ما إن طويت الصفحة الأخيرة من كتاب مذكرات جورج حبش «صفحات من مسيرتى النضالية» الصادر قبل أسابيع عن مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت، حتى تبادر إلى ذهنى سؤال لا يبرح ذكريات طفولتى وشبابى يقول: هل يجد القادة والزعماء والمناضلون السياسيون وقتا للحب؟ ولأن الثقافة العربية تحفل بالمحرمات وبالقيود المجتمعية المفروضة على الحق فى التعبير عن المشاعر والرغبات، بل إن بعض عناصر تلك الثقافة، تقرن التعبير عن تلك المشاعر بالضعف والرخاوة وقلة الرجولة، فقد خلت المكتبة العربية من نصوص تنطوى على إجابة بنعم عن ذلك التساؤل، إلا فيما ندر.
كنت قد شرعت فى قراءة المذكرات، فور سماعى لحديث صهر الرئيس الأمريكى «جاريد كوشنر» فى مؤتمر لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط عن صفقة القرن، معلنا أنها تخلو من حل الدولتين، وتكرس القدس عاصمة لإسرائيل. لم يكن ينقص حديث كوشنر، المتهم من قبل الصحافة الأمريكية، باستغلال منصبه فى البيت الأبيض لصالح تجارة أسرته العقارية، سوى القول إنه لم يعد يوجد شىء اسمه الشعب الفلسطينى، كما لم يكن فى حاجة إلى القول إنه سيكشف عن تفاصيل تلك الخطة التى يعكف على العمل عليها منذ عامين، فور انتهاء شهر رمضان. فخلال العامين المذكورين تم تنفيذ بعض بنودها على أرض الواقع، بإخراج القدس والمستوطنات وقضية اللاجئين من أى تفاوض مستقبلى لتسوية مقبولة، وضم الجولان للسيادة الإسرائيلية، خلافا لقرارات الأمم المتحدة، وتحويل حقوق الشعب الفلسطينى من قضية وطنية، إلى قضية اقتصادية بإعادة بناء الاقتصاد الفلسطينى فى قطاع غزة، ومنح الضفة ما هو أكثر من حكم محلى وأقل من دولة، كما يقول نتنياهو!
عدت لمذكرات «حبش» التى تحفل بصفحات ناصعة لمقاومة الشعب الفلسطينى الباسلة لغاصبى وطنه وأرضه، لتبعدنى عن لغة الشوارع والصفقات التجارية التى يتحدث بها «كوشنر» عن القضية الفلسطينية!
ولد حبش فى مدينة اللد الفلسطينية (1925-2008) لأسرة ميسورة يعمل أفرادها فى تجارة الغذاء. تلقى تعليمه العالى فى الجامعة الأمريكية فى بيروت ليتخرج فيها طبيبا ناجحا وليلقب فيما بعد بكلمة «الحكيم» التى تنطوى على معنيين: الاسم الطبيب، والصفة الحكمة. ومن اللافت للنظر أن حبش ظل غير مهتم بالشأن السياسى حتى الثانية والعشرين من عمره، إلى أن صدر قرار تقسيم فلسطين 2نوفمبر 1947.
ترصد المذكرات، التى لعبت زوجته ورفيقة دربه «هيلدا حبش» دورا محوريا فى دفعه لتدوينها، ثم إعدادها للنشر بعد أحد عشر عاما من رحيله، رحلة المنفى إلى لبنان والأردن وسوريا ومصر، كما تكشف النقاب عن دوره الرائد فى انشاء حركة القوميين العرب التى شاركه فى تأسيسها خليجيون ومشرقيون من الأردن وسوريا ولبنان ومصر، والمشاركة فى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وطبيعة الخلافات التى أدت إلى الانشقاقات عليها، والعلاقات المميزة التى ربطت بينه وبين الزعيم جمال عبدالناصر، والمحاولات الإسرائيلية المتكررة لاغتياله، ورحلة مرضه الذى تسبب فيه خطأ فى العلاج الطبى، والقيامة التى قامت فى فرنسا ولم تقعد لوصوله للعلاج بها بدعم من الرئيس الفرنسى ميتران.
الآسر فى تلك المذكرات مشاعر المحبة الغامرة التى تتناثر بين صفحاتها لابنة العم المقدسية «هيلدا عيسى» التى اقترن بها فى إحدى الكنائس الدمشقية، فى يوليو عام 1961 لتصبح فيما بعد «هيلدا حبش» وأما لابنتيه ميساء ولمى، وقوته الناعمة لخوض معاركه السياسية والتصدى لمصائب الدهر ومفاجآت الحياة، كما تتجلى تلك المشاعر فى كلمات إهدائه الرقيق المتدفق: إلى رفيقة العمر.. شكرا للأرض، شكرا للأم التى وهبتنى إياك. وهو ما يجيب عن سؤال مقدمة المقال إجابة لا لبس فيها، تبين أنه لا تناقض نهائيا بين الانخراط فى معارك النضال السياسى، وبين الحب، فكلاهما انتصار لقيم الحياة الراقية، التى تنشد السعادة للبشر.