تعرف الأوضاع في تونس ومصر، البلدين اللذين أنجزت فيهما ثورة منذ حوالي السنتين، تشابه والتقاء كبيرين، سواء فيما يتعلق بسلمية الثورة، أو التطورات والسياقات التي ميزت مسار الانتقال الديمقراطي، بعد سقوط نظامي مبارك وبن علي. حيث حرص الفاعلون في الحراك السياسي في البلدين، على الاحتكام للانتخابات، وإعطاء الفرصة للشعب لاختيار من يحكمه، مع التأكيد على ضرورة تكريس "الوفاق الوطنى" حول المكتسبات، وعدم المس ب "النمط المجتمعي"، الذي يحظى بقبول وإجماع كبير، وأيضا بمساندة قوية من قبل النخب والطبقة الوسطى. وهو ما أكدت عليه كل الأطراف والقوي السياسية، الوطنية أو الديمقراطية وكذلك الاسلامية، انطلاقا من كونها كانت جميعها مدركة بأن طبيعة "المرحلة الانتقالية" التي تتصف "بالهشاثة" وخاصة الأمنية، ما جعل الجميع مدركون بأن اختيار المرور الى الانتخابات، لا يعني تفويضا مطلقا لأن هذا يصح في "الديمقراطيات المستقرة"، والتي لها تقاليد وثقافة ديمقراطية، ما تزال غير متوفرة في مجتمعاتنا.
وقد قبلت الأحزاب الاسلامية في البداية بهذا "الاجماع" أو "العقد الاجتماعي"، لكنها عادت لتنقلب عليه، بعد أن استلمت مقاليد الحكم. ما أدي الى تعثر بل توقف مسار الانتقال الديمقراطي، الذي كان قد عرف سلاسة في البداية، برزت عبر انتقال السلطة لحزب "لنهضة" الاسلامية في تونس وللإخوان في مصر، بطريقة حضارية فاجأت كل المهتمين بالحراك "الثوري" في البلدين. غير أن الأداء السياسي للإسلاميين في الحكم، عاد ليفجر الأوضاع الاجتماعية والسياسية من جديد في البلدين. وذلك بسبب تعاطى الاسلاميين مع السلطة وكأنها "غنيمة"، اذ عمدوا الى تسريع عملية الاستيلاء والاختراق على كل مفاصل ومؤسسات الدولة، في خطة تهدف الى "أسلمتها" كما يقال في تونس، أو "أخونتها" كما يقول المصريين، الأمر الذى عمق "أزمة الثقة"، بينهم وبين قطاعات واسعة من المجتمع.
وهذا ما عمق حالة الاستقطاب السياسي، بين الاسلاميين وخصومهم من بقية التيارات اليسارية والديمقراطية، ليتحول مع مرور الوقت الى انقسام مجتمعي حاد وغير مسبوق، في بلدان تميزت تاريخيا بانسجامها ووحدتها المجتمعية، وخاصة تونس التي تعرف بوحدتها الاثنية والمجتمعية وحتى الطبيعية. الأمر الذي خلف بروز صراع سياسي، هو في الأصل بين نمطين مجتمعيين، واحد يستند الى خطاب الهوية وتتزعمه الأحزاب الاسلامية، وآخر يقوم على فكرة الدفاع عن الدولة المدنية. وتمظهر هذا الصراع، من خلال "معركة الدستور" في البلدين، حيث نجحت الأحزاب "العلمانية" أو الديمقراطية، في توحيد صفوفها، بعد أن أحست بالخطر المحدق، وبالتالي تعالت عن خلافاتها الفكرية والإيديولوجية وصراع "الزعاماتية"، وقامت "بتجييش" الشارع من جديد، بعد أن وجدت مساندة وتضامن من النخب وخاصة الاعلاميين، لتعود الحماسة الثورية للساحات والميادين، في مطلب واحد هو رحيل "حكم الاخوان"، وإعادة تصحيح مسار الثورة، التي لم ترفع –لا في تونس ولا في مصر- شعارات تطالب بتطبيق الشريعة، أو بدولة اسلامية، كما أراد لها الاسلاميون أن توجه.
وبالعودة للشعارات التي رفعتها الحركة الاحتجاجية في تونس –التي تحولت إلى ثورة - منذ انطلاقتها، يمكن الإشارة إلى بعض الخاصيات ومنها أساسا أن أبرز الفاعلين فيها هم "أجيال ما بعد- إسلامية" ، لذلك وصفت بثورة الشباب. وهي الأجيال الجديدة التي تم توجيهها وتهميشها بصفة إرادية خلال كامل فترة حكم العهد السابق. ما جعل منها أجيالا لا تهتم كثيرا بالايدولوجيا وبالعمل السياسي أصلا بما يعنيه من انخراط في الأحزاب واهتمام بالشأن العام. ولم يكن لها ارتباط -ولو عاطفي- بالإيديولوجيات الكبرى سواء كانت "قومية/عروبية" أو "ماركسية" أو "إسلامية". وبرز ذلك "من خلال الشعارات التي كانت كلها براغماتية وواضحة ولا تتحمل أي تأويل، تم تلخيصها في : ("ديقاج"- "ارحل"). حرص المحتجون - وفي المقام الأول – على التأكيد لرفضهم للدكتاتورية والفساد والمطالبة بالديمقراطية. بطريقة بدت "عفوية" وبدون قيادات أو زعامات تقليدية. على خلاف ما هو متعارف عليه في تاريخ الثورات.
كما أن هناك تشابه كبير –حد التماهي- في الخيارات الاقتصادية، التي عمد الى نهجها الاسلاميون في البلدين، والتي لم تقطع مع الأنموذج التنموي السابق للثورة، فمن خلال أداؤهم في السلطة، يبدوا أن الاسلاميين أكثر فأكثر يمثلون حزب الاستمرارية لا القطيعة، فهم ليسوا "حزب ثوري" وفق التصور اليساري. وخاصة في ما يتصل بالموقف من القضايا الاجتماعية والاقتصادية، التي لم تختلف كثيرا عن تصورات ورؤى النظام السابق، فهى عموما تصورات يمينية-ليبرالية، تؤمن بسيطرة السوق على كل مناشط الحراك الاقتصادي، والارتهان الى الخارج ما يزيد في تبعية الاقتصاد للخارج.
ويجمع المراقبون للشأن التونسي والمصري الحالى، على ان التحديات التي يمكن امتحان الحكومات الاسلامية فيها ليست سياسية، حيث من المستبعد بل من المستحيل أن تتنكر للخيار الديمقراطي التعددى، وللتداول على السلطة عبر الانتخابات، فليس أمامها خيار أخر، خاصة أمام ضغط النخب والشارع. بل أن التحدي الرئيسي الذي يواجه حركات الإسلام السياسي، سيكون متمثلا في سياستها الاقتصادية والاجتماعية. وبالفعل فقد طرح مشكل "البرنامج" بقوة بعد تشكيل الحكومة في تونس كما في مصر، حيث كان بيان رئيس الحكومة التونسية أمام المجلس التأسيسي أثناء مناقشة الميزانية، مجرد "خطاب نوايا" وليس برنامج عملي لبلد يعاني من تحديات عديدة واستحقاقات ثورة. ما يطرح التساؤل عن مدى قدرة الأحزاب الاسلامية، على إحداث قطيعة مع البنية والخيارات التنموية والاقتصادية السابقة.
لقد كشف التغييرات التي حصلت في تونس ومصر، عن وجود مشاكل بنيوية في النموذج التنموي، والذى نجم عنه قيام انتفاضة شعبية عارمة، كانت من أول مطالبها مراجعة النمط التنموي السابق، والذي برزت محدوديته بل أنه فشل تماما. وهذا ما لم تستطع الحكومتين في تونس ومصر ايجاد بديل عنه. وهو على خلاف ما هو متصور ليس بالأمر السهل والممكن، لأنه يتجاوز البعد المحلى-الوطنى، الى الارتباط بالمنظومة الاقتصادية العالمية، التي تفرض اكراهات ليس من اليسير التخلص منها في ظرف سنة، لكن كان لابد من البدء في اعطاء اشارات، على الاتجاه نحو تحقيق القطيعة مع الخيارات التنموية السابقة. وهذا ما لم يبرز الى حد الان، بل شاهدنا اتجاه نحو السقوط في "فخ" اعادة انتاج ذات النمط التنموي السابق، الذي خلف دمارا مركبا اجتماعيا واقتصاديا، وينذر باعادة انتاج ما وقع، وهذا ما تفطن له التونسيون والمصريون، أشهر قليلة بعد وصول الاسلاميين للسلطة.
ان نقاط التواصل أكثر من نقاط الانقطاع، في البرامج الاقتصادية الحالية في مصر والقاهرة، مع خطط وبرامج النظام المنهار الذي سبقها. من ذلك أن هناك التقاء في عدد من النقاط الرئيسة في الأجندات الاقتصادية. ويلخصها خبراء الاقتصاد في العناصر التالية: "فهي لاتدعو إلى تأميم الصناعات، أو إعادة تأميم الشركات المملوكة للدولة التي تمت خصخصتها، وتبدي الاحترام لحقوق الملْكيّة الخاصة". كما تشجع على "إقامة شراكات مع القطاع الخاص لتنفيذ مشاريعها المقترحة، ولاسيّما مايتعلق بالمرافق العامة والبنية الأساسية". ويري خبراء الاقتصاد، أن الأحزاب الاسلامية الحاكمة، "لا ترقى إلى مستوى تقديم برامج شاملة ومتكاملة يمكنها أن تغيّر، وبصورة حقيقيّة ديناميكية اقتصادات بلدانها". ويقولون "أنها تفتقر إلى الخبرة والأولويّات الواضحة وسبل بناء وتمويل خطط النمو الطّموحة"، وهذا ما جعلها تواجه تحدّيات خطيرة في ترجمة أجنداتها الاقتصادية المعقولة وحسنة النيّة عموماً إلى نتائج.
بعد سنة من وصول حكومة الترويكا، بزعامة حزب "النهضة" الاسلامي للحكم في تونس، وبعد أربعة أشهر من رئاسة القيادي الاخواني مرسى لدولة مصر وتكوين حكومة موالية له، يجمع أغلب المتابعين للمشهد في البلدين، على القول بأن الحكومتين لم توفقا في الاستجابة لمطالب الثورة، وخاصة في بعدها الاجتماعي والمتمثل في التقليص من التفاوت بين الجهات، عبر دعم التنمية والاستثمار في المناطق الداخلية المحرومة، وخلق مواطن شغل اضافية. بل أن الأوضاع ازدادت سوءا عما كانت عليه قبل الثورة، وهذا ما يفسر انفجار الأوضاع الاجتماعية في عدد من المحافظات، من خلال حركة احتجاجية واسعة، مثل تلك التي شهدتها منذ أيام محافظة سليانة، غرب تونس والتي أخذت أشكالا وصورا، ذكرت بسيناريو الأحداث الذي فجرت الثورة التونسية، في 17ديسمبر 2010 من مدينة سيدي بوزيد، سواء من خلال اصرار المحتجين وصمودهم في تبليغ مطالبهم وفي التعبير عن رفضهم للتهميش والاقصاء، أو طريقة المعالجة الأمنية من قبل السلطة، والتي لجأت الى "القوة المفرطة" واستعملت أسلحة غير مسبوقة –"الرش"- في صد المتظاهرين.
وفي الجانب السياسي، الذي تميز بحيوية وبانتقال سلس للسلطة خلال المرحلة الانتقالية الأولى في البلدين، نلاحظ أيضا تشابه بين كل من تونس ومصر، فقد عاد للانتكاس منذ وصول حكم الاسلاميين، ويمر بتعثر بل لا نبالغ اذا ما قلنا انه توقف، بسبب عدم اقرار خارطة طريق سياسية واضحة، وتوفير بيئة قانونية ومؤسساتية مناسبة لإجراء الانتخابات القادمة في تونس. كما أن انقلاب مرسي على الديمقراطية، من خلال "الاعلان الدستوري" الذي جعل منه "الحاكم بأمر الله" و "فرعون جديد"، مثل خطوة غير مدروسة، وحدت ضده كل المصريين، الذين أرجعوا لميدان التحرير زخمه الثوري، في مشهد "ثوري" أربك "الاخوان المسلمين"، الذين خيل اليهم أن أمر مصر أصبح بأيديهم، وهو ما أدى الى عزلهم سياسيا وكذلك اجتماعيا، وبين أنهم قد فقدوا الكثير من شعبيتهم وبالتالي من رصيدهم الانتخابي.
وهو ذات المأزق نفسه الذي تعيشه حركة النهضة في تونس، التي تشير كل عمليات سبر الأراء الى أنها خسرت نصف رصيدها الانتخابي. ما جعل هامش المناورة لدي اسلاميي تونس ومصر محدود جدا، حيث عجزوا في محاصرة الحركات الاحتجاجية في تونس، كما أنهم في موقف "الصدمة" مما يجري في ميدان التحرير، في مشهد جامع بين تونس والقاهرة، يعبر عن تواصل "الحالة الثورية"، في ما أعتبر على أنه مقدمات ل "ثورة ثانية"، ضد "دكتاتورية الاسلاميين الناشئة". الذين لا يستبعد أن يلجأوا للعنف، الذي بدأت تبرز بعض مقدماته، في كلا البلدين، من خلال التهجم على المعارضين، في مقر اتحاد الشغل بالعاصمة تونس، وأمام قصر الاتحادية في القاهرة، حيث اندلعت اشتباكات بين شباب من جماعة الإخوان المسلمين، والمعتصمين أمام القصر، وقام عدد من أعضاء الجماعة بإزالة خيام المعتصمين.
ان الاستمرار في الحكم، يبقي رهين قدرة "النهضة" في تونس و"الاخوان" في مصر، على الحد من كل "التخوفات" وتجسير الفجوة بينهم وبين الجماهير والنخب التى لا تثق فيهم وفي نواياهم الطائفية، عبر اقرار خارطة سياسية واضحة، والاسراع بكتابة الدستور والتفرغ لتهيئة الأرضية السياسية والقانونية والمؤسساتية للانتخابات القادمة، والتعاطي بايجابية وبتفاعل عقلاني مع المجتمع ونخبه المتمسكة بالمكاسب الحداثية وبمدنية الدولة، وذلك من خلال الانتصار إلى "إسلام حركي " يأخذ في المقام الأول خصوصية التجربة التحديثية في كل من تونس ومصر، التي تعود إلى حركة الإصلاح في القرن التاسع عشر وتعد الدولة الوطنية استمرار لها. والعمل من أجل التأسيس لتوافق بين هوية المجتمع و علمانية الدولة، على غرار التجربة التركية التي تحظي بالإعجاب لدي الاسلاميين، والابتعاد عن الأخطاء القاتلة التي طبعت تجارب حكم الإسلاميين في السودان وإيران وأفغانستان، والتي أكدت ممارساتهم في الحكم، وخلال أشهر قليلة، على أنهم يتجهون نحو اعادة انتاجها، ولذلك انتفضت النخب والمجتمع ضدهم.
ولعل الضمانة في عدم الوقوع في مثل هذه التجارب الفاشلة، بل والمسيئة للإسلام، تكمن في كون المجتمع التونسي والمصري، لهما من الحصانة ما يجعلهما قادران على حماية المكاسب الحداثية. وأن على الحركة الإسلامية في تونس ومصر، التطور ضمن السياق التاريخي والاجتماعي الداخلى لمجتمعها، والا فان المجتمع ونخبه سيرفضها، كما هو حاصل الان وهنا.
معهد العربية للدراسات

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.