بدأت تستفحل منذ سبعينات القرن العشرين بشكل ملفت، حتى لرجل الشارع في الدنيا كلها، ظاهرة تنامي المستفيدين من الاسلام سياسيا، التي سُميت عن طريق الترديد؛ الاسلام السياسي أو الجهادية أو المتأسلمين أو الاصولية المتشددة. جذبت انتباهي هذه الظاهرة وكنت كلما تتبتعها طوال ربع قرن، اقف حائرا في منتصف الطريق الى الحقائق، فالمستفيدون من الاسلام سياسيا مختلفون في ما بين انفسهم، ما يجعل الوصول الى الحقائق صعب للغاية؛ فالمدارس المصرية المتخرجة في جماعة "الاخوان المسلمون" لا يجمعها فقه واحد، وكذلك المدارس السودانية المتخرجة في مدرسة محمد احمد المهدي، والسعودية المتخرجة من الوهابية، حتى مدارس المغرب العربي تختلف عنهم تماما في منهجيتها، رغم الهدف المشترك الذي يجمعهم كلهم وهو الوصول الى السلطة، وليس نشر الدين أو ازالة ما علق به من شوائب مثل ما يدّعون.
فهذه الامور لا تستلزم نسف المساجد أو ارتكاب جرائم حرب فيها في شهر رمضان، وهو من الاشهر الحُرم التي مُنع القتال والاغتيال فيها من ايام الجاهلية. وكان الحل الوحيد امامي هو قراءة بطريقة فلاش باك تبدأ منذ العصر الاسلامي الاول وتنتهي في ايامنا، وليس العكس، لأصل الى بعض الحقائق وأجد ردا لما امتنع المستتفيدون من الاسلام سياسيا عن الرد عليه منذ البداية حين سألهم العالم: ما معنى الجهاد وهو موّجه ضد مَن؟ ولأن العصمة ليست واردة في البشر، ارحب بأي تعليق أو تصحيح يستند الى مراجع، بعيد عن غوغائيات وسكاكين عالم اليوم
كما انني غير ملزم بالرد على من سيقول انني مسيحي يكتب عن ظاهرة اسلامية، فبعض حملة الدكتوراه في الدين الاسلامي، وحتى بعض ائمة الجامع الازهر الشريف، حصلوا على شهادتهم العلمية من السربون الفرنسي، والمعرفة لا تقف عن حدود الهوية الدينية، بينما يناقش الكاتب موضوعا تاريخيا سياسيا اجتماعيا في نقاط محددة، محصورة في ما ورد بها من مضامين، خصوصا ان موضوع الاستفادة من الاسلام بعد قراءات بدأت من أكثر من عقدين، ليس موضوعا يخص العقيدة، بقدر ما هو امور أُلبست ثوب الدين!

وقائع وتكاذب

هناك فرضية بديهية سأنطلق منها، بعيدا كل ما نسمعه ونراه من تقويض الدول وذبح على الملاْ ودخان قنابل ودماء ضحايا الاغتيالات وسيارات مفخخة واسترقاق المرأة، وهي ان أي مجموعة بشرية تريد السلطة، وفق نظام اجتماعي ما، امر طبيعي مباح. وقد سعت مجموعات بشرية على الكوكب منذ ألوف السنين لهذا الهدف بالتمحور حول فكرة عملوا في سبيلها واقنعوا الناس بها، وتلازم ذلك مع عمل خطط اقتصادية وتأسيس كوادر اجتماعية وعمل دراسات وحلقات فكرية لبثها في الشباب لتعيش في مستقبل أي شعب أو امة، وتطورت هذه الامور في العصور الحديثة لتصل الى مسح شامل لمشاكل الناس ومحاولة ايجاد حلول للبطالة والاقتصاد المتعثر ومشاكل العولمة والبيئة ومكافحة الجريمة وما الى هنالك، وبعد اندثار العهود الملكية ظهر صندوق الانتخاب، وهو مقياس الرأي الحقيقي لقبول الافكار المطروحة. وابدأ من هذه الفرضية البديهية التي لا يختلف آدميان عليها.
لا شك ان التيارات المستفيدة من الدين الاسلامي تريد الوصول الى الحكم، وما عدا هذه الحقيقة الناصعة يبقى في اطار التكاذب، لأن اصحابها لو كانوا يبغون الوعظ والارشاد او حتى نشر الدين الاسلامي ورفعته، ما كانت هذه النتائج الدموية، وجغرافية الحقد التي تقاسم العالم بكامله ثمارها وبدأت ملامحها تظهر حتى عند غير المسلمين.
ارتدي المستفيدون من الدين الاسلامي ثوبا دينيا فضفاضا جدا، يفوق الثوب الذى لبسه رجال الدين المسيحي وبابوات الكاثوليك في العصور الوسطى، وتجاربهم مع الدول الدينية ومباركتهم على أقل تقدير الملوك الخاضعين لهم. تلك التجارب التي فشلت وتجاوزها الفكر النهضوي الاوروبي الى غير رجعة، بعد ان ذاقوا مرارتها ونتائجها المؤسفة. المقاربة تكاد تتطابق حين نقارن بين رفع المستفيدون من الاسلام سياسيا شعار "الجهاد"، الذي يتساوى مع "الحرب المقدسة"، او "الصليبية" حسب بعض الترجمات، عند المسيحين.
عمليا، شعار "الجهاد" وسمته الحكومات العربية بالعنف، ونعتته الاقلام المحايدة والجموع الشعبية بالتطرف واصحابه بالمتطرفين. والانسان يشعر بالحيرة حتى داخل فقه المعسكر الجهادي العالمي المفترض ان يكون واحدا، فجهاد طالبان وشروحهم تختلف عن جهاد الجماعات المستفيدة من الاسلام سياسيا في مصر. وتختلف جماعات الكويت عن مصر، وتختلف طالبان والجماعات الكويتية والمصرية كلية عن تفاسير جماعات الجزائر. ويختلف هولاء كافة عن جهاد وتفاسير جماعة حزب الله اللبنانية. حتى جماعات باكستان التي تقول: اللهو اكبرا، أي الله اكبر، اصبح لهم تفسيرا في امر مرجعيتهم باللغة العربية، التي لا يحسنوا الحديث أو الكتابة أو القراءة بها.

شهادات وتاريخ

اذا اطلعنا على التحقيقات وقضايا تيار هذا الجهاد فى مصر، لأنها ربما هي الوحيدة التى يمكن الاطلاع عليها حيث نُشر معظمها في كتب، واقوالهم ودفوع محاميهم وشهادات الشهود نفيا واثباتا وفتاوى شيوخ كبار اجلاء لهم المكانة، والتعقيبات عليها واحكام القضاء، سنجد انفسنا عاجزين تماما عن تحديد الجهاد وتفسيره ومعناه والمقصود منه والموجهه ضدهم! لذلك سأضع الجانب الفقهي، المختلف عليه من المسلمين انفسهم، لألقي نظرة على الموجات المتراكمة، على ما يمكن ان يوصف عنف أو جهاد، او بعبارة اخرى أكثر دقة: الحلال هنا والحرام هناك.
هذه التراكمات، رغم ان اسباب كل منها تختلف عن الاخرى، إضافة الى تاريخها المنفصل، تفصح صراحة عن صراع سياسي اجتماعي أُلبس ثوب الدين، تحصن كل فريق فيه بفقه إمامٍ يناسبه، ثم احتكم في الصراع الى القوة لحسم امر الصراع عسكريا.

التراكم الأول

جاء العنف الى الساحة السياسية منذ ما قبل الاديان السماوية متسربلا ثيابا دينية احيانا! وكل الحضارات قتلت باسم دين ما وفي سبيل إله ما. حتى المسيحية التي لا سياسة فيها، حُوكِمَ مسيحها بتلفيق تهمة سياسية له، وسيسها اهل اوروبا وغزوا الشرق الاوسط.
اتى التراكم الاول اسلاميا في زمن الخليفة عثمان بن عفان، صديق النبي محمد ورفيق معظم معاركه وممول بعضها. الخليفة الثالث جامع القرآن، الذي كان مقتله عند البعض جهادا وحلالا، وعند فريق آخر كفر وحرام. وقد تحصن كل منهما بدعاوى دينية فقهية، رغم ان الصراع لم يكن على رفعة الدين، بل اُخذ الدين كأحد معطيات اللعبة السياسية الاجتماعية وقتئذ.
تكرر المشهد بصورة أكثر عنفا مع الخليفة الرابع، احد آل بيت النبي محمد. أعلم الرجال بالقرآن، الامام علي بن ابي طالب، وطال العنف ابناءه واحفاده، وما حدث لا يمكن ان يكون سوى صراعا سياسيا اجتماعيا تسربل بثياب الدين، لأن الرجليّن في جملة "السلف الصالح" حسب ما يقول المستفيدون من الاسلام سياسيا! وجاء كل فريق وقئتذ بدعاويه الفقهية. بل وصل الامر مع اغتيال الامام علي ان اعتبره البعض حلالا لهم، وكان التمثيل بجسد الحسن والحسين بعد تمزيقهما جهادا. هكذا تقول كتب المسلمين!
قراءة هذه المشاهد الدامية الحزينة، توحي بتدّيين السياسة، واختلاط عادات الجاهلية البغيضة التي نها عنها الاسلام بصورة لا لبس فيها، وتوحي ايضا ان البعض نسى اسلامه الحنيف، ورجع بالصراع السياسي الى عروة القبيلة وثأر الجاهلية.

الذاكرة الجاهلية

يبدو ان الامويين حين انتصروا رجعوا بالذاكرة العشائرية القبلية الى ثأر معركة بدر، وتذكروا مساعدة ومساندة اهل المدينة الى النبي محمد في قتاله ضد أبا سفيان جدهم، لأن معاوية حين زار المدينة، وخرج اهلها مرحبين خوفا وعلى مضض، وقف خطيبا وقال جملتة المشهورة:" أمّا بعد، فاني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة".
وجاء في كتب التاريخ ان القائد العسكري مسلم بن عقبة، حين ذهب ليفرض على سكان المدينة البيعة ليزيد بن معاوية، اشاع القتل والدمار، وقيل عن عسكره انهم اغتصبوا أكثر من ألف فتاة بكر، وقد صمم على اخذ البيعة بالقوة وليس بالمحبة. اصّر على اخذها منهم مبايعة العبيد. وكان من يقول لبن عقبة: بايعته (يزيد) على سنة الله ورسوله يُقتل، لأنها بيعة مشروطة، وهو يريدها غير مشروطة، حتى لو كانت على سنة الله ورسوله! وقال لهم جملته المشهورة: اريد بيعتكم كبيعة العبيد بغير شرط.
اما يزيد بن معاوية نفسه، وبعد البيعة التى حصل عليها كبيعة عبيد، كما نفذها قائده العسكري، فقد شعر بالزهو بنصره على اهل المدينة، وتشفى بهم شعرا قائلا:
ليت اشياخى ببدر شهدوا
فزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا
ولقالوا ليزيد لا فشل

للموضوع صلة

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.