مي زيادة (1886 - 1941) أديبة وكاتبة فلسطينية - لبنانية، وُلدت في الناصرة عام 1886، أتقنت مي تسع لغات هي: العربية، والفرنسية ووالإنكليزية والألمانية والإيطالية والأسبانية وواللاتينية وواليونانية ووالسريانية.

مي زيادة .. قامة أدبية فكرية سامقة , استطاعت أن تتربّع على عرش الأدب بكل جدارة واحترام , في زمن بداية النهوض الفكري والتنويري التحرري في منطقتنا حين كانت بلادنا مسوّرة أو مزنرة ومكبّلة بالإحتلال العثماني .. والإستبداد .

شقت الأديبة مي زيادة الطريق جنباً إلى جنب مع أخيها الرجل بكل جرأة واقتدار, بعد أن كوّنت و بنت ذاتها الفولاذية بالمقوّمات الخلقية والإيمانية والفكرية النظيفة , ورسمت صورة للمرأة الحرّة الطليعية .

كرّست المساواة والأخوة بينها وبين الرجل في أجمل وأنصع علاقة وكفاح يومي على صفحات الجرائد ومجالس الأدب , التي كانت محطات ميدانية وممارسة عملية للحوار والتفاعل والإنفتاح والتحرّر , لبناء الأجيال والأوطان نحو التقدم والتفاعل وتطوير المجتمعات المغلقة الإستبدادية الرجعية .

إنها إبنة المرحلة المحلية , والمتوسطية , والعالمية – إبنة البيئة , والمحيط العائلي الفكري والثقافي ... والمشارب التي شربت منها , وتنقلت في ساحاتها وملاعبها ومدارسها وأديرتها التي زوّدتها بالمواد اللازمة لبناء الذات .. وأعطتها السلاح الذي لا يقهر للإنسان وخاصة المرأة , ألا وهو سلاح العلم والعمل المختلط .. المنفتح على كل الاّراء والفلسفات والإتجاهات والطوائف والإختصاصات , وبدأت تأخذ وتعطي مع كبار رجالات العلم والمعرفة والأدب في تلك المرحلة من بداية القرن العشرين , حيث كانت مصر بعيدة عن المركز- وجور السطان العثماني وكرباجه اللاذع وسياسة تتريكه ...

إن فتح ( صالون ) أي منتدى أدبي , كلمة ليست سهلة , وإدارة حوار ولقاء لهذا العدد والكم من العباقرة في ذلك الوقت المبكر من الإحتلال التركي وجو ( الحريم ) والفصل بين الجنسين والتعصّب لا شك أنها كانت خطوة في منتهى الجرأة والإقدام لفتاة في عمرها وهذا إن دلّ على شئ فإنه يدل على نمو الحركة الفكرية والثقافية والفنية والأدبية والصحافية - وعملاً ليس سهلاً وبسيطاً أبداً ..!

يا لروعة الحلم والتصميم .. وحضن مصر الدافئ ,, يا إلهي , كم رجعنا إلى الوراء من العقود والعصور, واليوم تمنع المرأة من ممارسة هذا الحق وتغلق المنتديات , وتعتقل عضزات وأعضاء المنتدى في سورية في القرن 21 ..!؟ يا للتعاسة .. والتجهيل !
ونتساءل لماذا قامت الثورات الشعبية الشبابية اليوم!؟؟
..................

في تلك الأيام .. كانت القاهرة تحاكي باريس , بل كانت إمتداداً لها فناً ورقياً وعلماً وأدباً واجتماعاً وثقافة وانفتاحاً على العالم..
مصر ... أم الصحافة .., كانت القاهرة ( هايد بارك العرب ) و ( هوليود العرب ) أكثر الكتاب والفنانين والصحافيين من سورية وفلسطين ولبنان يلجأون لها هرباً من طغيان السلطان العثماني , حيث كانت هذه البلاد تعجّ بالأفكار والنشاطات السياسية والصحافية والندوات والصالونات الفكرية والأدبية .
نحن بنات وابناء هذا الشرق العريق , واستحضار هذا التراث , هو نوع من النضال بالقلم .. والكلمة .. واللوحة والثوب والصورة والحجر , لإثبات الإنتماء الوطني والثقافي والفخر به , هو نضالنا اليومي .. بأننا لسنا نكرات لسنا طارئين ,, إننا الجذور وامتداد للأهل والأجداد وأهل البلاد .. وسكانها الاصليين فنحن من يدافع عنها لا الغرباء ولا الجبناء ولا أصحاب القصور والمرتزقة نحن أبناء هذا الشرق العريق .. بثقافته وأسمائه وتاريخه ..!
..........

هذه المقالة الثانية أكتبها عن هذه الأديبة الجليلة الرائعة , أجد نفسي أنني أمام بحر مي , ومحيط جبران ; فماذا أكتب .. وماذا أترك .... !؟ فعلينا إذا ,, التسلح بلباس الإنقاذ حتى لا نغرق في أمواج ثقافتنا العارمة التي جرفت إلى الشواطئ كل خصب الفكر والتنوير الثقافي والفني والروحي والسياسي والعاطفي والعقلي .
الأدب رونق الحياة , عسل الحياة , رقي ووعي , مشاعر وأحاسيس تتفاعل مع المحيط في لحظة ما وحدث ما ومعطى ما ,, فالإنتاج الأدبي في أي مرحلة كتب , هو تحليل للأحداث ومراّة لمستوى التفكير والحراك الإجتماعي والسياسي والفكري والثقافي لدى الشعب , أو المجتمع الذي أفرزه ..
كيف لا ؟ وها هي رائدتنا مي زيادة من خلال أدبها وسيرة حياتها وتنقلها , تعكس لنا مظاهر الحقبة التي عاشت بها وأنتجت روائعها في عصر مضى وعصر ماقبله .. !؟
عندما نقيّم أو نضئ على أي أدب أو إنتاج فكري لأي كاتب أو أديب و سياسي علينا أن ندرس الزمان والمكان الذي نشا وتكون به , وما يحيط بهما من مؤثرات محلية وأقليمية ودولية , هذه أولاَ – وثانياً تاريخ المنطقة في تلك الحقبة والصراعات الدولية التي كانت مهيمنة عليها , والرياح الثقافية والفكرية التي هبّت عليه , أو كانت سائدة فيها, إذا لابد من أخذ كل هذه الإعتبارات والخلفيات والمؤثرات البعيدة والقريبة المحيطة بها عائليا أسريا ووطنيا .
هل مي زيادة هي إبنة عصرها أم نقلة وخطوة في غير مكان أو إستثناء ؟
ماذا أعطتها فلسطين المولد والحضن العائلي ؟
ماذا أعطاها لبنان العلم والدراسة والتربية الإيمانية والأخلاقية ؟
ماذا أعطتها مصر العمل والأجواء والمناخات ( الحرية الأدبية الإجتماعية والصحافية – مركز إتصال الغرب بالشرق ( حملة نابليون ) وتأثيراتها على الإنفتاح ؟
وبعد كل هذا , ما دور الوالد في تنمية وتطوير واكتسابها للمعرفة الصحفية الإعلامية ..
كل أعطى لمي بما لديه من تأثيرات ..
...................

لا ننسى مدينة الناصرة الفلسطينية التي ولدت فيها أديبتنا ( 1886) , مم لموقعها ومركزها من أهمية , وتواجد المدارس الروسية المبكّرة فيها ( المسكوبية ) وتأثيرها على الجو العلمي والثقافي – الناصرة في تلك الحقبة تعادل اليوم مدينة كباريس أو لندن أو أي مركز متنور اّخر .
نهاية القرن التاسع عشر هي مرحلة بداية الوعي الثوري والتحرري العالمي أوربا عامة وفرنسا وألمانيا وروسيا ,,

في تلك الفترة لا ننسى أن البلاد العربية جميعها كانت لا تزال تنضوي تحت الإحتلال العثماني الذي دام 400 عام بالكمال والتمام من 1614 – إلى 1918 م .

كانت تعيش منطقتنا العرية مرحلة مخاض .. فوران – كما اليوم - .. ضد سياسة التتريك , والحروب , والإستبداد , والتعصب , والجهل , كثرت أو ولدت وبرزت خلالها تأليف الجمعيات والمنظمات والأحزاب السرية والعلنية التي نادت بالتحرّر من الإحتلالات الأجنبية تحت شعارات الإستقلال والحرية ..., فترة المؤتمرات العربية في باريس ... ولذلك كانت فترة مخاض حرجة , فترة نهوض وطني تحرري في كافة البلاد من العراق حتى المغرب مرورا بفلسطين وسورية ولبنان ومصر وغيرها

فترة ومرحلة النهضة وعصر التنوير .. وظهور الباحثين والمفكرين والكتاب أمثال : عبد الرحمن الكواكبي – محمد عبدة – قاسم أمين - رفاعة الطهطاوي – جورج أبيض – سلامة موسى - جبران خليل جبران – جرجي زيدان – معروف الرصافي – فرنسيس مرّاش - علي عبد الرزّاق – مصطفى المنفلوطي - أمين الريحاني - مطران خليل مطران - ماري عجمي ووو ... القائمة تطول ..
فهي إذاً ... إبنة تلك المرحلة .. مرحلة النهضة على كل صعيد

هذه المرحلة في تصوّري كانت هي قمة الوعي المحلي والعالمي , بالنظريات والأيديولوجيات والإنتفاضات والثورات الشعبية والعلم والمعرفة والتواصل الفكري , وثمار رياح الثورة الفرنسية ..والكومونة التي عبّدت للثورة الروسية البلشفية والنضال الأممي للطبقة العاملة حركات اليد العاملة والشغيلة والطلبة ( عمال الموانئ والحرفيين والمناجم والفلاحين ووو --- فتكونت شريحة من المثقفين المتنورين عاشوا ودرسوا واحتكوا بالغرب حينذاك وخاصة فرنسا ,, والتي بدورها حرّكت المجتمعات .. الاّسنة .. الراكدة تحت الظلم السياسي والإقتصادي من الملوك والأباطرة إلى الخلفاء والسلاطين والأمراء .. فأنشئت الأحزاب والصحافة والمطابع والأديرة والمدارس والجامعات والمعاهد والتنظيمات السياسية السرية رغم درجة الظلم والإستبداد , فكانت قافلة الشهداء في سورية ولبنان والتمردات والثورات في كل الأقطار العربية خير دليل على ذلك الوعي المتراكم ..!
:::::::

هكذا كان واقع المجتمعات التي عاشت وتنقلت فيها ( مي ) , مليئة بالتخمّرات والحراك والمخاضات الكبيرة ..

**********************
إذا أردنا أن نعرف شيئاَ عن البدايات الأولى وأساسات ثقافتها , علينا أن نبدأ بنشأتها , ولا بد لنا من الذهاب إلى الناصرة حيث الولادة والحضن الأول
وعلى ضوء ما قدمنا وهيأنا .. لا بد لنا من الذهاب إلى المحطة الأولى مدينة الناصرة لنتعرف إلى نشأتها :
لقد ولدت الأديبة النابغة ماري بنت الياس زيادة – المعروفة بمي زيادة في مدينة ( الناصرة ) بفلسطين , الذي تعلم ونهل منها الأديب ميخائيل نعيمة الكثير – وبعض أبناء بلدتي صيدنايا في تلك الحقبة - كما ذكرنا سابقا حيث المدارس والمعاهد الروسية المتقدمة - وكان والدها الياس زخور زيادة – لبناني الجنسية وقد هاجر من قرية ( شحتول ) - وقد زرت هذه البلدة الجميلة الكسروانية عدة مرات - وهي موطنه إلى فلسطين – الناصرة . فهذا التنقل والتنوع في الإقامات والإنتماءات البيئية الجميلة أغنت فكرها وخيالها وعقلها , وأعطاها الإنفتاح الإنساني , وحصّن شخصيتها بمقومات صلبة ستحتاجها في مشوارها الأدبي " الزيادي " المميز بالجرأة والتمرّد والرصانة .. بعدما ألبسته ثوباً أنثوياً مزركشاً بأغصان الأرز والزيتون .. والنخيل والليمون ...

وما أدراك ما هذا العبق !

.... لا بد لنا عندما نتكلم عن ( مي زيادة ) وأدبها من الصعب أن نتجاوز , أو دون أن نستحضر أديبنا الكبير إبن بشرّي والأرز .. جبران الفنان والعبقري .. ومن الوفاء أن نتكلم باعتزاز عن شاعر لبنان الذي كان حبيب مي وملهمها ..
يسرني أن ابدأ بمأثرة جبران الأديب والشاعر الذي أحبته مي بروحها وكيانها دون أن تلمسه يداها ..
( أعطتني الناي ) .... التي غنتها السيدة الفنانة فيروز
كلمات جبران خليل جبران – ألحان نجيب حنكش إعداد الأخوين رحباني
( اعطني الناي وغن فالغنا سرّ الوجود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
هل تخذت الغاب مثلي منزلاً دون القصور
وتتبعّت السواقي وتسلقت الصخور
هل تحممّت بعطري وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمراً في كؤوس من أثير
أعطني الناي وغن فالغنا خير الصلاة
وأنين الناي يبقى بعد أن تفنى الحياة
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب
والعناقيد تدلّت كثريات الذهب ؟
هل فرشت العشب ليلاً وتلحفت الفضا
زاهداً في ما سياتي ناسياً ما قد مضى
أعطني الناي وغن وانس داء ودواء
إنما الناس سطور كتبت لكن بماء ) .
في أحد رسائلها لجبران تقول مي :
عزيزي جبران :
" لما كنت أجلس للكتابة .. كنت أنسى من أنت .. وأين أنت .. وكثيراً ما أنسى أن هناك شخصاً.. أن هناك رجلاً أخاطبه ..فأكلمك غالباً .. كما أكلم نفسي .. وأحيانا كأنك رفيقة في المدرسة .. إنما كان يطفو على تلك الحالة المعنوية إحترام خاص .. لا يوجد عادة بين فتاة وفتاة . أهي المسافة وعدم التعارف الشخصي .. والبحار المنبسطة بيننا .. هي التي كانت تلبس حقيقة ذلك التراسل ثوب الخيال ؟ .. قد يكون , غير أن مكانتك في اعتباري وتقديري كانت مصدر هذه الثقة التي ظهرت نشأتها كأنها فطرية .. بديهية .. لم تنتظر الوقت لتقوى ولا التجربة .. لتثبت )) .
إنها المواهب.. تتكلم بطلاقة بنعومة بصدق العواطف الإنسانية البريئة الطاهرة النقية
لغة الأرواح عندما تتحد ذراتها في هذا الكون اللامتناهي تصل كهرباء الفضاء في دارة غير مرئية لا تنقطع .. بتأثير الحروب التي تشعلها دول الهيمنة والإمبراطوريات العسكرية عابرة القارات والمحيطات ..
المحبّون ,, اكتشفوا لغة الأنترنت للتخاطب قبل عصور من إكتشافها اليوم لتصنع ثورات التحررالمشتعلة في محيطنا ..,, إنه الحب وعبقرية الإنسان الخلاّق ... فالحب ثورة .. والثورة حب وجمال وإبداع !

لقد أحبت أديبتنا ( مي ) جبران بشعورها .. أحبت فيه أباها وفتاها وأخاها ورفيقها وحبيبها وأخلصت إليه بروحها وقلبها .
هل كتب أحد من القراء الأعزاء رسالة لحبيبته في يوم ما وتغزل بها أو العكس فليتذكر دون دمعة بل بابتسامة الثائر غيفارا ..
كان لمصر الثائرة اليوم بملايينها الشعبية التي تكتب التاريخ من جديد للعالم كله وينحني أمامها , كان لها محبّون عن بعد شعراء كتاب فنانون , يتمنوا لو يمروا في مكاتبها وشوارع الصحافة والأدب ليسلموا على الأصوات والأقلام الثائرة الحرّة ,, هي القاهرة ومخزونها وسحرها وحضنها التي حضن فنانو وكتاب وصحافيو وشعراء الشام ولبنان وفلسطين لأنها كانت عاصمة الثقافة وعاصمة الفن المبكر في الشرق المتوسط ..
كتب إليها جبران الشاعر يرد بها على رسالتها الرقيقة .. بقوله :
عزيزتي ( مي ) :
" في عقيدتي .. أنه إذا كان لابد من السيادة في هذا العالم .. فالسيادة يجب أن تكون للمرأة .. لا .. للرجل .. أنا مدين للمرأة بكل ما هو " أنا " .. للمرأة , منذ أن كنت طفلاً حتى الساعة .. والمرأة تفتح النوافذ في مصيري .. والأبواب في روحي .. ولولا المرأة الأم .. والمرأة الشقيقة .. والمرأة الصديقة لبقيت هاجعاً مع هؤلاء النائمين الذين يشوشون سكينة العالم بغطيطهم . أنا بحاجة موجعة إلى من يأخذ مني ويخفّف عني , أنا بحاجة إلى فصادة معنوية .. إلى يد تتناولني مما ازدحم في نفسي .. إلى ريح شديدة .. تسقط أثماري واوراقي "" .
* * *
تعال معي أخي و أختي القارئة لنعش مع ( مي ..وجبران) بعض لحظات الحب الرقيق الدافئ العذري ونستمتع بموسيقى وتواصل الأرواح قبل أن يخترع الفيسبوك وثورته التي صنعت وسرعت ثورات الغضب الشعبي وحولته إلى ثورات أسقطت عروش معمّرة ومسمّرة بكل اّلات الرعب والقوة العسكرية والأمنية ..
-    لقد كانت الأديبة ( مي ) تنحت لحبها تمثالاً, وكونت صورة لمحبوبها بعد ان نسجت له حبها أياماً .. وليالي .. حتى وجدته في - جبران خليل جبران – وسكبت كل عواطفها على الحبيب البعيد .. الذي كوّنه الخيال قبل ان تجده في الوجود .. فكانت مثل ربة من ربات الأساطير .. التي هامت في الدنيا وصعدت حتى قمة الأوليمب .. وهي تستنشق ريح الاّلهة .. وتطالبهم بمعشوقها .. الذي لم يخلق بعد ..
لقد كتب جبران يقول لها :
( هل تعلمين يا صديقتي .. بأنني كنت أقول لذاتي ..هناك في مشارق الأرض ( صبية ) هي ليست كالصبايا .. قد دخلت الهيكل .. قبل ولادتها .. ووقفت في قدس الأقداس .. فعرفت السر العلويّ الذي اتخذه الجبابرة.. ثم اتخذت بلادي ملاذاً لها وقومي .. قومًا لها ..؟
هل تعلمين بأنني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي .. كلما وردت عليّ رسالة منك ؟ " .
لقد تعلق الأديب جبران , بالأديبة مي ,, تعلقاً روحيًا , وأحب روحها وأدبها .. ومي على البعد تناديه : " سأدعوك قومي وعشيرتي .. سأدعوك أخي وصديقي .. وسأطلعك على ضعفي واحتياجي .. وسأستمع إلى جميع الأصوات .. علني أعثر على لهجة صوتك .. في حضورك .. سأتحول عنك .. لأفكر فيك.. سأتصوّرك عليلاً.. لأشفيك.. مصاباً لأعزيك .. مطروداً لأكون لك .. وطناً وأهل وطن .. " .

-    إن حبّ كاتبتنا مي زيادة لجبران خليل جبران , خالداً كحب جميل لبثينة , كمجنون ليلى , وحب جولييت لوروميو , وكل عشّاق الأرض ولم يلتقوا ..!؟
كلاهما في حاجة إلى الاّخر ولا يحاولان إرضاء هذه الحاجة بتعللات واهية في الظاهر مرتبطة الجذور في الداخل بطبيعة كل منهما .
طبيعة عشق الخيال عشق اللامجهول عشق المستحيل , وإذا ما اقترب هذا المستحيل حاولا البعد عنه يناديها .. وتناديه .. ويقول لها :
" حبذا لو كنت مريضاً في مصر .. حبذا لو كنت مريضاً بدون نظام في بلادي .. قريباً من الذين أحبهم .
أتعلمين يا ( مي ) .. أنني في كل صباح .. ومساء أرى ذاتي .. في منزل في ضواحي القاهرة .. وأراك جالسة أمامي .. تقرئين اّخر مقالة كتبتها .. أو اّخر مقالة من مقالاتك لم تنشر بعد ؟ " .
ما أحلى اللقاء بعد الفراق يا جبران .. ! ما أحلاه على القرطاس .. خلال الألفاظ المتقطعة تعال .. تعال .. يا جبران تعال وزرنا في القاهرة .. فلماذا لاتأتي وأنت فتى هذه البلاد التي تناديك ؟
تعال فأشعة القمر تثير الرمل حول ابي الهول .. وتمرح في موج النيل .. تعال فالحياة قصيرة .. وسهرة على النيل توازي عمراً حافلاً بالمجد والثروة .. والحب !

الكاتبة مي زيادة .. هي إبنة المرحلة والبيئة والمحيط والعائلة ..
ابنة العصر وثورة أكتوبر , مرحلة تشكيل الأحزاب والتنظيمات السياسية السرية , وشهداء ثورات الإستقلال والحرية والوعي الفكري والتنوير والتحرر من السلطة العثمانية ..
هي إبنة فلسطين ولبنان ومصر وسورية , إبنة هذه المنطقة والرقعة من الجغرافية والتاريخ والسياسة والثقافة والحضارة اللإنسانية ..
إبنة القارتين المتجاورتين ( اّسيا وأفريقيا ) والبحر المتوسط الذي يربط ويجمع القارة الأوربية أيضاً , في قناة وصل ثقافي لا ينقطع عبر العصور في التحاور والتجاور والتبادل التجاري والمعرفي في العلم والمعرفة بين العالم القديم والجديد ..
كيف لا تكون صورة هذا الشرق العريق معجونة برائحة التحرّر والأدب ومخزن العطاء الإنساني الجميل ,, بلدان النهوض والتمرد وبناء الفكر والروح والحياة .. ومعنى الخلود ؟؟
..........

لقد مرت أديبتنا بسلسلة من العذابات , من فساد المجتمع , وبعض أقربائها طمعاً في الإرث والمال , بالإضافة إلى فقدان والديها وحبيبها جبران .. ووحدتها ..
يقول ممثل النيابة العام ( راجي الراعي ) دفاعه عن الأديبة مي : " إن الحجرعلى هذه النابغة هوحجر على الأدب العربي وعلى الأمة العربية وعلى العبقرية العربية , فلا تعدموها بسطرين من قلمكم , وهي عاقلة فلا تجعلوها مجنونة إن على عنقها نيراً أطلقوا سراحها فهي , مسجونة " .
عندما تذوقت ( مي ) طعم الحرية , كتبت إلى الأديب أمين الريحاني منذ 1916 تقول : " الحرية طعم عذب عزيز مستحيل .. لوذاق البشر الحرية لحظة .. لكانوا اّلهة .. وما الألوهية إلا معنى الحرية المطلق " .
ما أجملك يا مي , وما أجمل روحك وفكرك الصافي المتألق .. ما أحوجنا اليوم في هذه الأيام إلى كلماتك العذبة وأناشيد الحرية التي ترددها الاّلهة .. فالاّلهة والحرية جسد واحد عندك .. ما أروعك أيتها الخالدة بأفكارك الحرّة المشرّعة للريح .. وروحك الطاهرة المقدسة ..!

..........

اّراء بعض الكاتبات عن مي زيادة .. ... ماذا قالت عنها الأديبة غادة السمّان ؟
( على كل حال , إن هذا العمل الذي تضمنه كتاب " الأعمال المجهولة لمي زيادة " تحقيق الدكتور جوزيف زيدان , والذي قامت بتقديمه الأديبة الكبيرة غادة السمّان , قد سدّ فراغاً كبيراً في المكتبة العربية , وإلا فما معنى أن تقول عنه : " إن نشر بعض هذه الأعمال لمي زيادة خدمة للحقيقة , ولتاريخ الأدب , ولتراثنا العربي ... وذلك بعد ان جمعها الدكتور جوزيف زيدان ولم يجد من ينشرها غير المجمع الثقافي لدولة ( الإمارات العربية المتحدة ) , عندما أنقذ " مي زيادة , من صناديق النسيان وعنكبوت الإهمال ... " .

وشاعرنا الكبير أحمد شوقي ماذا قال عنها : " أسائل خاطري عما سباني , أحسن الخلق أم حسن البيان " .

وقال اّخر : " إن لم أمتع بمي ناظري غداً , أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء " .

لقد أحاط بالرائدة ( بمي زيادة ) في صباها وطوال مدة شعاعها الفكري والأدبي خيرة من أدباء العرب والأجانب , وكان الكثير بينهم يطمح إلى نيل إعجابها والظفر بمودتها , إلا أن مي كانت تزايد عليهم بشرفها وعزمها, على الإفادة , والإستفادة, دون النظر إلى أبعد من نفسها , وإسمها , نموذج المرأة المثقفة والكاتبة التي تحترم .

فتاة ... أخذت من ثقافة سورية وفلسطين ولبنان مدارسها وأديرتها وأجوائها الثقافية .. وأكملت في مصر الجامعة الكبرى للحضارة والتاريخ والعلوم , فغرفت من جامعاتها التاريخ والفلسفة والفلك القديم والعلوم العصرية , وأمام هذا التبدل الحياتي والعلمي المفاجئ , بدأ التساؤل الغامض يخترق , ففكر الصبية في إلحاح مستمر , من نحن ؟ إلى أين نحن سائرون ؟ وأين ننتهي ؟ وكانت تردد : " إنما حياة الإنسان على الأرض جهاد مستمر كونها محض عبور , على أننا نموت في ذاتنا كل يوم " .

هذه الساحرة الأنيقة الأديبة .. غرست للمرأة في الشرق كله نبتة صلاح , ووضعت على فم الزمن من عصرها بسمة محبة ... حيث كرّست حياتها في خدمة الكلمة والثقافة العربية .....كتبت عن وردة اليازجي , وعائشة التيمورية - وباحثة البادية .. وغيرهن . وكتبت عن المساواة والعدالة والحرية والعلم والفن ..
- ( إن الشامية المصرية مي زيادة " وجدت الملاذ في حمى الإمارات بنشر المجمع الثقافي أعمالها المجهولة التي جمعها الدكتور جوزيف زيدان - من أرشيفات صحف العشرينيات والثلاثينيات ... فإلى جانب القيمة الأدبية لهذا الكشف وأهميته , يبقى لهذا النشر مدلوله القومي الجميل وبادرة تساهم في خلق وحدة الثقافة العربية ) .
..........


قيمة الفن عند أديبتنا الفنانة بالكلمة :
في مقالة لمي زيادة عن الفن تقول : " إن الإنسان عرف الفنون قبل أن يعرف العلوم , لأن مخيلته اشتغلت قبل تنبه أفكاره ... المخيلة ضيف تائه على الأرض , وهي أقوى القوى الأدبية ... حركتها لا تبطل أبداً في الحياة , بل هي كالقلب تشتغل دائماً , وعملها مستمر متواصل في النوم واليقظة .. فيها تحفظ تذكارات الماضي , واّثار ما تنقله إليها الحواس من مناظر وأصوات , وأنغام وروائح , وتأثيرات .. " .
لقد كتب عنها الكثير من المؤلفين والكتاب والفنانين ويتنافسون في كتابة مسلسلات عن حياتها الشخصية والأدبية الزاخرة بالعطاءات وبالأحداث والمفاجاّت ..
وبقيت الأديبة ( مي زيادة ) الأسطورة تعيش في الخاطر.. منبع وحي لقرائها .. والباحثين في أدبها وللذين يفتشون بين كلماتها عن كل جديد ومشوّق .
تخشع لعبقريتها مجلدات كتبت , وأخرى كتبت عنها , وهي دائماً في نشوة الطفولة تعيش , في شعرها صفاء أداء , وفي كلماتها تربية لغة , واتقان فكر, ما هبطت أمام وريقاتها في معنى , ولا سقطت من على شرفة مجد الكلمة أبداً ..!

الأديبة التي رفعت تاج الكلمة إلى العرش.. ولم تتاجر بها لمكاسب .. أو منصب .. أوعلاقة مشبوهة .. إنها إنسانة اّمنت بالكلمة والحب والحياة ... إنه التفوّق !! .. نحن نقول إنه السفر البعيد .. في واقع ورؤيا .. إنها إطلالة الروح على عظمة الكون كله ...


لقد أجادت رائدتنا مي .. ووفّت في كل المواضيع ,, ونأسف أن لا نستطيع أن نتكلم عن مجمل المواضيع التي طرقتها وكتبت عنها , وأعطتها إنتباهها وتجربتها وفكرها , فبحر ( الأدب الزيادي ) فائض ومتموج , دائماً تلعب به الرياح المتوسطية المعتدلة حيناً , والأعاصير حيناً اّخر .. وسأكتفي بما جمعت من لالئ .. وجواهر.. من هذا الكنز المخبأ , ومن الدرر الفريدة .. التي عرضنا بعضًا من حباتها المتوهجة إكراماً لروحها.. وجمال فكرها.. وغزارة قلمها .. الذي سكبته على صفحات الصحف والجرائد والمجلات .. والكتب العديدة ..
إن كل ماقدمته في مقالين عن هذه الأديبة الرائدة لا يعدو نقطة من بحر أدبها وملكاتها المتنوعة كتقدير واحترام لعطائها الثرّ , وكواجب وطني وتاريخي وعلمي عليّ أن أبرز وجوه نسائية مغمورة ومنسية من أوطاننا المليئة بكنوز المرأة والرجل معاً .. علينا أن نضئ عليها ونقدمها لأجيالنا بما ساهمت في بناء المعرفة والقيم والمبادئ التاريخية , كهدية ربيعية وزهرة فوّاحة للحرية وشمعة في ظلام التجهيل والإستبداد الذي مازال يعاند في السيطرة على كينونتنا الاّدمية ..., لتلهمنا على العطاء والتحديث والتجدّد .. والتفاني لخير الإنسانية .. تحية لك أيتها الكاتبة الكبيرة الشامخة بالأخلاق والرقي والتحدّي ..
اّملة أن أكون قد وفقت في نقل وإعطاء لمحة وجيزة وصورة مضيئة عن رائدة من رائدات الأدب في أوطاننا البهية , نتعلم منها الكثير وهي من زادنا الفكري العربي والمشرقي الذي لا ينضب ..

طوبى لك .. طوبى لروحك.. لقلمك يا مي زيادة ... يا أميرة الأدب والحرف .. ومثال المرأة الناضجة الحكيمة الرزينة الشامخة بالفكر والأخلاق .. اّمل أن أرى في ساحات الأوطان التي تحرّرت تواً.. بثورات شعبية رائدة , أن تنشئ المنتديات بإسمها , وتقيم التماثيل والتقدير والإعتبارات الفنية والثقافية لرائداتنا ونسائنا وفتياتنا البارعات الأديبات الكاتبات , وفي كل اختصاص .. لتقوم بخطوة جريئة جديدة و نقلة نوعية في احترام المرأة نصف المجتمع لا أن تبقى شعارات فارغة ....

تقول مي : " أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني ! " .
السؤال الأخير ... هل أنصف أدب مي بعد كل هذا الوقت من الرحيل الجسدي للأديبة ...أم ماذا .. ؟

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.