-“هذه البلاد تقتل في الانسان حاسّة التفكير، تُبلّد الحسّ، وتُنهي مع مرور الزمن نشاط خلايا المخ. اننا نتجمّد.. نتبلّد.. نموت كل يوم”!
ما شدّني، بل وأفزعني، في هذه العبارة التي كتبها الأديب اليمني الراحل محمد عبدالولي -في ستينيات القرن الماضي، في سطور إحدى قصصه- أنها لا تزال سارية المفعول حتى هذه اللحظة، بل تنبض بالحياة.. أيّة حياة؟! .. بل قُل: تنبض بالقهر حدّ التمزق، وبالجمود حتى الموت!
كنتُ أكتب مقالي الأسبوعي لجريدة عربية.. وقد أخترت موضوع المقال عن ظاهرة الهجرة والاغتراب في الأدب اليمني. كان نموذجي في الشعر هو حسين أبوبكر المحضار.. أما في السرد فأيّ نموذج في هذا الموضوع بالذات أفضل من محمد عبدالولي؟
رحتُ أُعيد قراءة قصص وروايات محمد عبدالولي، وأغلبها غارق في حياة وما وراء حياة المهاجر اليمني في أرض الله الواسعة، وهي الرحلة الأبدية أو التغريبة الخالدة في سِفْر اليمن وذاكرة اليمنيين منذ الانهيار الكبير، حين “تفرّقتْ أيدي سبأ”.. ولا تزال!
استشرى الجوع والقحط، فهاجر اليمني..
انتشر الخوف والقلق، فهاجر اليمني..
استفحلت الأمراض والأوبئة، فهاجر اليمني..
اشتعلت الحروب والفتن، فهاجر اليمني..
استحكمت الخلافات والثأرات، فهاجر اليمني..
وحتى يرث الله الأرض وما عليها ومن عليها، ستظل الهجرة دَيْدَن اليمني.. حتى حين ينتقل كل سكان الأرض للاقامة في القمر أو المريخ، سيهاجر اليمني الى زُحل أو ربما إلى الشمس!
ما أشعرني بالقهر أكثر مما شعرت به في كل المآسي التي صوّرتْها قصص عبدالولي هو قلقه البالغ من أن يقتلنا أحد أولئك لا قيمةَ الاَّ لبندقياتهم، والذين يبيعونك بجنيه ذهبي، وأحياناً بلا شيء!
يا الهي! … ما هذا الوخز الناري الذي دبَّ في أوصالي حتى بلغ تلافيف دماغي!
هل كان عبدالولي يتنبأ بمصيره؟ أمْ هي رؤيا الأديب ورؤية السياسي معاً باستجلاء مصير شعب وقَدَر بلاد؟
لقد شاءت سخرية القدر -وهي سخرية سوداء، بل دامية، في هذه الحالة- أن يقتل أولئك الذين لا قيمة الاَّ لبندقياتهم وللمال القذر، محمد عبدالولي وآخرين عديدين، من رفاقه في تلك الرحلة المشؤومة، أو في مواقع ووقائع شتى!
ان المأساة الممتدة بحجم التاريخ والجغرافيا والسياسة -في هذا البلد المنتمي الى غابات الصيد الحر في الأحراش الأمازونية- تتجسّد في أن أولئك الذين لا قيمة الاَّ لبندقياتهم لا زالوا يقتلوننا إلى هذه اللحظة التي أضع فيها قلمي، منتظراً رصاصةً خلف رأسي!