لم يستغرق الأمر طويلاً لتنقشع سحب "الربيع العربي" من سماء اليمن لتكشف مدى بؤس شعبه الذي أمضى أبنائه عامين في شوارع "الثورة" دون أن يعرف أحد منهم إسم قائـد الثورة أو التنظيم الذي أشعل شرارتها الأولى.. فما سمي بـ"ثورة الشباب" إنتهت بحكومة "عجائز", وحلم الدولة المدنية أضحى كابوس زعامة قبلية ودينية, فيما تكالبت مختلف لقوى الخارجية لترتع في اليمن بأجنداتها التآمرية.
.
ربما لم يدرك الشباب بعد أن ما أسموها بـ"الثورة" لم "تختطف" أو "تسرق" وإنما جنى أصحابها ثمارها, وكل مستثمر جنى أرباح كل دولار أنفقه فيها. فالشباب لم يستلهموا تجارب التاريخ ليدركوا أن السلطة والحكم في اليمن ليس إلا مشروع إستثماري عملاق يدار منذ ستينات القرن الماضي بأيدي قوى متنفذة, وهي وحدها من يصنع صيف اليمن وربيعها وخريف زعماتها!!


إن مشكلة اليمن لم تكن يوماً قضية "مصالح وطنية" بل قوى "نفعية" مستبدة تتمتع بقدرات كبيرة على خلط أوراق الأنظمة الحاكمة.. فقط أطاحت بأول رئيس جمهورية "عبد الله السلال" للتخلص من المد القومي المصري. ثم إنقلبت على خلفيته "عبد الرحمن الارياني" لما قطع إمتيازاتها المالية أملاً في انقاذ الميزانية الخاوية.. وعندما أيقن الرئيس "ابراهيم الحمدي" مدى خطورتها وباشر حملة تحرير اليمن من نفوذها وفسادها، قتلته مع شقيقه قائد قوات العمالقة للتخلص من أي قوة قد تتعقبها وتنال منها.. فهذه القوة (القبلية- الدينية) تحترف اللعب مع الأنظمة, وتستمد قوتها من قوة تفشي الجهل والأمية والفقر, ومن ارتباطاتها الإقليمية- الخليجية بدرجة أساس- التي جعلت منها مراكز نفوذ مالي وإقتصادي وإجتماعي .. وسياسي..!


في بداية عهده, تفادى الرئيس علي عبد الله صالح الاصطدام بها مستلهماً تجارب أسلافه, بل منحها إمتيازات تجارية ومصالح لأشغالها, وإستثمار نفوذها بمواجهة "المدا الماركسي" الذي كان يزحف بقوة نحو المناطق الوسطى, وأيضاً لإستغلال إرتباطاتها الخارجية في تعزيز علاقات دولته اقليمياً بما ينعكس على حجم الدعم المقدم لليمن.. فبعد أن كان الرئيس "الحمدي" جرد تلك القوة من مراكزها وشتت رموزها في الداخل والخارج, تعاظم شأنها في عهد "صالح" وأمست تدير لعبة السياسة من مواقعها بعد ان أطرت نفسها حزبياً, وتحصنت بجلباب الديمقراطية!


في عام 1990م كانت اليمن تقف امام فرصة تاريخية للحد من نفوذ القوة "القبلية- الدينية" بتوازنات جديدة تفرضها الوحدة الاندماجية مع الجنوب الأشتراكي "العلماني"، إلا ان مخاوف دول الاقليم "الخليجية" من خروج اليمن من نسيجها الثقافي والأجتماعي "القبلي- الديني" وما يترتب عن ذلك من مشروع سياسي لبناء دولة مدنية, دفع بمؤامرة إشعال حرب إنفصالية 1994م، تستعيد بها القوة "القبلية- الدينية" اليمنية نفوذها, باجتثاث المنظومة العلمانية "الأشتراكية" وطمس أثرها بأحتلال ومصادرة مقراتها ومكاتبها وتدمير مخلفاتها، وتشريد رموزها, وإقصاء وتهميش من تبقى داخل البلد من كوادر فاعلة.. فارتدى الجنوب ثوب الشمال بعد أن كان الظن أن يرتدي الشمال جلباب مدنية الجنوب..!!


ويبدو أن الرئيس "صالح" وجد في اللعب بورقة الديمقراطية ما قد يفتت الولاءات القبلية ويذكي صراعات الزعامة داخل المنظومة الدينية, ويعزز نفوذه سياسياً في المجتمع الدولى.. فكان إنفتاحه على تجارب متعددة أن سلط الأضواء الدولية على اليمن لدرجة إختيارها لاحتضان مؤتمر عالمي للديمقراطية عام 2004م, وكذلك ضمها إلى جانب تركيا وإيطاليا في "لجنة لمساعدة الديمقراطية" بالمنطقة, فيما حضيت انتخابات الرئاسيه 2006م بتتويج أمريكي أوروبي دولي وبخطابات رئاسية تشيد بنزاهتها.. لكن هذا الأنفتاح والتتويج فجر غضباً أقليمياً "خليجياً" مخافة إنتقال عدواه الى بلدانهم, او فرض تقليد التجربة اليمنية بضغوط دولية.. ومن هنا إنطلق المشروع الأقليمي لقلب الطاولة اليمنية وإعادتها للحضيرة التقليدية من خلال الدفع بالقوة "القبلية- الدينية" اليمنية نحو الجنوب في أوسع حملة تأليب للنزعات الانفصالية، من قرية إلى قرية، قادها رؤوس التيارين القبلي والديني بأنفسهم منذ 2007م، لتدخل اليمن على أثرها حلبة "الحراك الجنوبي" والأعمال التخريبية والدموية, وتلك بداية معركة القضاء على الديمقراطية اليمنية من أجل بقاء الثقافة القبلية الدينية..!


إن هذ السرد الموجز يفسر الكثير من حقائق ما أسمي بـ "الثورة اليمنية"، والتي نعدها مشروعاً إستثمارياً لنفس القوة التقليدية "القبلية- الدينية" ذات الخبرات التاريخية الطويلة بلعبة السلطة والحكم في اليمن..!


فالقبيلة بزعاماتها المعروفة للجميع هي التي تعهدت تمويل "الثورة" بدعم خارجي, وتكفلت حمايتها بالمليشيات المشكلة بعصبيات جاهلية.. فيما تولى "الدين" التضليل والتعبئة المقدسة, والتحريض والآيحاء النفسي.. ولأنها مشروع دولة قبلية- دينية فإن المستثمرين إحتكروا المنصات, وقيدوا كل تحركات وحريات القوى المدنية الأخرى التي انضمت للساحات, ونكلوا بناشطيها حتى اضطروهم لمغادرة الساحات باكراً. فمن حق أي مستثمر إنتقاء الكفاءات التي تخدم أهدافه وتوصله لجني أرباحه..! ولم يكن الشباب سوى ضحية مؤامرة تضليلية بشعة إستغلت معاناتهم, وطموحاتهم, وطاقاتهم, وجهلهم بالحقائق وتجارب التاريخ, وثقتهم بالله والدين الذي تم باسمه وبلباسه خداع الشباب, واسثمار دمائهم في مشروع سلطوي إنتهازي قاده ألد أعداء الدولة المدنية..


لكن من الواضح أن المعركة المصيرية من أجل البقاء بين شباب الدولة المدنية والقوة القبلية- الدينية المستهدفة بالثورة لم تحسم بعد, حيث أن القوة التقليدية إرتكبت خطاً فادحاً حين نفذت مشروعها بنفس عقليتها القديمة التي ادارت اللعبة مع الأنظمة السابقة دون أن تضع هامشاً للتطورات التاريخية.. فوجود قوى الحراك الجنوبي والحوثيون وشباب الثورة الأحرار أفسد قدرتهم في البسط على الدولة, وفرض الأرادة القبلية- الدينية على الشعب.. وبالتالي فإن الواقع الجديد سيمثل ضربة قاصمة لنفوذ هذه القوى التي ظلت على مدى نصف قرن ترهن اليمن للتبعية الأقليمية الخليجية وتكبل إرادتها السياسية بحسابات معقدة أعاقت تقدم البلد, وكرست حالة التخلف والصراعات الدامية والفتن ليبقى اليمن سوقاً للعمالة الرخيصة, وميداناً تقصده مدارس الفكر التكفيري المتطرف كلما تاقت نفسها للقتل والتدمير..



حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.