يحضر المجتمع اليمني في التاريخ والحضارة بشكل لافت، ولا يكاد يغيب ذكره في كتب التاريخ ومدونات التحول البشري أو التذكير بفرادته في مواقف عديدة أو ذكر نماذج من شخصياته وممالكه وأساطيره ومهاراته في اللغة والحكم أو الانتشار الذائع في الهجرة والترحال أو المشاركة في الحروب المبثوثة مع الممالك والديانات.

بالرغم من هذه الرمزية الحضارية الكثيفة لموقع ومجتمع مهم ومؤثر في التاريخ القديم؛ فإن آثار هذا الإرث في العصر الحديث تكاد تكون مفقودة، كما لو أن ذلك الامتداد الحضاري انقطع، أو غاص في رمال التحولات. وكأن المجتمع الذي يقطن اليمن اليوم لم يأخذ من موروثه وحضاراته سوى الأسمال والملامح المحفورة في الوجوه والأودية.

يحتاج هذا الانقطاع بين الموروث والراهن إلى الدرس والتنقيب في أسبابه وآثاره، لإدراك أبعاد هذه الفجوة بين تاريخ تليد وحضور مؤثر في الزمن القديم، وبين تخلف وضمور وشتات وضعف حضاري وتنموي كبير في عصر التقدم المذهل؛ إذ من المستغرب أن تحضر مجتمعات نشأت بعد المجتمع اليمني بآلاف السنين في هذا العصر بكل نهوضها وتقدمها؛ بينما المجتمع اليمني يكاد يكون الأسوأ على الأرض في نواحي الحياة وحاجات العصر، بكل ما لديه من حمولات تاريخية وحضارية لا تكاد تبين في حاضره، في مفارقة لا تقبلها السنن والدلالات.

على أننا هنا سنحاول البحث في السوسيولوجيا المعاصرة، منطلقين من الغرابة ذاتها، من أن دوائر للتخلف ما تزال تهيمن على المجتمع اليمني وتشكل كوابح في طريق نهوضه وتقدمه، ربما لم تكن هذه الكوابح موجودة في عصوره القديمة، وكان المجتمع اليمني أكثر تقدماً في القدم بعلائقه تجاه المرأة أو السلطة أو قوانين الحياة والإنسان.

ولعل ما يعاني منه المجتمع اليمني المعاصر اليوم -بصرف النظر عن العوامل السياسية والاقتصادية والبيئية -يعود بالأساس إلى طبيعة إدارة هذا المجتمع لعلاقاته وسلوكه، ومنها تتأثر بقية العوامل المذكورة وغيرها.

ولنبدأ بأول دوائر التخلف؛ وهي في تقديرنا ذات مضمون اجتماعي ثقافي وتتعلق بعلاقة الآباء بالأبناء في مجتمعنا وما يتوالد عنها من تصورات وسلوكيات.

عصيان الآباء لأبنائهم

ربما تعود هذه العلاقة الجدلية إلى قوانين القبيلة منذ القدم التي ترى أن الأبناء ليسوا أكثر من مجرد هبة لآبائهم، وعليهم أن يكونوا خدماً لهم حتى الموت، على ألا تبقى للأبناء من حقوق وحضور سوى ما تفرضه خدمة الآباء، وبالتالي لا شخصياتٍ مستقلة لهم ولا حضورا اعتباريا، وكأنما دائرة حياتهم هكذا: يلد الآباءُ أبناءهم ليخدموهم حتى الموت وهكذا الأبناء مع أبنائهم من بعدهم، مغفلين دور الأب الراعي، وأنه من يجب أن يخدم أبناءه حتى يقوى عودهم، ومن ثم تهيئتهم لتحمل مسؤولياتهم تجاه أبنائهم وهكذا..

لقد غذت هذه النظرية طبيعة الصراعات والتنقلات والحضور القبلي الذي يستدعي الرجال بأعداد كبيرة للقتال أو الفخر بكثرة الولد، وما يزال الفخر بكثرة العيال ميزة ينفرد بها العرب والمجتمع اليمني رغم تغير أحوال الحياة وعسر الوفاء بمتطلبات الأبناء الكثيرين في الحياة العصرية، كما غذّى ذلك بعض المفاهيم الدينية التي اجتزئت من مقاصدها ومعناها الأشمل أو أخذت دون غيرها، ومن هذه الأمثلة الكثير مثل حديث: (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ) مسند الإمام أحمد 11/ 503، والحديث على ضعفه ليس أمراً نبوياً ولا قاعدة فقهية ويندرج تحت الحض على الطاعة والرعاية والتشجيع عليها، قال عنه الشافعي: “لم يثبت، فإن الله لما فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارث غيره، وقد يكون أنقص حظاً من كثير من الورثة: دل ذلك على أن ابنه مالك للمال دونه”. الرسالة /468، فتحديد الوارثين في حال وفاة الابن ينقض ما ذهبت إليه الذهنية الأبوية التي ترى بالتملك التام والتحكم.

وإن كانت آيات القرآن الكريم تتجه نحو الآباء بتحميلهم مسؤولية رعاية الأبناء وليس على الأبناء سوى التعامل بالحسنى مع هذا الواجب وشكره، لا أن يتحول الأبناء إلى أصحاب الرعاية طلبًا لدعاء الوالدين، في الآية: ” وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً” الإسراء/ 24، والتربية تعني النمو والرعاية الشاملة عاطفياً ومادياً وليس الحزم والقسوة كما يُتداول، والدعاء هنا هو من الأبناء نظير قيام الوالدين بواجبهم نحو الأبناء، بينما في ثقافة المجتمع اليمني يحدث العكس، على الأبناء أن يقوموا بخدمة آبائهم كي ينالوا الدعاء منهم! أليس في الحديث المشهور: “أو ولد صالح يدعو له ” صحيح مسلم/ 1631، فمن الذي يدعو لمن؟ كما في الآية والحديث؟ إذ على الآباء أن يخشوا التقصير نحو أبنائهم حتى ينالوا دعوة صالحة منهم ..لا العكس!

لكن الذهنية الأبوية أحالت النصوص لصالحها، وقدست مكانتها وسطوتها من خلال بعض النصوص بفهم مغاير، في مقابل طمس واجباتها تجاه الأبناء فلا تكاد تتذكر نصوصاً تحث على رعاية الأبناء أو الحقوق الواجبة لهم. وليس معنى ذلك دعوة الأبناء لعصيان آبائهم.. إنما حددت الشرائع والسنن وطبيعة الحياة أن الأصل هو أن يقوم الآباء برعاية أبنائهم وهم المسئولون عنهم وعن تربيتهم ودلالهم والعطف عليهم حتى يستطيعوا القيام بمسئولياتهم نحو الجيل الآخر وهكذا، على أن يتلقى الآباء نظير ذلك الإحسان والتقدير، لكن لا يعطل الآباء مَهمات أبنائهم في الحياة ويحيلونهم إلى مجرد جنود تحت إمرتهم وحسب.

لقد توغل هذا النسق الثقافي المخالف لطبيعة دورة الحياة التي أرادها الله في شرائعه لصالح الأبوية الطاغية التي تجعل من الأبناء مجرد سخرة عند آبائهم.

ويمكن أن نلاحظ في العصر القديم كيف أن هذه النظرية كان لها مساحة من الجدل، يتذكر عمر بن الخطاب في آخر حجة له كيف كانت طفولته بمكة، يقول عن أبيه:” كان الخطاب فظاً غليظًا إن أطعته أتعبني، وإن عصيته عاقبني” الكامل في التاريخ 3 / 161، هذا الخليفة الأعدل في التاريخ يقول هذه الجملة في آخر عمره وقد بلغ عدله كل كبد مؤمنة. وبها من الدلالة على ظلم الآباء ونظرتهم التي لا تغادر عبودية الأبناء في كل الأحوال، وهي احتجاج صارخ من العادل عمر بن الخطاب تجاه هذا السلوك.

ولعل كثيرا من الأصوات العربية الحكيمة أشارت إلى هذا الأمر، حين رأت في تصرفات بعض الآباء سلوكا مغايرًا ففي القول المأثور: “لاعب ابنك سبعًا وأدبه سبعاً وصادقه سبعاً ثم اجعل حبله على غاربه”*(روي بصيغ مختلفة). وفي الحديث:” لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع على المساكين” فيض القدير 5/257. وكلما أمعن الوالدان في حب أبنائهما؛ كلما بادلهم الأبناء حباً بحب، وشفقة بشفقة. قال الأحنف بن قيس لمعاوية عن الأولاد: “هم ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة وبهم نصول إلى كل جليلة، فإن غضبوا فأرضهم وإن طلبوا فأعطهم، يمنحوك ودهم، ويحبّوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيتمنّوا موتك ويكرهوا قربك ويملوا حياتك”. الدينوري: المجالسة وجواهر العلم 3/484.

هذه الجدلية الكبيرة ظلت حاضرة في راهن المجتمع اليمني بشكل كثيف، إذ نجد في الأغلب أن علاقة الأب بأبنائه قائمة على هذا النهج، فيعتبر الأب أن واجبه تجاه أبنائه الإطعام والملبس وفقًا لقدرته أو رغبته، وأن يزوجهم وفقًا لرغباته أيضًا وشروطه، ومؤخرًا تعليمهم بوصفه حاجة عصرية فرضها الواقع والمنافسة وخوف ألسنة الناس، والبحث عن المادة والوظيفة في المستقبل، وربما ليس لأجل التعليم ذاته والتنمية العقلية، وماتزال نظرة كثيرين من الآباء أن الخروج عن مسار حياتهم القديمة إلى التعليم إنما هو شر لابد منه.. وليس فيه من صالح للأبناء في حياتهم التي ينبغي أن تكون مليئة بالشظف والتعب والزراعة أو التمنطق بالصراعات والعادات الحربية.

بينما لا يكاد يدرك إلا القليل من الآباء وحتى الأبناء أيضًا؛ أن واجب الأب ومهمته الأساسية في الحياة إعداد أبنائه ليكونوا قادرين على رعاية أبنائهم القادمين، ويستوجب على ذلك الإحسان والرعاية وعدم التنكر، ومهمة الابن أن يحمل أباه على ضرورة أن يقدم له كل هذه الخدمات وليس ذلك فضلاً من الأب؛ بل واجبًا عليه. بينما وجدنا في ثقافة المجتمع أن الواجب هو الخضوع للأب فقط دونما نقاش، لكن ليس من واجبه أن يقدم لابنه شيئًا، حتى إذا ما رفض الأب أو أخذ حق ابنه فذلك ليس عليه لوم ولاحق. أليس هو الأب؟

قد يبدو هذا النقاش غير مألوف، إذ كيف نتحدث عن عصيان الآباء لأبنائهم؟ بل إن عصيان الآباء أفدح. لأن عدم قيام الآباء بمسؤولياتهم يورث جيلاً مشوه الأخلاق، منقوص التربية، ضعيف التفكير والمشاركة، مسلوب الإرادة مخذول الجانب مقهور الحضور غير قادر على تحمل المسؤولية في حياته وعلى بناء جيل يليه.

بقي أن نشير الى التساؤلات التي قد تثار وما علاقة تخلف المجتمع اليمني أو غيره بهذه العلاقة بين الآباء والابناء، ما الذي تتسبب به؟

يكفي أن نشير إلى أن هذه العلاقة المختلة منعت النهوض والانطلاق. وظلت الأجيال المتتالية لا تخرج من دائرة خدمة القبيلة وصراعاتها ومعاركها، وتسخير كل الجهود لأجل العادات والأعراف واعتبار أن أي شيء غير هذا فهو خروج عن القيم والتعاليم المجتمعية، بما فيها التعليم، إذ كان التعليم محدودًا وماتزال نسبة غير المتعلمين كبيرة. والتعليم أحد أهم انتقالات المجتمعات نحو النهوض.

كما أن هذه العلاقة الجدلية حصرت الأبناء في دائرة ضيقة، فحريتهم مقيدة ومواهبهم محدودة إلا وفقًا لنظريات الآباء. ولنا أن نتخيل أن جيلاً كاملاً يظل مجافيًا للتطور من حوله، لأنه متوقف على نظرة الآباء للحياة ومتطلباتها وفقًا لتصورات قديمة. في حين تتغير الحياة كل لحظة وتتبدل الحاجات فيها، وينسب لسقراط قوله:” لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ” (الملل والنحل، للشهرستاني (2/144).

نضيف إلى ذلك تحكم الآباء في مصير أبنائهم، وخوف الأبناء من عصيان آبائهم، في مسائل مهمة مثل الزواج إذ لا ينكر الكثير أن الزواج في اليمن يخضع لشروط الآباء حتى الآن، رغمًا عن رغبات الأبناء حتى المتعلمين منهم ومن حصدوا أعلى المراتب العلمية، وبالتأكيد فإن نتائج زواج بين طرفين ليس لهما الرغبة الكاملة إنما هو إجبار على مشاركة لا تقود إلا إلى المشكلات، وإنتاج جيل يحمل كل هذه العقد والآثار المشوهة.

على أن الآباء وفقًا لسلطة الأبوية المهيمنة في المجتمع؛ يتحكمون في مصائر أبنائهم وربما يحرمونهم من كثير حقوق رغبة في التسلط والصيغة الآمرة، أو تبعًا لنظرية أنهم أدرى بالمصلحة، “أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة” (مأثور شعبي)، ويضطر كثير من الأبناء الاتجاه في أعمالهم أو دراساتهم أو خيارات حياتهم الاجتماعية في اتجاهات لا يرغبون فيها، أو تخصصات أو أعمال أو غير ذلك فقط لأن آباءهم يرغبون فيها، وبالطبع يؤثر ذلك على مستوى أدائهم وإنتاجهم وشغفهم بالأشياء طوال الحياة، بما ينعكس سلباً على الانتاجية العامة للمجتمع وتنميته.


وفي بعد أكبر فإن هذه الأبوية لا تُفرض على الأبناء فقط في القضايا اليومية؛ إنما تحولت إلى وصاية كاملة على كل شيء. فشيخ القبيلة هو أب ينبغي أن يستمع إليه الجميع ولا يسمع منهم، وهو الآمر الناهي لوحده، وتسير الحياة والقبيلة وفقًا لأهوائه ورغباته وإدراكاته وتتحول مصائر كل أفراد القبيلة تبعًا لتفكير رجل واحد وقراراته. والأب في بيته هو الآمر الناهي، بالحق أو الباطل، لا يُناقش ولا ينقض قوله، ولأهله الحظ فيما إذا كانت قراراته حسنة أو تجلب للأسرة كلها العناء، ورجل الدين في مسجده، والكبير في مؤسسته، والمالك في شأنه، كل هؤلاء يتعاملون بمنطق الأبوية التي تملك كل شيء وليس من حق منهم أدنى سوى الانقياد. وهذه الحالة الانفرادية تمثل تعطيلاً كبيراً لدورة الحياة وتقدمها ونهوضها، فيما لو كانت الحياة قائمة على أن كل فرد له حقوق وعليه واجبات، فالأب يحظى بالاحترام لكنه يُيسر لأبنائه سبل الانطلاق في الحياة لا تقييدهم، والأبناء يمنحون آباءهم الفضل ولا يهملونهم أو يسيئون لهم وهكذا.

كما أن هذه العلاقة المختلة حتى على المستوى الاقتصادي تمنع الإنتاج والتوسع، فالأب يظل ممسكًا بماله وأولاده، لا يسمح لهم بالانطلاق ويعينهم في أعمال أخرى، إنما يريدهم في كنفه، مما يحجم من عملية التنمية ويقلل الخيارات.

كما إن سطوة الأبوة تخلق كثيرًا من المشكلات؛ فكثير من الآباء يجبرون أبناءهم على البقاء تحت سلطتهم حتى بعد أن يتزوجوا، وأحيانًا في ذات المنزل، فلا الأبناء يمارسون حياتهم بحرية وثقة، ولا الآباء يخلدون للراحة والاهتمام بقضايا أخرى وصرف جهودهم لما ينفع في اتجاهات مختلفة. إنما يتحول المنزل الكبير إلى حلبة من الصراعات اليومية والمشاحنات العائلية. فلا ينال الجميع مساحة من الحرية ولاهم يحققون التكافل والتعاضد الذي يدعيه الآباء. وهذا عائق آخر ونسق في ثقافة المجتمع اليمني الذي ينتج المشكلات اليومية في البيت أو القبيلة بفعل القيود الكثيرة المفروضة وشدة التقارب والتداخل وانعدام الخصوصية، حتى أصبحت الشِكاية والتقاضي الشعبي وأعراف الحق والعفو والعقوبات شأنا يوميا وطابعا رسميا للحياة في المجتمع. يشجع على ذلك نمط الحياة المجتمعية في البيت أو الأسرة أو القبيلة، ونتيجة الفراغ وعدم الانتاجية وقلة الانشغال بغير الأعراف المجتمعية. فكلما زادت وصاية العرف، تنامت داخل الأسرة المشكلات؛ فتجد مجالس الأسرة والقبيلة بشكل يومي تدور حول المصالحة بين متخاصمين، إذ تحولت هذه العادة إلى سلوك إنتاجي، فهناك سلطة أبوية يلزمها أن تصدر القرارات وتحل المشكلات وهناك أفراد استحثوا الخطأ والمشكلات لأن هناك سلطة أبوية سيلجؤون إليها وهكذا تستمر الدائرة. ولو قارنا مشكلات المجتمع اليمني بكل ما فيه من منظومة الأعراف وقوانين المجتمع الشعبية لوجدنا أن مشكلاته تفوق المجتمعات التي لا تمتلك هذه الوصاية الأبوية؛ وذلك أن المشكلات تنتجها هذه الأعراف لا العكس، والمجتمعات الأقل تشابكاً اجتماعيًا وأقل سلطات أبوية هي أقل مشكلات مجتمعية معنية بالخصوصية.

إن تصور الآباء عن أبنائهم في الثقافة العربية، وبالأخص اليمنية، بشكل أعمق يقود الحياة لنوع من التوتر الدائم بين الآباء والأبناء ولا تنشأ العلاقة ـفيما لو كانت في فسحة أكبر على الهدوء والتعاون والتبجيل. فكلما قسى الأب؛ نفر الابن. وكلما نفر الأبناء لجأوا إلى عوالم خفية، وفقدوا الاستقرار النفسي، الذي يسهم في بناء شخصية متطلعة وموهوبة، والإبداع غالبًا ما ينسحق في أتون هذه العلاقة التسلطية.

وهناك دراسات عديدة تشير إلى أن الأيتام الذين فقدوا آباءهم حققوا الكثير في حياتهم وكانوا أكثر تميزًا من أولئك الذين رافقهم آباؤهم طوال أعمارهم! والشواهد في الواقع على ذلك تجعلنا نتساءل عن أسباب ذلك؟ إذ تكون العلاقة أحيانًا وفقًا لنظرية التسلط معيقة أكثر من كونها مسانِدة.

بالإمكان قول الكثير من الأضرار الاجتماعية التي تحصل وتعيق المجتمع اليمني جراء هذا العصيان الأبوي. لكن هذه الأضرار في مجموعها تقدم لنا مجتمعا معاقًا غير حر، وغير منطلق، مقيد ومكبل بكثير من العوائق بسبب هذه العلاقة غير المستقرة وغير العادلة، والظلم بالتأكيد ينعكس بآثاره السلبية على أشياء كثيرة.

هذا لا يعني أن المجتمعات الغربية أفضل منا في هذا الأمر، أو أن علاقاتهم الأسرية -المفككة كما ندعي -هي النموذج الذي نريده. فبالتأكيد هناك قصور لديهم، صحيح ليس هنالك تسلط بل هناك قوانين في صالح الأبناء كما يعلم الكثير من المقيمين هناك أو المتابعين، ترعى حق الفرد والابن رعاية اعتبارية كاملة، لا تسمح للأب أن يعيق حياة الابن مطلقاً. لكن هل كل ذلك جيد؟ بالتأكيد لا. ينقصهم الكثير من الاحترام والتبجيل الذي نملكه نحن في ثقافتنا. بالمقابل ينقصنا نحن جزء كبير من الحرية والرعاية والمسؤولية التي يحملونها تجاه أبنائهم. فكيف إذا اندغمت مع التبجيل والتقدير للآباء الذي نحمله؟ أليست النظرة السليمة والتصور السليم لطبيعة العلاقة بين الأب وابنه هو ما قدمته لنا عقيدتنا وحضارتنا؟ الأب خادم وراع لابنه، والابن محسن لأبيه. فلو حصل هذا فإن مجتمعنا بالتأكيد سيتغير للأفضل وتتغير كثير من المفاهيم المتخلفة التي اندرجت تحت هذا الإطار، وربما وضعت اليمنيين في دائرة الصراع والتخلف والخضوع غير المنتج.

ولنتذكر المثل المنسوب للسكان الأميركيين الأصليين:” نحن لا نرث الأرض من أجدادنا بل نقترضها من أطفالنا “!



د. فارس البيل: أكاديمي وناقد أدبي يمني، حاصل على الدكتوراة في النقد الثقافي والأدبي من جامعة عين شمس، رأس منتدى رواق الثقافة والإبداع بالقاهرة، يكتب في عدد من المجلات والصحف والمواقع العربية، كما صدرت له عدة كتب في النقد والسرد القصصي.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.