حين يتأمل المرء فى ممارسات القطعان الهائجة التى تبعثر الخراب والفوضى فى مشرق العالم العربى ومغربه،  والتى تمثل بسوداويتها وظلاميتها النقيض الكامل لدلالة التنوير ومعناه، فإن ذلك لابد أن يفتح الباب الآن أمام وجوب إثارة سؤال التنوير فى العالم العربي.

لكن تعيين شكل السؤال يبدو ضرورياً، لأن هذا التعيين سوف يحدد الكيفية التى سيجرى بها التفكير فى الجواب عليه. إن ضرورة ذلك تتآتى من أن وضعاً للسؤال فى صيغة بعينها سوف يوجه إلى التفكير فيه على نحوٍ قد يودى بالوعى إلى الضلال. ومن هنا أن وضعاً لسؤال التنوير فى الصيغة التالية: لماذا أخفق التنوير فى العالم العربي؟ إنما يختلف بالكلِّية عن وضعه فى صيغة: هل أخفق التنوير فى هذا العالم فعلاً؟. إذ فى حين أن السؤال الأول يفترض أنه قد كانت هناك عملية تنوير، وأنها قد أخفقت، وأنه يلزم الوعى بأسباب هذا الإخفاق، فإن السؤال الثانى يجعل من افتراض أنه كانت هناك عملية تنوير أصلاً موضوعاً للمراجعة وإعادة النظر. ولعل مثل هذه المراجعة تبدو هى الأكثر إلحاحاً الآن بسبب ما يتواتر فى فضاءات العرب من موجات إظلام تؤشر على أنه لم تكن هناك عملية تنوير أصلاً. ومن هنا منطقية أن تكون الصياغة الأنسب لسؤال التنوير هي

هل أخفق التنوير العربى؟

ولعل مدخلاً للجواب عن هذا السؤال يبدأ من تفكيك المقولة التى جرى الاصطلاح على أنها تمثل جوهر التنوير وقلبه؛ والتى تقرر أنه “لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه“. فإذ يكشف التحليل عن أنها قد تبلورت فى سياق تجربة التنوير الأوروبية، كنوعٍ من الإعلان الكاشف عن عقلٍ خاض معركته، وانتهى بعد صراع مرير مع السلطة القائمة- ومع كل ما تتخفى وراءه من الأقنعة اللاهوتية والاجتماعية المتكلسة الجامدة- إلى تأسيس سلطته وتوكيد سلطانه، فإنها قد تحولت فى سياق ما قيل إنها تجربة التنوير العربية إلى مجرد تعبير بلاغيٍ لطيف يثرثر به سدنة هذا التنوير والمتاجرين به؛ ومن دون أن تؤثر هذه الثرثرة فى الواقع كثيراً. ويرتبط ذلك بحقيقة أن عقل العرب لم ينخرط بعد فى المعركة- التى لابد من حسمها- ضد السلطة القامعة؛ وما يؤسس لها فى قلب الأنظمة اللاهوتية والأبوية المهيمنة. ولهذا فإنها تتحول- وللغرابة- إلى مجرد زخرف يغطى به العقل على خضوعه لتلك السلطة التى تجعل منه قناعاً لها.

ولعل الدرس الجوهرى هنا يتمثل فى أن هذه المقولة عن “سلطان العقل” إنما تتبلور كنتاجٍ لفعلٍ متعيِّن ينجزه هذا العقل فى الواقع التاريخى إقصاء لكل ما يعارضه؛وعلى نحوِ يغدو فيه العالم محكوماً بالعقل فعلاً على نحو ما تبدى لهيجل الذى هو الوريث المباشر للتنوير. فقد تبلورت عقلانية التنوير بما هى فعل تحررٍ فى العمق. والتحرر، فى جوهره، هو فعل نفى ورفض؛ وذلك انطلاقاً من أنه يبدأ كممارسة إنسانية نافية لكل وضع قائم يُراد من البشر أن يخضعوا لسطوته؛ وهى ممارسة لاتقتصر على جانبٍ واحدٍ فقط من جوانب النشاط الإنسانى، بل تطال كل المجالات التى يتقاطع معها هذا النشاط. وابتداءً من كونهما فعلى نفى ورفض، فإنه يمكن المصير إلى جوهرية التماهى بين العقلانية والتحرر؛ وإلى حد إمكان اعتبار العقلانية هى فعل تحرر فى الجوهر. والحق أن العقلانية قد انبثقت فى سياق الحداثة الأوروبية كممارسة تحررية تتصف بالشمول والكلية؛ وذلك من حيث لم تقف عند حدود“الإنسان” الذى أدرك الوعى أن سعياً إلى تحريره وتأكيد مركزية حضوره وسلطانه فى العالم, لا يمكن أن يتحقق إلا عبر توسيع مجال التحرر ليشمل أيضاً كلا من الطبيعة والمجتمع والتاريخ التى كان عليها أن تتحرر جميعاً- فى موازاة تحرر الإنسان- من قبضة الوهم وسلطان الخرافة. وهكذا فإن الوعى حين كان يحرر نفسه، كان يحرر غيره (كالطبيعة والمجتمع والتاريخ)؛ وأعنى من حيث راح يرتفع بها إلى مستوى المعقولية، وذلك عبر الكشف عن نظام العقل الكامن فيها، والذى بدا أنها جميعاً إنما تنبنى بحسبه.

ولعل شمول فعل التحرر على هذا النحو, يكشف عن الطبيعة الجدلية, وغير الصورية، لتلك العقلانية التى بدا أنها لا تنبنى على تصور للعقل هو بمثابة جوهر أو أقنوم جامد بحسب ما تصوره القدماء, بل على اعتبار العقل ممارسة مفتوحة لا تكف عن الاغتناء والنماء؛ وبما يعنيه ذلك من تاريخيتها. فالعقل فى الحداثة الأوروبية هو تكوينٌ متنام ومشروعٌ مفتوح، وليس جوهراً أو معطى جاهزا ومكتملا. وغنيٌّ عن البيان أن هذا الانبناء المفتوح للعقل إنما يحيل إلى أن المعركة التى يخوضها هى معركةٌ مفتوحة بدورها؛ وبما يعنيه ذلك من أن صراع العقل ضد كل ما يعانده هو جزءٌ من طبيعته وتركيبه.

وإما فى إطار تجربة لم يخض فيها العقل معركته ضد ما يعارضه، ناهيك عن أن يحسمها، على نحو ما هو حاصل فى عالم العرب، فإن الحديث عن سلطان العقل لا يجاوز كونه مجرد ثرثرة ليس لها من أثرٍ فى الواقع. ولعل ذلك يجد ما يدعمه فى حقيقة أن مجرد نظرة على الواقع العربى الراهن تنتهي- أو تكاد- إلى أن السلطان الراسخ لا يزال قائماً- من دون أى تحد- لكلٍ من الوهم والخرافة، دون غيرهما. فإنه لا معنى لأن يكون الإسلام السياسي- وذروته داعش- هو نتاج الفعل الثورى العربى فى بدايات القرن الحادى والعشرين، إلا أن سلطان الوهم هو الأقوى؛ وهووهم أن يكون الماضى المُتخيل هو السبيل إلى إخراج العرب من أزمتهم. وحين يدرك المرء ما يبدو من أن عقل العرب لم يجد ما يتكىء عليه فى المواجهة معداعش إلا وهم الإسلام الوسطى المعتدل؛ وبما يعنيه ذلك من أنهم يستبدلون وهماً بوهم، فإن له أن يتساءل: هل أخفق التنوير العربى فقط أم أنه لم يكن هناك أى تنوير أصلاً؟.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.