إن عدم وضوح هذه العلاقة في الفكر السياسي قد مثل دوما إحدى الإشكاليات في مسار تطور المجتمعات العربية والتي كان لها تأثيرها السلبي سواء على صعيد الرؤية والتنظير أم على صعيد البناء والتدبير, ونعني بذلك في مجال بناء دول مدنية حديثة في مستوى العصر. والواقع فان هذه الإشكالية التي تطرح نفسها بحدة على المجتمعات المتخلفة أوتلك التي لم تحرز بعد المستوى المطلوب من التطور والتنمية الانسانية المستدامة إنما تعتبر مؤشرا بالغ الدلالة على ما يواجه تلك المجتمعات من عقبات في سعيها لصنع المستقبل المنشود.
إذا انتقلنا من العام الى الخاص وركزنا حديثنا على مجتمعاتنا العربية التي تصدت منذ خلاصها من السيطرة الاستعمارية المباشرة أواسط القرن الماضي لمهمات بناء دول ديمقراطية تجسد إرادة شعوبها في مواصلة عملية التحرر والتقدم والوحدة, فان هذه المجتمعات التي قطعت خطوات هامة في طريق التطور الأقتصادي والعلمي والثقافي قد أخفقت حتى الآن في إقامة أنظمة ديمقراطية سليمة وتخلفت حتى عن آخر موجة للتحولات الديمقراطية التي شملت العديد من دول العالم خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي .
كيف يمكن تفسير أسباب هذه الاعاقة بل وحالة الشذوذ والاستثناء في مسار التطور العالمي؟؟
يمكن إرجاع ذلك إلى جملة من الأسباب والعوامل الخارجية والداخلية لكن العامل الأساس في رأينا هو من حيث الحصيلة تخلف الفكر السياسي وعلم الاجتماع السياسي في عالمنا العربي عن امتلاك الرؤية الواضحة وبالتالي المواقف العملية الصائبة تجاه أمهات المسائل والمفاهيم التي تشكل أعمدة المشروع النهضوي لشعوب هذه الأمة: وفي مقدمتها مفاهيم الدولة, والأمة, والوحدة, والأصالة والمعاصرة, والديمقراطية, والعلمانية, والعقلانية وغيرها…..
أما بالنسبة للمسألة الديمقراطية البرلمانية فقد نالها من مختلف التيارات الفكرية والسياسية, سواء منها البعثية والناصرية والقومية والوطنية القطرية والماركسوية والاسلاموية القسط الأكبر من التنكر والعداء ورأت هذه التيارات فيها وسيلة الطبقات البورجوازية لإدامة تسلطها واستغلالها واستعاضت عنها بتبني صيغ خاصة بها مثل الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية الشعبية والديمقراطية التي تقوم على أساس الشورى والمرجعية الدينية باعتبار أن الشورى من وجهة نظر دعاة هذا النوع من الديمقراطية أوسع اطارا وأشمل مضمونا من الديمقراطية البورجوازية الغربية ؟ وإذا كانت الديمقراطية هي الصيغة الأفضل التي توصل إليها حتى الآن الاجتماع البشري كي تدير الدول شؤونها وكانت أهداف انتفاضات الربيع العربي في الحرية والكرامة والعدالة تستهدف أساسا بناء انظمة ديمراطية حديثة تكفل تحقيق وانجاز تلك الأهداف وتنقل كلا من البلدان العربية التي شهدتها من دولة الرعايا الى دولة المواطنين الأحرار,فلنا أن نتساءل اليوم عن مسار تلك الانتفاضات وموقفها اليوم من مهمة التحول الديمقراطي لمجتمعاتها.
أربع سنوات انقضت حتى الآن على انطلاقة انتفاضات الربيع العربي, وإذا استثنينا تونس فإن الأقطار الأخرى ماتزال تشهد تحديات مصيرية تهدد وجودها ومستقبلها فإلى جانب الإستبداد الذي نهضت لوضع نهاية له تواجه اليوم خطر الإرهاب الذي لا يبقي ولا يذر في كيان تلك الجتمعات وقدرتها على الاستمرار. لقد تأكد للرأي العام الشعبي وللنخب الفكرية والسياسية في بلادنا, بعد ماشهدته من تطورات عاصفة على امتداد السنوات الأربع الماضية, حقيقتان أساسيتان أولهما أن الأجراءات التنفيذية في العملية الديمقراطية مثل الانتخابات والاستفتاءات وتداول السلطة …لايمكن ان تعبر عن إرادة شعبية حقيقية الا اذا جرت في فضاء مناسب تؤمنه دولة الحق والقانون والمؤسسات, وثانيهما أن التحول الديمقراطي ليس عملية إرادية أو رغبوية يمكن إنجازها بأسلوب حرق المراحل أوفي زمن محدود بل هو ثمرة صيرورة وتكامل تشمل مختلف نواحي المجتمع الثقافية والفكرية والاقتصادية والسياسية, هذا ما يننغي أن ندركه ونحن نسعى لتجاوز تركة التخلف والفوات التاريخي واللحاق بركب التقدم الحضاري.
أما مفهوم العلمانية نفسه, وكذا العلاقة بين العلمانية والديمقراطية, فقد ظلا حتى اليوم موضوع خلاف وجدل محتدم بين النخب الفكرية والسياسية عندنا والتي يرى بعضها أن العلمانية مفهوم غربي دخيل على ثقافتنا باعتبار أن ليس هناك في ديار الاسلام كما كان الحال في الغرب مؤسسة دينية مهيمنة على السطات الدنيوية ولذا فهو يدعو إلى الاستعاضة عن العلمانية كمفهوم ومنهج بالاكتفاء بمفهوم العقلانية, كما يعطي البعض الآخر للعلمانية صورة مشوهة لجوهرها مستشهدا بما كان الأمر عليه في دول المعسكر الاشتراكي السابق فيستنتج أن العلمانية من الناحية المعرفية والتطبيقية هي منهج معاد للدين .على العكس من ذلك تماما فإذا ما اتفقنا ان العلمانية جاءت نتيجة تطور موضوعي للمجتمعات البشرية في إدراك الانسان أنه هو المسؤول عن أفعاله الأمر الذي ترافق مع انحسار الفكر الغيبي في وعيه وفي تعامله مع الطبيعة ومن جهة أخرى لا بد أن ندرك أيضا أن العلمانية والعلمنة كانتا أهم نتائج الإصلاح الديني في أوربا وأن العلمانية نفسها التي أضحت اهم مقومات الحياة الديمقراطية السليمة هي التي حررت الدين من سيطرة السلطات الحاكمة وهي التي أعادته الى مجاله الطبيعي ودوره في حياة الإنسان والمجتمع ووفرت له المناخ الملائم للتطور والتجديد ليكون دوما في خدمة الانسان وليس العكس .
سؤالان يطرحان علينا في هذه العجالة. ونحن نستعرض ابعاد العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية,هذا الموضوع الذي يستحق منا المزيد من البحث و المتابعة, وهما:
أولا- هل أن كل دولة ديمقراطية هي دولة علمانية بالضرورة ؟ نعم ان كل دولة ديمقراطية لا بد أن تكون دولة مدنية علمانية لأنها تكون حيادية تجاه جميع الأديان والعقائد وتقوم على تكريس مبدأ المواطنة الحرة المتساوية دون أي تمييز. فالنظام العلماني الديمقراطي هو النظام الوحيد الذي يكفل لجميع مواطنيه حرية الاعتقاد والضمير كما يكفل لكل الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية ولكل الأديان والمذاهب حرية العمل والممارسة التي ينظمها القانون. وهنا فان من نافل القول أن نوضح أن المواطن الفرد في النظام العلماني الديمقراطي يمكن أن يؤمن بالنهج العلماني في حياته أو لا يؤمن كما هو الحال بالنسبة لأفراد الأسرة الواحدة.
.أما السؤال الثاني فهو هل أن كل نظام يرفع شعار العلمانية هونظام ديمقراطي؟ وهذا السؤال يحيلنا إلى نموذجين من أنظمة الحكم, نموذج انظمة المعسكر الاشتراكي التي زال معظمها والتي انتهجت سياسات معادية للتدين وكانت بطبيعتها متناقضة مع جوهر العملية الديمقراطية عندما تبنت صيغة ديكتاتورية البروليتاريا, وأنموذج انظمة الاستبداد العربي التي انتفضت شعوبها في وجهها لكسر قيود االاستغلال والتهميش والاستلاب,التي لم تكن أنظمة علمانية أساسا وهذا يتضح جليا من خلال بنية تلك الأنظمة الفئوية والعصبية وسياساتها وممارساتها على مختلف الصعد الفكرية والحقوقية تجاه مواطنيها رجالا ونساء. وإذا ماعلمنا أن هذه الأنظمة دخلت في تسابق محموم مع التيارات الأصولية والسلفية ومع الإسلام السياسي لاستخدام الدين عن طريق فقهاء السلطة من أجل دوام تسلطها واستمرارها إلى أطول أمد ممكن, تبين لنا ما إذا كانت هوية تلك الأنظمة العلمانية حقيقة أم ادعاء ..