بحلول ذكرى رحيل الرئيس الجزائري الأسبق محمد بوخروبة المعروف بهواري بومدين 27 ديسمبر من كل عام، تتضارب آراء كثير من الجزائريين حول شخصية الرجل بين جيل عاصر الرجل وحقبته وجيل حديث متشبع بأفكار وقيم عالمية جديدة تختلف عن قيم ذلك العصر.. فيصيفه البعض بالزعيم العظيم الذّي لم تشهد الجزائر مثيلا له إلى الآن بينما يذهب بعضٌ آخر إلى تسفيه هكذا مواقف تقدس سلطة الأشخاص وتُشرعن بطريقة ما لفكرة الدكتاتور في مجتمعاتنا الحديثة.. لا نريد هنا الخوض في شخصية الرجل ولا الإشارة إلى انجازاته لنقدّم هذا الموقف أو نؤخر ذاك بقدر ما نريد أن يكون مقالنا القصير هذا توضيحا لمسألة نراها مهمة في بناء الدولة، وترتبط أساسا بما اصطلح على تسميه في أدبيات الانتقال الديمقراطي بالثقافة السياسية للمجتمعات.

يعتبر هذا المصطلح مفتاحا سحريا يمكّن الباحث الأكاديمي كما يمكنّ المتابع البسيط من فهم الخيارات التّي تتخذّها الشعوب أثناء العملية الإنتخابية، كما يوضح لنا المصطلح كثيرا من القضايا المتعلقة بمسألة الانتقال الديمقراطي وعلاقة مفاهيم غربية كالديمقراطية، المشاركة السياسية، التداول على السلطة وغيرها من المصطلحات بالمجتمعات الأخرى وما شابه و اشتبه.. بادئ ذي بدء بامكاننا أن نعرّف الثقافة السياسية اصطلاحا "بمجموعة القيم، المعتقدات، الرموز، المعارف، الآراء، القناعات الراسخة والصور الذهنية الكلية التّي تتكوّن عبر أجيال وأجيال فتشكّل العقل الجمعي لمجتمع ما وتحدّد سلوكات أفراده تجاه قضايا الحكم والسياسة وعلاقاتهم بالقائمين عليها". تعريف مختصر منّا سيساعدنا على فهم هذا الإختلاف الدائر حول شخصية الزعيم الراحل هواري بومدين. فحينما يوصف زعيم ما بالدكتاتور، فما علينا في البداية سوى أن نُساءل ونتساءل عن مفهوم الدكتاتورية عند الواصف وخلفيته المعرفية التّي يستند إليها لإطلاق هذا الوصف، فلا يمكن فهم مدلول مصطلح الدكتاتور وغيره من المصطلحات المشابهة كالمستبد، الطاغية وما شابه من دون أن نقرأها ضمن منظومة فكرية معينة وقالب ثقافي ما،
فالدكتاتور في منظومة ليبرالية يخالف الدكتاتور في منظومة اشتراكية أو أخرى إسلامية أو رابعة بدائية، ( ونفضل استخدام مصطلح منظومة حتّى نضّم المجتمع والنظام السياسي في نسق واحد).. كما نتسائل أيضا متى يكون القائد ديمقراطيا ومتى يكون دكتاتوريا ؟.. ماذا عن الأمثلة التاريخية لشعوب رفضت أن تتخلى عن حاكم خدمها بإخلاص وساهم في نهضتها بحجة الخضوع لقوانين الديمقراطية الغربية؟ فأوجد هذا الحاكم حيلا قانونية ليبقى في السلطة أو يتداولها مع مريديه كما حدث عند الأتراك مع الرئيس أردوغان أو مع الروس مع الرئيس بوتين أو في ماليزيا مع الزعيم مهاتير محمد على سبيل المثال.. هل نسمح لأنفسنا بأن نسمي هؤلاء دكتاتوريين لأنهم تلاعبوا ولو قانونيا وبشكل مشروع بقواعد اللعبة الديمقراطية بعدما أرادتهم شعوبهم في انتخابات نزيهة شهد لها العالم أجمع؟ هل علينا أن نرغم هذه الشعوب على التمسك بالديمقراطية اللبيرالية الغربية كقالب مكتمل لا يقبل التعديل؟ ألا يجب أن تشيد الشعوب ديمقراطيات تناسبها وتناسب ثقافتها السياسية؟


لقد عالجنا في دراستين مطولتين مسألة الانتقال الديمقراطي كان إحدها عن روسيا (والتّي صدرت في شكل كتاب قبل شهرين عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تحت عنوان آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا، دراسة نقدية في البني والتحديات- والأخرى عن التجربة الديمقراطية في ماليزيا (لم تُنشر بعد) كما نعيش منذ عامين في تركيا التّي قرأنا عن نموذجها الديمقراطي الخاص في أعين الناس هناك قبل الكتب وهي الامثلة الثلاث التّي قدمناها لكم هنا كشواهد، لقد بلغنا حدّا من القناعة فيما قمنا به من عمل بعد مقارنات مع تجارب أخرى في العالم وآراء حصيفة لباحثين في هذا المجال أن الديمقراطية لن يكون لها نفع في مجتمع من المجتمعات ما لم تتوافق مع الثقافة السياسية لهذه المجتمعات، فالثقافة السياسية تعد دوما عاملا محدّدا في عملية الإنتقال الديمقراطي في كل المجتمعات، موضوع يحتاج إلى تفصيل دقيقة ولا ينبغي أن يُفهم منّا بأنّه تبرير أكاديمي لسلطة الدكتاتور، فلا شيء عندما أسوء من طغيان الدكتاتور. وإنّما الشاهد من القول أنّ الآراء التّي يكوّنها مجتمع ما حول شخصية ما في زمن ما يجب أن تقرأ على ضوء ثقافته السياسية المتشبع بها والمنظومة الفكرية التّي كان المجت
مع ينتج في قالبها أفكاره ومعتقداته.. فجيل الثورة المسلحة غير جيل الثورة المعلوماتية، وجيل الإشتراكية السوفياتية غير جيل المجتمع المتشبع بقيم الديمقراطية واللبيرالية الأوروبية، لقد خرج جيل الثورة يمجد الأبطال بعدما عاشوا معهم وخلدوا أمجادهم في دحض الغزاة فكيف لا يمجدون رجلا منهم حمل لواء إكمال المسيرة بإخلاص في حدود علمه ومقدرته في ذلك الزمن.. وكيف لا يثني عليه جيل آخر ويرجو مثاله بعدما سمع عن قصص البطل علي بابا بينما عاشر الأربعين حرامي، جيل منفتح على العالم يرى اليوم في أوطان الآخرين وجوها سياسية مختلفة تتداول معقد الحكم بعد ألف إنجاز وإنجاز بينما لم ير في وطنه إلاّ وجها واحدا يرافقه إلى الموت، بل ويصنع له الموت قهرا وألما..

نقول في النهاية أنّ ثقافة الشعب السياسية التّي تشكلها عوامل عدّة أدناها التنشئة السياسية وأعلاها عوامل الدين والهوية هي التّي تصنع صورة الحاكم في كتب التاريخ و أنّ المدول القائم وراء مفاهيم الديمقراطية والديكتاتورية لن يكون أبدا شريعة منزلة من السماء تتوحد حول مدلوله القواميس بقدر ما هو انعكاس حتمي لهذه الثقافات يعبّر عنها حينا وقد يستثمر فيها أحيانا أخرى.. فالشعب بثقافته تلك هو الذّي يُعلي رموزا إلى السماء وينزل بأخرى إلى قعر الجحيم. فقد مجدت فئة من العراقيين صدام حسين وجعلت منه قائدا عظيما رغم ديكتاتورية الرجل وسفّهت حملة المشاريع الديمقراطية الأمريكية بعده.. وهل نُسمي زعيم قبيلة نائية في افريقيا حكم منذ الطفولة إلى المشيب بالدكتاتور، طالما يتبع أعراف قومه وأجداده؟ وهل تصلح نماذج الديمقراطية والتداول على السلطة (بمفاهيم الغرب) في مجتمعات كهذه مشبعة بثقافات محلية أوجدت منها لنفسها نظما سياسية تحقق مقاصد الرُشد في الحكم؟ .. بالطبع الديمقراطية التي نتحدث عنها لن تتوافق اطلاقا مع خاصية هذا الشعب آي ثقافته السياسية.. ما نريد التنويه له هنا في المقابل ضرورة أن نكون نقديين أيضا لفكرة تحديث مجتمعات العالم الثالث التي يقودها الغرب منذ ماكس فيبر والمستشرقين الأوروبيين في هذه المجتمعات

وهذا لا يعني بالضرورة الصدام مع ما يأتي من هناك وإنّما أن نواكب العالم في نظمه السياسية وفقا لما تتيحه ثقافة مجتمعاتنا حتى نتجنب الصدام الداخلي في هذه المجتمعات بين تيارات المحافظة والحداثة.. جيل بعد جيل من التنشئة السياسية والتدرب على المفاهيم الحديثة بإمكانه أن يغير واقع الحال ويحدّ قدر الإمكان من الآثار السلبية الناتجة عن ثقافات سياسية في مجتمعات لا تحاول حتّى أن تتماشى مع مستجدات العصر فتفنى وتذبل بحكم قوانين الكون.. ولاشّك أنّ الزعيم الراحل هواري بومدين كان متفطنا لهذه النقطة بالذات فقال مقولته الشهيرة التّي يحاججه بها خصومه اليوم: "نريد دولة لا تزول بزوال الرجال".. نفهمها نحن خلافا لهؤلاء وبحسن نية، لاشك في أنّ الرجل كان يدرك الآثار السلبية لحجم الإلتفاف الشعبي حوله على مستقبل الدولة ويدرك أيضا محورية دوره في تسيير الدولة آنذاك بشكل جعله يفكر في أثر الفراغ الذّي سيخلّفه غيابه عن المشهد السياسي لجزائر الغد فقال مقولته تلك خوفا من شيء ساهم في تكريسه هو نفسه أدرك ذلك أم لا..

في النهاية نلّح على كل مثقفينا أن يقرئوا آراء الشعب حول هذا الرمز الوطني ضمن هذا الإطار الذّي ترسمه حدود الثقافة السياسية للمجتمع الجزائري التّي كونّت عقله الجمعي عبر أجيال وأجيال.. اختلفنا معه أم لا فلا يمكن لأحد أن ينكر على الرجل حبه للجزائر وإخلاصه للشعب، رجل أحب الوطن فأحبه الشعب وبكى لرحيله بحرقة.. هل تعلمون أنّ الجزائري لا يُحسن البكاء، خصوصا إذا تعلق الأمر برجل دولة وسياسة؟.. ولكنّه بكى ذلك اليوم لرحيل هذا الرجل وصنعت دموع الشعب منه قائدا عظيما.. رحم الله زعيم الجزائر وجعله في عليين مع الصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.