقدميتها ومدنيتها طويلا، إلى مركز متقدم للنشاط الإرهابي/السلفي الجهادي؟ وما هي خيارات الدولة في مواجهة "الإرهاب الديني" في ظل حكومة ذات مرجعية اسلامية؟
ما بعد الثورة.. "الانفجار" السلفي:
بعد ثورة 14 يناير 2011، تحولت العمليات الإرهابية إلى حقيقة يعيشها التونسيون. بل أنهم في طريقهم إلى تعويد أنفسهم على التعايش مع هذه الظاهرة التي فرضت نفسها عليهم. و ان كانت جذورها تعود إلى ما قبل الثورة، وليست أحداث سليمان (موجهات مسلحة سنة 2008 في عهد حكم بن علي) ببعيدة على الأذهان. لكنها أصبحت أكثر خطورة بعد الثورة. فقد تعددت الأحداث والمواجهات المسلحة، بين الأمن والجماعات الإرهابية المنتمية لتنظيمات دينية سلفية متشددة. بل أن الحكومة التونسية أعلنت عن أن تنظيم القاعدة ينشط فوق أراضيها. كما وصف رئيس الحكومة وأحد قادة النهضة الإسلامية الحاكمة "أنصار الشريعة" بالتنظيم الإرهابي. كما لوح بإعادة تفعيل قانون الإرهاب الصادر في زمن حكم بن علي، برغم احتجاجات الحقوقيين ومنظمات حقوق الإنسان.
حصلت بعد الثورة التونسية، عدة مواجهات مع "الجهادية الاسلامية" لعل من أهمها ما حصل في بئر علي بن خليفة(وسط) وبن قردان(جنوب) والروحية وجبال الكاف(شمال غربي)... اضافة الى حادثة الاعتداء على السفارة الأمريكية في 14 سبتمبر2012، التي تم اقتحامها من قبل السلفيين. كما تم أيضا إحباط العديد من المخططات التي لم يقع الإعلان عنها أو لم تلاق صدى إعلامي كبير. ثم جاءت المواجهات التي ما تزال جارية في جبال الشعانبي(وسط غرب تونس).
لا يمكن الحديث عن تنامي نشاط الجماعات الإرهابية المتشددة، دون الإشارة إلى ما يمكن تسميته بوجود "تساهل" مع أنشطة بعض الجماعات التي تمثل في الواقع خزان بشري للمتطرفين. فقد ساهمت الليونة التي تعاطت معها حكومة حزب النهضة الإسلامي، مع الجماعات الدينية المتشددة في جعلها تعتبر نفسها كما لو أنها تتمتع بحماية تخول لها تجاوز القانون. وبرز ذلك من خلال السيطرة على الفضاءات العمومية، وسعيها إلى محاولة فرض نمطها المجتمعي سواء في اللباس أو في الممارسات والمعاملات...واحتلالها للمساجد وجعلها إطارا لنشر خطابها المتشدد والتحريضي على مكاسب المجتمع. وتنظيم اجتماعات شعبية استضافت فيها شيوخ السلفية المتشددة الذين دعوا صراحة إلى فرض تطبييق الشريعة وتكفير المجتمع بل أن أذاهم لم يسلم منه حتى حزب النهضة الإسلامي وقياداته.
مثل هذا المناخ سمح للتيار السلفي وخاصة المتشدد، بمزيد التمدد والانتشار إلى درجة "التغول". عبر المرور إلى حمل السلاح والتخطيط لأعمال إرهابية. وهو ما تم الشروع فيه بالفعل من خلال اغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد، ووضع قائمة لمستهدفين آخرين من النخبة السياسية ومن الإعلاميين. وأصبح التهديد بالقتل عملة رائجة وبلا حسيب ورقيب. ما يشير إلى أن الجماعة بصدد الاستفادة من حالة الارتباك في المشهد السياسي ومن تردد الحكومة وضعف الدولة لتقوية أنشطتها وتحويل تونس إلى مركز للأنشطة الإرهابية ومعبر للإرهاب وتحديدا في المناطق الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر والاتجاه نحو الساحل الإفريقي.
وهذا ما أكدته بيانات وتقارير الداخلية التونسية ، عندما أشارت إلى أن حوالي 20 شخصا متحصنون الآن بجبل الشعانبي، إضافة إلى وجود ما بين 10 و15 شخصا موجودون بالمناطق الحدودية مع الجزائر من ولاية الكاف. مضيفة بأنّ الأشخاص الموقوفين وهم 37 شخصا تمت إحالتهم على القضاء وهم من جنسيات مختلفة بينهم تونسيون وأشخاص من جنسيات بلدان مجاورة. ما يؤكد على أن تونس في طريقها إلى أن تتحول لمركز جامع ومصدر للمقاتلين والإرهابيين، أو منطقة عبور له. خاصة وأن عدد من التقارير يشير إلى تنامي أعداد التونسيين الذين التحقوا بالجهاد في سوريا.
في مسؤولية حكم النهضة:
ونحن نتابع ما يجري من أنشطة إرهابية، حتى وان كانت في طور أولي وما زالت لم تمر إلى السرعة القصوى، وهي قد تصلها إذا لم يتم تدارك الموقف وضبط خطة مقاومة واضحة أمنيا وسياسيا وثقافيا. وأن يتراجع خطاب البعض من الإسلاميين المستندين إلى أعذار واهية مبنية على مبدأ رفض إعلان الحرب على أساس الهوية أو اللحية أو النقاب أوالحجاب...فالحرب على الإرهاب لها عنوان واضح لا يقبل التردد وأنصاف الحلول، ما يجعل من حماية المجتمع وكيان الدولة واستمراريتها مسبقة على بعض التجاوزات التي قد تحصل هنا أو هناك، فليس هناك من عملية جراحية بدون ألم.
وهنا نؤكد على أن كل من يخرج على العقد الاجتماعي والسياسي الذي ارتضته المجموعة الوطنية لاستمرار العيش المشترك ولبقاء الدولة لا يمكن بحال من الأحوال التساهل معه أو اعتباره يبشر بثقافة أو "أنهم أبناؤنا ولابد من الصبر عليهم"، أو تطمينهم "بأن يصبروا حتى يتمكن للمشروع الإسلامي" مثلما سبق وصرح راشد الغنوشي رئيس النهضة، لأن في هذا مخاتلة ولعب بالنار.
وان كانت الاتهامات التي تحمل حزب النهضة وحكومتها مسؤولية هذه الظاهرة –الإرهاب الديني المسلح- ما تزال محتشمة. خصوصا وأنها سابقة لوصولها للحكم ولم يستطع نظام بن علي الأمني منعها من الظهور ومن تنفيذ عمليات. كما أن هناك ظروف موضوعية تتجاوز الحكومة ساهمت في بروز هذه الظاهرة وانتشارها لعل من أهمها انتشار السلاح الذي خلفه سقوط نظام القذافي(ليبيا) وهشاشة الوضع الأمني بعد الثورة. إضافة إلى أن الإرهاب أصبح ظاهرة "معولمة" ومقاومته تتجاوز حدود وإمكانيات دولة واحدة، أيا كانت قوتها.
لكل هذه الأسباب فان معالجة الإرهاب تتجاوز مقدرات الدولة، فالمعالجة شاملة ووطنية. وهذا ما أكدت عليه كل الأحزاب والمنظمات الأهلية التي شددت على أن الأوضاع الخطيرة التي تمر بها البلاد نتيجة تصاعد التهديدات الإرهابية، تفرض تكثيف الاتصال بين كافة الأحزاب السياسية للتشاور العاجل قصد القيام يتحرك شعبي واسع مناهض للإرهاب و داعم لمجهودات القوات الأمنية و القوات المسلحة في التصدي له.
ومع كل ما سبق، فان مسؤولية حزب حركة النهضة الإسلامية الحاكم، تبقي أكثر من غيرها بسبب وجودها في الحكم ووقوفها على أرضية عقدية مشتركة مع هذه التنظيمات. فهي لذلك مطالبة بالنأي بنفسها صراحة وأمام الملأ عن كل ما من شأنه أن يفهم على أنه مساندة لهذه الجماعات أو إعطائها غطاء سياسيا أو أمنيا أو ثقافيا من خلال تركها تحتكر الأنشطة في المساجد والفضاءات العامة. ولعل النهضة بدأت تدرك خطورة الجماعات الدينية المتشددة.
التي وان كانت تهدد المجتمع والدولة، فإنها ستكون أكبر المتضررين سياسيا وشعبيا. على اعتبار وجود خطوط تماس والتقاء ثقافي وديني بين النهضة وهذه الجماعات. ما يجعل البعض يخلط بينهما ويضع الجميع في كيسا واحدا وهو ما عانت منه في السابق النهضة وكل الجماعات الدينية المعتدلة. وقد برز هذا الإدراك –وان كان متأخرا- من خلال تصريحات زعيم الحركة راشد الغنوشي الأخيرة. والتي جاءت في أكثر من مناسبة.
بما يبين مؤشر على تفطنه لعواقب ما يحصل لكن اختار التدرج حتى لا يخسر هذا الجمهور سياسيا وتحديدا انتخابيا وأيضا لحسابات وتجاذبات داخل الحركة التي يشقها تيار نقدي واخر مرحب أو مساند للظاهرة. فقد سبق أن أكد الغنوشي في كلمة له في مدينة الجم- 11 نوفمبر 2012- عل أن " الحماس للإسلام جيد ومرغوب بشرط عدم تجاوز حدود الإقناع بالكلمة الطيبة والحجة مؤكدا أن النهي عن المنكر مطلوب إلا انه ينبغي أن يمر عن طريق أجهزة الدولة ومؤسساتها التي تحتكر استعمال القوة المادية ولا يحق للأفراد الحلول محلها تفاديا للفتن" .
كما ذكّر بالمناسبة أن القانون لا يفرّق بين المواطنين بسبب عقيدتهم أو لباسهم أو تدينهم بل يفرّق بينهم بحسب امتثال المواطنين له أو مخالفتهم له . وعاد ليؤكد يوم الاثنين ومن مقر المجلس التأسيسيي على أن " أن تونس ليست ارض جهاد، وما يحدث في جبل الشعانبي، هو «جهاد مدّعى وفي غير مكانه»، داعيا إلى الجهاد في فلسطين لمن أراد الجهاد. من جهته تبرأ تيار انصار الشريعة بزعامة سيف الله بن حسين –أبو عياض- من أحداث الشعانبي، واتهم كمال زروق احد قادة السلفية الجهادية في تونس في خطبة له باحد مساجد العاصمة المخابرات الجزائرية بتدبير تفجيرات سلسلة الالغام بجبل الشعانبي بالقصرين وقال ن طريقة زرع الالغام ونوعيتها تثبت حسب رأيه تورط المخابرات الجزائرية. وان كان هذا لا ينفي فرضية تورط هذا التيار الذي يعتبر بأن الثورة هديّة إلهية تضع البلاد التونسيّة على مسار الشريعة لولا أنّ حركة النهضة قطعت المسار إثر تمكّنها من الحكم”. بحسب أدبيات أنصار الشريعة. وقد دعا راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة خلال ندوة صحفية عقدها مطلع الأسبوع الماضي، بمقرّ الحركة المركزي بالعاصمة، المجتمع المدني والقيادات السياسية البارزة والإعلاميّين إلى “تشكيل جبهة وطنيّة ضدّ العنف. لكنّه قرَن عنف الجماعات الإسلاميّة بالحركات الاحتجاجيّة والإضرابات والاعتصامات”، واصفا إيّاها بـ”الإرهاب الاقتصادي” المعطّل للدّولة ولأمنها.
رفض مجتمعي للتشدد الديني:
ما يجعل من مقاومة الإرهاب ممكنة هو ذلك الرفض المجتمعي الكبير الذي برز في مواقف كل فئات وشرائح المجتمع التونسي والذي ترجم من خلال التأكيد على وجود ثقة كبيرة في المجهودات التي تقوم بها قوات الأمن والجيش الوطني للحد من خطورة الارهاب عبر محاصرته في جحوره وتجنيب وصول خطره الى المدنيين في المدن وفي الساحات العامة وفي المدارس والجامعات... وهذا ما يفسر درجة التعاطف الكبيرة التي أظهرها التونسيون تجاه العناصر الأمنية التي لحقها أذى الجماعات الارهابية خلال في جبل الشعانبي. والتي وصلت حد تفجر ألغام في وجه قوات الامن. تفجيرات نجم عنها بتر ساق أحد الأمنيين واصابات أخري متفاوتة الخطورة. كانت محل رفض كبير بل أن البعض من أهالي منطقة القصرين قصد الجبل في حركة رمزية وتضامنية مع الأمن والجيش لمشاركتهم في حماية أمن تونس.
وما يلفت الانتباه أيضا هو تلك العقيدة الأمنية الجديدة التي بدأت تتشكل لدى الأمنيين التونسين. وحرصهم خاصة على بناء أمن جمهوري لخدمة البلاد لا الأحزاب والأنظمة. مثل هذه العقيدة الجديدة عبر عنها عون الامن الذي بترت ساقه بعد انفجار لغم ارضي بجبل الشعانبي، اذ قال لوسائل الاعلام "حتى وان تضررنا واصبنا في الجبل فهذا احسن بكثير من ان يتضرر اي تونسي داخل مناطق العمران او في احد المراكز التجارية لا قدر الله خاصة وان هؤلاء الناس الذين نحن بصدد محاربتهم في الجبل لهم عقيدة وايديولوجية خطيرة و يمكن ان يلحقوا ضررا كبيرا بوطننا “.
كما أكد على "عدم ندمه على التضحية التي قدمها في سبيل تونس خاصة وانه يحب عمله كرجل امن" مشيرا الى "انه مستعد للعودة الى الجبل والقتال من اجل امن الوطن". بمثل هذه المعنويات المرتفعة أكد بسام وكل زملائه الواقفين على الحدود وفي الجبال يحرسون أمن بلادهم عن مسؤوليتهم ووطنيتهم العالية. وأنهم استطاعوا برغم كل محلات التشكيك التي طالتهم قبل وبعيد الثورة، تجاوزوها نحو التأسيس لبناء علاقة تقوم على الثقة والاحترام والتضامن مع أبناء شعبهم. وقد نقلت تقارير اعلامية رسائل لأمنيين، يدعون فيها التونسيين الى ضرورة الحذر في التعاطي والتعامل مع الارهابيين الذين يترصدون الشر بأمن تونس واستقرارها الذين يوظفون أحيانا بساطة وطيبة البعض وخاصة من سكان الأرياف لخدمة أغراضهم وأهدافهم التخريبية.
معركة القيروان.. الدولة في مواجهة الإرهاب:
عاش التونسيون مؤخرا حالة ترقب، مسكونة بالحيرة والخوف من نتائج مالأت الملتقي الثالث لأنصار الشريعة، الذي أصرت الجماعة على تنظيمه بمدينة القيروان يوم الأحد 19 ماي الجاري. وتمسكت بعدم تقديم مطلب ترخيص، في تحد صارخ للقانون وبالتالي للدولة. في المقابل أعلنت وزارة الداخلية عن منعها تنظيم الملتقى، ويساندها في ذلك غالبية الشعب التونسي. الذي يرفض "التمرد" على سلطة وهيبة الدولة، لأن ذلك يعني تسجيل سابقة خطيرة ستكون بمثابة مقدمة لتفكيك الدولة وانهيارها. في ظل هذا المشهد المتسم بما يعرف بلي الذراع. بين الدولة وجماعة أقل ما يقال فيها أنها "مارقة" عن القانون. فان خيار المواجهة و الصدام أصبح هو السيناريو الأقرب في العلاقة بين الدولة والجماعات الإرهابية. وهذا ما بدأ يحصل على الميدان بالفعل. من خلال "تجند" الأمن والجيش لمنع مؤتمر أنصار الشريعة. وإصرار هؤلاء على عقده في مكان أخر، ما أعتبر بمثابة ردة فعل على قرار الداخلية التي كسبت معركة لي الذراع مع هذا التيار.
تمسك أنصار الشريعة بعدم طلب ترخيص لعقد ملتقي القيروان، يمثل استهانة واستخفاف بالمؤسسات القائمة، وتهيئة للانقلاب عليها. لأن عدم الاعتراف بها يستبطن أليا رفضها. وهذا ما عبر عنه قادة هذا التيار عندما أكدوا أن الترخيص هو من عند الله، رافضين بذلك الامتثال للقوانين التي تنظم العيش المشترك، بين كل التونسيين. وهي خطوة دالة على أن هذا التيار منطق الصدام والمواجهة مع المجتمع والدولة لا مع الأمن فقط. في مقابل تعنت انصار الشريعة، فان موقف وزارة الداخلية كان متدرجا بل لا نبالغ في القول بأنه كان لينا. حيث لم تغلق الوزارة أبواب الحوار مع هذا التيار. برغم تصريحات قياداته المستفزة بل وأحيانا المهينة. وفي ذلك حرص على تجنب الصدام والمواجهة، وهو ليس موقف يعبر عن ضعف بقدر ما يعبر عن حكمة ومسؤولية، وعن ادراك لطبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد. وهذا ما جعل من قرارها النهائي يتم بعد استيفاء كل مراحل التعقل و الدبلوماسية برغم أنها ومن حقها احتكار العنف والاكراه للحفاظ على أمن البلاد والعباد، وهذا ما يجعلنا نقر بأنها تمارس العنف الشرعي.
ولعل منطوق ومنهجية بيان وزارة الداخلية الصادر عصر يوم أمس يعبر عن السياسة التي سلكتها الحكومة وأساسا الداخلية في التعاطي مع "الجماعة المارقة عن القانون". حيث أكدت الوزارة في بلاغها : "إنه على إثر إعلان ما يسمّى بأنصار الشريعة عقد تجمع بالساحات العامة بمدينة القيروان وذلك يوم 19 ماي 2013 على خلاف القوانين المنظمة للتجمعات ولقانون الطوارئ، وفي تحدّ صارخ لمؤسسات الدولة وتحريض ضدّها وتهديد للأمن العام، تعلن وزارة الداخلية ما يلي: تقرر منع انعقاد هذا الملتقى وذلك لما يمثله من خرق للقوانين وتهديد للسلامة والنظام العام. إنّ كل من يتعمد التطاول على الدولة وأجهزتها أو يسعى إلى بث الفوضى وزعزعة الاستقرار أو يعمد إلى التحريض على العنف والكراهية سيتحمل مسؤوليته كاملة.
إنّ أيّ محاولة للاعتداء على الأمنيين أو مقراتهم ستواجه بالشدة اللازمة وفي إطار القانون. تذكّر الوزارة أنّها ملتزمة بحماية حق التظاهر السلمي وحرية التعبير وممارسة الشعائر والدعوة بشكل سلمي لكل المواطنين وفق التراتيب والقوانين الجاري بها العمل. وتطمئن الوزارة جميع المواطنين على أقصى جاهزية قواتها الأمنية الباسلة بالتعاون مع قواتنا المسلحة، لحفظ سلامتهم وممتلكاتهم والتصدّي لكلّ مظاهر الفوضى وبث الفتنة في البلاد".
المواجهة المفروضة:
أول ما يلفت الانتباه في بيان الداخلية، هو عدم اعترافه بهذا التيار أو "ما يسمى بأنصار الشريعة"، وهنا اشارة الى أنه تيار غير معترف به رسميا وقانونيا. وبالتالي فانه في باب المتابعة القانونية. اضافة الى أن ما يؤتيه من أعمال تصنف خارج القانون ستجعله عرضة للمتابعة. اذ اعتبرت دعوته لاجتماع لا يخضع للتراتيب والاجراءات القانونية المعمول بها، يدخل في خانة تهديد الأمن العام. وبناء على موقف قانوني متماسك أعلنت الوزارة عن منعها للملتقي. وفي ذلك تعبير عن انتصار لهيبة الدولة ورفض المس بها، وهو مطلب كل التونسيين الذين تنادوا عبر شبكات التواصل الاجتماعي الى ضرورة تطبيق القانون.
وبهذا اختارت الحكومة ممثلة في وزارة الداخلية الاستجابة الى هذا المطلب المجتمعي. الذي لا يعني اختيار المواجهة كما قد يتصور البعض وانما حماية كيان الدولة من التفكك وكذلك حماية أمن وممتلكات العباد/المواطنين. ما يجعل منه قرار معبر عن تشبع بروح القوانين التي تصونها مؤسسات الدولة. وهو أيضا رسالة قوية وحاسمة لهذه الجماعات التي تنشط خارج القانون، وتعمل بالليل والنهار على فرض سلطانها وشريعتها على المجتمع. وبهذا تكون الداخلية قد عبرت بقرارها، الذي جاء منسجما مع مطلب قطاعات واسعة –ان لم نقل الأغلبية- من المجتمع و عن رفض التونسيين الخضوع لابتزاز هؤلاء وأمثالهم.
لقد أقامت الداخلية "الحجة" على هؤلاء، واختارت المرور الى تطبيق القانون، وسط مساندة ودعم شعبي كبير وغير مسبوق. بما يعني أن هذا التيار هو في عزلة شعبية اضافة الى كونه متمرد على القانون وخطر على استمرار كيان الدولة ووحدة المجتمع. ما يجعل من محاربته ترتقي الى حد أن تصبح فرض عين، أي فرض على كل التونسيين وليس الأمنيين فقط، وهو بذلك يوحد ويقوي التضامن بين الأمنيين وكل النسيج المجتمعي. وهنا على المجتمع أن يعي جيدا أنه دخل في معركة مع جماعات ارهابية، تعمد الى التطاول على القانون وتكفر المجتمع ومؤسساته، وهي بذلك اختارت المواجهة مع المجتمع لا مع الأمن الذي تكفره وتنعته ب3الطاغوت3.
لذلك على المجتمع أن يطمئن لسلطة الدولة، وأن لا يخضع لارهاب جماعات تريد أن تفرض قانونها الخاص ورؤيتها الخاصة. وهذا ما حرص بيان الداخلية على ابرازه، وهو يتوجه للمواطنين برسالة طمأنة على أن أمنهم وممتلكاتهم وأبنائهم وأعراضهم، هي أمانة في يد الدولة ومؤسساتها الأمنية وفي يد وحدات جيشنا الوطني. في استعداد من الدولة لمواجهة فرضت عليها ولم تختارها لكنها ماضية فيها وليس لها من خيار غير ذلك.
كانت "معركة القيروان" حاسمة في تدشين الدولة لسياسة جديدة في التعاطي مع هذه الجماعات، التي استفادت من أجواء الحرية ومن ضعف الدولة، لتتحول الى تنظيمات تعمل على تقويض الدولة. ما يجعل من مواجهتها الامنية ضرورية وهذا ما نجحت فيه الدولة بمنعها لمؤتمر أنصار الشريعة. وليس التأكيد على صواب مثل هذا القرار دعوة الى التجييش ضد التيار السلفي، أو تعجيل بالمصادمة التي قطعا لن تكون في صالح سمعة وصورة تونس وأمن مواطنيها، لكنها أصبحت شر لابد منه. وبهذا فان هذه الجماعات هي التي فرضت المواجهة على الدولة. فقد سبق أن توجّه زعيم السلفية الجهادية في تونس، والمكنّى بأبوعياض، برسالة لأنصاره تضمنت دعوة صريحة لاقتراب المواجهة مع من سمّاهم طواغيت الحكم بتونس.
كما دعا أبوعياض، في خطابه الذي نشره على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، الشباب المنتمين إلى "أنصار الشريعة" لعدم التراجع والتفريط في المكتسبات التي حققوها، معتبراً أن التفكير في التراجع عنوان للهزيمة. واعتبر أن هذه المرحلة بداية الطريق الشاقة والمتعبة، مشدداً على أنه لن يثبت عليها إلا الرجال، معتبراً الوضع الحالي "هو امتحان وابتلاء يعرف به الصادق من الكاذب والثابت على الحق من المدعي".. وطلب من أنصاره المزيد من التضحية حتى ولو "استأصلوهم عن بكرة أبيهم، مقابل أن لا يخدش التوحيد ولا تضيع أمانة الدين".. وقال: "إخواني أنتم اليوم تسطرون بجهدكم وعرقكم تاريخ أمتنا وإني لأشد على أيديكم وأدعوكم إلى احتساب ما تلقونه من الطواغيت عند الله ووالله إني لأتألم لألمكم وأفرح لفرحكم وإني على يقين لا يتخلله شك أن دعوتنا منصورة وأن العاقبة ستكون لنا وإنما النصر صبر ساعة فأثبتوا لأعدائكم أنكم على العهد مع الله ماضون".
وتوعد أبوعياض أعوان الأمن، مشيراً إلى "أولئك الطواغيت المتسربلين بسربال الإسلام والإسلام منهم براء.. اعلموا أنكم اليوم صرتم ترتكبون من الحماقات ما ينذر بأنكم تستعجلون المعركة.. وإني أقول لكم إنكم والله لا تحاربون شبابا و إنما تحاربون دينا منصورا بنصر الله ولا يمكن لأيّة قوة في الأرض مهما بلغت أن تلحق به الهزيمة".. وأضاف "أذكركم أن شبابنا الذين أظهروا من البطولات في الذود عن الإسلام في أفغان والشيشان والبوسنة والعراق والصومال والشام لن يتوانى أبداً في التضحية من أجل دينه في أرض القيروان ووالله إن تلك البلاد ليست بأعز على شبابنا من بلادنا فانظروا إلى عواقب الأمور وإياكم من التمادي في حماقاتكم".. وشدد في كلامه نحو رجال الأمن بأنه لن تنفعهم أي دولة قائلا "لن تجديكم مناصرتهم شيئا إذا ما قعقعت السيوف وأريشت السهام وضرب النصال بالنصال فوالله إن أرواحنا أرخص من أن نحرص عليها إذا ما حورب ديننا وضُيّق على دعوتنا.. فالعقل العقل والتدبر التدبر قبل أن ينفرط العقد وإني لا أراه إلا منفرطا"..
قوة الدولة ..مطلب مجتمعي:
بإصرارها على منع مؤتمر أنصار الشريعة، تستجيب الدولة في تونس لمطلب مجتمعي يلح على ضرورة محاربة التنظيمات السلفية المتشددة التي تمثل خطرا على وحدة المجتمع وكيان الدولة وعلى المكاسب التي تميز النمط المجتمعي التونسي. وبرغم حصول بعض المواجهات مع قوات الأمن، فان أنصار الشريعة فشل في تنظيم مؤتمره. وهذا ما أقر به في بيان منسوب الى ابو يحي الشنقيطي عضو الهيئة الشرعية لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي، الذي أورد جملة من عبارات الصبر والحسبان لانصار الشريعة لفشلهم في فرض ارادتهم على الدولة التونسية.
وأشار البيان الى ان انصار الشريعة في تونس يعيشون محنة مخاطبا اياهم “ان امتكم تعيش مرحلة صعبة,تجمع في طياتها بشائر وأحزانا, والله المستعان”.. و وصف الذين تصدوا لملتقى انصار الشريعة بالمرتدين والخائنين قائلا “تونس تمر بمنعطف خطير, ومكر كبير, سواء من أعدائنا الصليبيين من الامريكان (او من ) عملائهم الخائنين من الروافض والمرتدين, مع هذا وذاك كان لزاما على المسلم أن ينصح لدينه وأمته,إذ الدين النصيحة كما صح عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم”.. و كرر البيان رفض تنظيم القاعدة للديمقراطية متوجها لاهالي القيروان بخطاب يدعوهم فيه الى رفضها حيث يقول البيان”أنبه أهلنا وأحبابنا في تونس القيروان، أن لا ينخدعوا بأصحاب الدعوات الديمقراطية الذين زخرفوها باسم الحق وألبسوها لباس الدين , من أصحاب النزعات الضالة والدعوات المنحرفة عن سبيل الجادة التى تغلغلت في مجتمعاتنا حتى بلغ سيلها الزبى”.
كما اكتفى البيان ببعض النصائح الدينية بعيدا عن الدعوات والتحريض للجهاد التي عرف بها تنظيم القاعدة مما يعد انتكاسة قوية للتنظيم في تونس كما يعد خطاب القاعدة لانصارها في تونس من خلال هذا البيان بمثابة القناعة بان انصار القاعدة في تونس لا يتحملون الدخول في مواجهة مسلحة في القيروان او في غيرها من المدن التونسية بعد الضغط الامني الذي قامت به وزارة الداخلية التونسية و قرارها الحاسم لمنع ملتقاهم الثالث في القيروان.