شهدت العلاقات التركية – الإسرائيلية خلال السنوات القليلة الماضية تجميداً للعديد من الاتفاقيات العسكرية المشتركة، وتصعيداً سياسياً وإعلامياً متبادلاً، وذلك جراء توتر واضطراب العلاقات في مرحلة ما بعد أزمة "قافلة الحرية"، التي أدت إلى مقتل نحو تسعة مواطنين أتراك، ما خلق حالة غير مسبوقة من "العداء" بين البلدين، لم ينهيها إلا قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالاستجابة إلى كامل المطالب التركية، وذلك بعد إعلانه في بيان رسمي اعتذاره إلى نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، عبر اتصال تلفوني في 22 مارس 2013، تعهد فيه بدفع التعويضات اللازمة إلى أهالي الضحايا من المواطنين الأتراك، وتخفيف الحصار الاقتصادي عن قطاع غزة.
الاعتذار الإسرائيلي أفضى إلى بروز اتجاهات متناقضة وتحليلات متباينة حيال مسار تطور التفاعلات التركية – الإسرائيلية خلال الفترة المقبلة، لا سيما أنه في الوقت الذي واجه فيه "الاعتذار الإسرائيلي" مواقف داخلية متفاوتة، ارتفع فيه مستوى الإشادة بالدبلوماسية التركية، حيث برزت العديد من التصريحات والآراء المؤكدة على نجاح أنقرة في "امتحان الأزمة" مع إسرائيل.
وقد تجلى ذلك في كتابات العديد من الكاتب والمحللين الأتراك مثل جنكيز كاندار Cengiz Çandar، الذي أشار إلى أن مرحلة ما بعد الاعتذار الإسرائيلي تمثل "الوقت المناسب لاحترام الذات" . هذا فيما أشار أرهان باشيروت Erhan Başyurt إلى أن "الاعتذار الإسرائيلي لا يعيد الشرف لتركيا وحسب، ولكنه دليل أيضا على أنها أصابت في هذه الحالة، بما أظهر قوتها الإقليمية". هذا بينما اكتظت العديد من المدن التركية باللافتات، التي تحمل عبارات من قبيل "شكرا أردوغان لقد أعدت لنا الكبرياء".ومن ثم فإن مركز دراسات العربية يسعى من خلال هذه الدراسة إلى التعرض لمسارات تطور العلاقات التركية - الإسرائيلية، على الصعيد السياسي، والاقتصادي، والعسكري، والتعرف على العوامل التي دفعت إسرائيل بعد ممانعة إلى الاعتذار إلى تركيا، وأثر ذلك على علاقات تركيا مع الدول العربية، وصولا إلى استنتاجات الدراسة.


أولاً: أسباب توتر العلاقات بين تركيا وإسرائيل
على الرغم من أن أزمة العلاقات التركية - الإسرائيلية تتعلق بطبيعة السياسة الخارجية للدولتين حيال قضايا الصراع في منطقة الشرق الأوسط. بيد أن السبب الرئيسي في اضطراب هذه العلاقات ارتبط بطبيعة المعادلة السياسية الداخلية، في ظل الإدارتين اليمنيتين في الدولتين وظروفهما الداخلية، من حيث توجهات القواعد الشعبية المؤيدة، وطبيعة التوجهات السياسية والإيديولوجية السائدة.
وقد انعكس ذلك في عدم قدرة أيا من الطرفين على اتخاذ خطوات تتضمن قدرا من التنازل، لصالح إعادة العلاقات إلى مسارها التقليدي، وذلك رغم إجراء العديد من المحادثات الدبلوماسية ذات الطبيعة السرية، والتي فشلت في الاتفاق على شروط عودة العلاقات بين البلدين. ومن هذه المفاوضات تلك التي أجريت بواسطة وكيل وزارة الخارجية التركية، سينيرليوغلو فريدون Feridun Sinirlioğlu، ومستشار نتنياهو جوزيف تشيخانوفر Joseph Ciechanover، بسبب عدم الاتفاق داخل الحكومة الائتلافية السابقة في إسرائيل، وموقف بعض الأصوات المتشددة التي ضغطت على نتنياهو من أجل عدم الاعتذار والاكتفاء بـ"الإعرب عن الأسف" لسقوط ضحايا خلال العملية الإسرائيلية.وبصفة عامة، فثمة العديد من العوامل التي لعبت أدورا أساسية في توتر واضطراب العلاقات التركية – الإسرائيلية، خلال السنوات الماضية، وهى عوامل يمكن إجمالها على النحو التالي:


1 - طبيعة الدور الإقليمي الجديد لتركيا:
بنت تركيا تصورها لدورها الإقليمي على أساس ينقلها إلى مركز تفاعلات المنطقة من خلال عدد من المبادرات الهادفة لإنهاء الصراعات وإلغاء الحواجز أمام حركة الأفراد والأفكار والسلع والبضائع. وقد اعتبرت أن عمليات بناء الثقة تمثل الخطوة الأساسية لتحقيق ذلك. وقد شرعت في وضع اللبنات الأولى لدورها الإقليمي الجديد من خلال محاولة التوصل لاتفاق سلام بين الإسرائيليين وجيرانها العرب، غير أن السياسات الإسرائيلية بعد ذلك أوضحت للأتراك أن إسرائيل "استخدمت" تركيا ووظفتها لخدمة مصالحها دون أن تقدم لها شيئا يذكر، على نحو اعتبره رئيس الوزراء التركية "إهانة شخصية" واستهانة بقدرات دولته، لا سيما بعد إفشال إسرائيل لجهود تركيا في إحداث اختراق في جدار المفاوضات السورية – الإسرائيلية الصلب.
أفضت هذا التطورات وما تلاها من أحداث درامية في مسار العلاقات التركية - الإسرائيلية إلى قطع كافة أشكال العلاقات العسكرية وتجميد كافة الاتفاقات الأمنية وتخفيض مستوى العلاقات الثنائية إلى مستوى سكرتير ثاني، وذلك بعد تسريب ما عرف بـ"تقرير بالمر" في سبتمبر 2011، والخاص بتحقيقات الأمم المتحدة في حادثة "قافلة الحرية"، والذي أضفي شرعية على الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة. وقد كشف ذلك أنه فيما أساءت إسرائيل تفهم مقتضيات الطموح التركي في الاضطلاع بدور إقليمي مركزي على ساحة الإقليم، فإن أنقرة بدورها أساءت تقدير المدى الذي يمكن أن تتحمله إسرائيل في سبيل الحفاظ على "علاقات مميزة" مع أنقرة.
ذلك أن الدبلوماسية التركية اعتبرت أن "إستراتيجية صفر مشاكل" Zero problems تمثل مكسب لكافة دول الجوار بالقدر الذي تعنيه لتركيا، وأن كون الأخيرة لديهما مشكلات مع أغلب دول الجوار الجغرافي، على نحو يدفعها بمحاولة إنهاء الصراعات والوصول "لحد أقصى من التعاون" Maximum Cooperation، فإن ذلك بالتبعية سيدفع إسرائيل للاستجابة للمبادرات التركية لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، كون علاقاتها الإقليمية هي الأخرى تتسم بالتوتر والصراع مع أغلب دول المنطقة. أنقرة بمقتضى ذلك افترضت أنه لا شيء أهم لإسرائيل من التوصل لاتفاق سلام مع الدول العربية، وأن إسرائيل لا يمكنها التعايش في المنطقة بدون علاقاتها الوثيقة مع أنقرة، والتي توفر لها فرص عديدة، سواء من خلال التدريبات العسكرية المشتركة أو صفقات الأسلحة الضخمة، أو عمليات تبادل المعلومات والتعاون الاستخباراتي المشترك، وهو التصور الذي تأسس عليه حالة التوتر التي شهدتها علاقات الدولتين خلال الفترة الماضية.


2- إعادة تعريف تركيا لـ"مصادر التهديد":
تبنت تركيا إستراتجية للتعامل مع القضايا الأمن في الإقليم تقتضي بأن تتحول أنقرة من دولة "مستهلكة للأمن" إلى دولة "موفرة للأمن" net security producers، كما أعادت صياغة توجهاتها الأمنية وإدراكها لأنماط التهديدات المحتملة، فلم تكن أنقرة، حينما وقعت حادثة "قافلة الحرية"، تنظر إلى "الجنوب" حيث العراق وسوريا وإيران، باعتباره تهديدا محتملا حل محل "الشمال" حيث الاتحاد السوفيتي السابق، كما رأت أن توسعة مجال تحركها الخارجي يرتبط بانفتاحها على مختلف الأحواض الجغرافية التي تشترك فيها، بما يعظم من أدورها الإقليمية والدولية.
وقد ترتب على ذلك أن أدركت أن علاقاتها مع إسرائيل لم تعد تمثل "بوابة العبور" لتعظيم العلاقات مع القوى الدولية كالولايات المتحدة أو لاكتساب عضوية الاتحاد الأوروبي، أو كمدخل للتعامل مع قضية الأمن الإقليمي، وإنما باعتبارها علاقات مع دولة تثير تهديدات أمنية وتمثل تحديات للنموذج التعاوني الذي تطالب أنقرة بإرسائه في منطقة الشرق الأوسط.


3- التصعيد المتبادل بين الدولتين:
كانت الغارة الإسرائيلية على سفن "قافلة الحرية" بمثابة رسالة إسرائيلية لأنقرة، مفادها بوضوح، أنها لن تسمح لتركيا بأن تتمادي في خطابها الإعلامي، وسلوكها السياسي الذي يعرض المصالح الإسرائيلية في المنطقة للخطر، وفق النمط الإدراكي لتحالف اليمين الحاكم، وهو ما كان ماثلا في وصف وزير الخارجية السابق لأردوغان بأنه لا يختلف عن (الراحلين) شافيز أو القذافي، فضلا عن الدعوة إلى عمل نصب تذكاري لضحايا الأرمن على يد الأتراك في إسرائيل، وكذلك دعم اللوبي الإسرائيلي لموقف الكونجرس الأمريكي والبرلمان السويدي بإدانة مذابح الأرمن. استمرت هذه التطورات ترخى بظلالها على علاقات الدولتين، هذا إلى أن جاء موعد الرسالة الأكثر قسوة ممثلة في غارة القوات الإسرائيلية على السفينة التركية "مرمرة" في المياه الدولية وقتل بعض الناشطين الأتراك، واقتياد بقيتهم للتحقيق في إسرائيل، وهى الأمر الذي دفع كثير من الاتجاهات إلى تشبيه الحدث بـ"صفعة إسرائيلية لتركيا".الرسالة الإسرائيلية كانت بالقوة بمكان لتدفع رئيس الوزراء التركي لأن يقطع زيارته إلى أمريكا الجنوبية، فيما قام رئيس الأركان السابق الجنرال ايلكر باشبوغ بقطع زيارته لمصر من أجل حضور اجتماع لمجلس الأمن. وقد تحددت ملامح إستراتيجية مواجهة أنقرة لقيام إسرائيل بقتل مواطنيها في المياه الدولية في مجموعة من الخطوات بدأت بتقليص مستوى التمثيل الدبلوماسي في إسرائيل، ومنع دخول السفن الإسرائيلية إلى الموانئ التركية. وتضمنت الخطة أيضا عدم منح تأشيرة لدخول الإسرائيليين الراغبين في دخول تركيا، وإلغاء الاتفاقيات العسكرية الموقعة مع إسرائيل. ومن بين الإجراءات التي شملتها الخطة الحكومية إلغاء اتفاقية التعاون في مجال الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات، وعدم استخدام مؤسسات الدولة التركية لأي منتجات أو برامج تحمل الرخصة الإسرائيلية، ووقف جميع أشكال التعاون في مجالات التعليم والثقافة والرياضة.


ثانيا- أسباب اعتذار إسرائيل إلى تركيا:
هناك العديد من العوامل التي ساهمت في الاعتذار الإسرائيلي لتركيا. وهذه العوامل لا تتعلق بإسرائيل وحدها، ولكن هناك ما يرتبط منها بأنقرة، ومنها أيضا ما يتعلق بدور الولايات المتحدة الأمريكية.
(أ)- تركيا.. دور سياسي بارز وتحديات أمنية متزايدة:
أفضت الثورات العربية إلى ازدياد الحضور التركي في المشهد الإقليمي، ليس كلاعب يتطلع للعب أدوار مركزية، وإنما كطرف في معادلة موازين القوى الإقليمية، فبعد ثورة 25 يناير في مصر كانت تركيا أول دولة تدعو الرئيس المصري السابق حسني مبارك إلى التنحي، ثم اضطلعت بدور مركزي في الأزمة الليبية من خلال طرح مبادرة لحل الأزمة سلميا وعبر دعم جهود الناتو لإسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي. ورغم أن تركيا ساندت نظام الأسد في بدايات الثورة السورية من خلال إطلاق المبادرات الداعية إلى الحوار والشروع الفوري في عمليات إصلاح سياسي وتحول ديمقراطي، إلا أن عدم استجابة نظام البعث السوري، حَول الأسد من "حليف" إلى "عدو" يجب إزاحته من الحكم، وأصبحت تركيا القاعدة الخلفية التي تساند المعارضة السورية وتستضيفها، بل وأضحت أنقرة بمرور الوقت مركز المحور الإقليمي الجديد الذي يقود الأحداث في منطقة الشرق الأوسط.
دفع ذلك بأن، توثقت العلاقات التركية – الأمريكية ليس وحسب بسبب التنسيق السياسي والمخابراتي حيال الأحداث في سوريا، وإنما أيضا إزاء الوضع في إيران، بما أدى من ناحية ثانية إلى تنامي القناعة لدى الأتراك مثلهم في ذلك مثل الكثير من الخبراء والقيادات في إسرائيل، بأن أنقرة لم تعد في حاجة إلى الأخيرة لدعم العلاقات مع واشنطن أو الاضطلاع بدور مركزي في عملية السلام في الشرق الأوسط، التي أصيبت بالجمود من جراء سياسات حكومات اليمين الإسرائيلي.
وعلى جانب ثان، فقد تشكل محور مضاد لأنقرة من قبل كل من سوريا وإيران والعراق، والدول الثلاث تشكل تحديا كبيرا للأمن القومي التركي بالنظر إلى كونها دول جوار جغرافي مباشر إلى تركيا، هذا بالإضافة إلى توتر العلاقات مع روسيا، والتي تعد بدورها دولة جوار غير مباشر، وذلك بفعل تناقض المواقف وتباين المصالح حيال تطورات الملف السوري، وهى تطورات تحمل تحديات للأمن القومي التركي، لارتباطها بحركة لاجئين سوريين كثيفة تجاه الأراضي التركية، وسيولة أمنية على الحدود المشتركة مع سوريا (566 ميلا أو 911 كم). هذا فضلا عما ارتبط بذلك من تحديات وتهديدات تعلقت بالنشاط والاستهداف الكثيف للمواقع الحيوية التركية من قبل حزب العمال الكردستاني.
وعلى جانب ثالث، فقد كان من الواضح أن تركيا ترغب في قطع أي خطوط تواصل بين إسرائيل وحزب العمال الكردستاني، بما يدعم مبادرتها السياسية لإنهاء الصراع المسلح مع الحزب الكردي. وتسعى أنقرة في الإطار ذاته إلى ضمان دعم واشنطن لأنقرة استخباراتنا، وذلك في مواجهة الحزب ذاته، حال ما فشلت مبادرة تسوية القضية سلميا، لا سيما بعدما أوقف الفرع الإيراني له كل عملياته حيال إيران، وأصبح يحظى بدعم سوري كامل من أجل استخدام الأراضي السورية كنقطة انطلاق لاستهداف الأراضي التركية، وهى ورقة مهمة وظفتها دمشق في مواجهتها متصاعدة الحدة مع أنقرة.
ويرتبط ذلك على جانب أخير، بمساعي أنقرة لتقليل حدة المواجهة مع إسرائيل على الساحة الدولية، في ظل الرغبة في عدم إثارة قضايا حقوق الإنسان في تركيا، والحيلولة دون مساندة اللوبي اليهودي في واشنطن للوبي الأرميني في الكونجرس الأمريكي، لاسيما مع قرب حلول الذكرى المئوية لما يطلق عليه الإبادة العثمانية للأرمن (عام 1915) .


(ب)- إسرائيل.. المعادلة الداخلية والتهديدات الخارجية:
ساهم انتهاء "موسم الانتخابات" في إسرائيل، وتخلص نتنياهو من المعارك الخارجية التي كان يفتعلها وزير خارجيته السابق افيغدور ليبرمانAvigdor Lieberman ، في إزاحة إحدى العقبات الرئيسية التي حالت دون المصالحة مع تركيا. وقد أفضى ذلك إلى إغضاب ليبرمان، الذي رفض الموقف الإسرائيلي في مقالة كتبها (جريدة يديعوت احرنوت في 25 مارس 2013)، وأشار فيها إلى أن تدهور العلاقات بين البلدين لم يبدأ على متن سفينة "مرمرة"، ولا بسبب جلوس السفير التركي (وغوز تشليك) في إسرائيل على كرسي منخفض في مقابلة مع نائب وزير الخارجية، (داني ايالون)، بل أنه بدأ قبل ذلك بكثير عن إيمان إيديولوجي وقرار استراتيجي للقيادة التركية الحالية. وأشار ليبرمان إلى أن "التعبير الأول عن ذلك كان إبان حكومة أولمرت، وذلك حينما غادر أردوغان دافوس وهو يقذف الرئيس بيريز باتهامات عدوانية. وجاءت بعد ذلك خطوات تصعيدية كثيرة أخرى مثل مسلسلات بُثت في التلفاز التركي الرسمي وعرضت جنود الجيش الإسرائيلي على أنهم قتلة أطفال".
ويمكن القول، إن الشخص الذي أنزل نتنياهو من أعلي "الشجرة" التي علق عليها كان المدعي العام يهودا واينشتاين Yehuda Weinstein، وذلك بعد تقديمه لائحة اتهام لليبرمان تتعلق بـ"الاحتيال"، بما أقصاه من المعادلة السياسية - ولو مؤقتا. وفي مقابل ذلك، فقد ارتبطت المواقف الداعمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بالعديد من الشخصيات الأخرى كوزير الدفاع الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، الذي أعلن مؤخرا اعتزاله الحياة السياسية، ورئيس أركان الجيش، بيني جانتز Benny Gantz ، ورئيس الموساد، تامير باردو Tamir Pardo، والشخصين الأخيرين اضطلعا بأدوار مركزية في الاتصالات التي أجريت مع أنقرة، خلال الفترات السابقة. وقد أصر جانتز، على تحسين العلاقات مع تركيا، باعتبار ذلك وسيلة تحسين العلاقات مع تركيا على المستوى الاستراتيجي، وارتباطا بأن أي اتفاق لـ"تطبيع" العلاقات سوف يشمل إلغاء الإجراءات القانونية ضد جنود جيش الدفاع الإسرائيلي والضباط المتورطين في حادث "أسطول غزة".
وقد استندت الآراء الإسرائيلية التي طالبت بضرورة الاعتذار لتركيا إلى استطلاعات الرأي التي باتت تساند هذا التوجه، فقد أجرى المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية (MITVIM)، استطلاعا للرأي العام في إسرائيل، وقد وجد وفق نتائجه التي أعلنت في سبتمبر 2012، أن غالبية الإسرائيليين يدعمون لأول مرة اعتذار إسرائيل لتركيا، وذلك في إطار اتفاق شامل ينهى حال التوتر التي تنتاب علاقات البلدين.
وعلى الصعيد الخارجي، فقد ارتبط الاعتذار الإسرائيلي لتركيا، بما وجهته إسرائيل من تحديات بسبب التغيرات والتحولات التي شهدها مسرح عمليات الشرق الأوسط، بفعل الثورات العربية وما ترتب عليها من تطورات أفضت إلى إثارة العديد من التهديدات الأمنية، لا سيما في ظل تصاعد أدوار التيارات الإسلامية والسلفية في أغلب الدول العربية المجاورة جوار مباشر لإسرائيل كمصر وسوريا والأردن والأراضي الفلسطينية.
دفع ذلك بضرورة "تطبيع" العلاقات مع تركيا كونها استطاعت منذ اندلاع ثورات الشعبية في بعض الدول العربية أن ترسخ دورها الإقليمي من خلال تدشين شركات عديدة مع دول "الربيع العربي"، وعبر تقديم العون والدعم السياسي والاقتصادي إلى التيارات والأحزاب السياسية الصاعدة إلى الحكم في هذه الدول، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤهلها مستقبلا للعب دورا أساسيا كوسيط إقليمي بين إسرائيل وبعض التيارات والقوى السياسية الصاعدة على الساحات العربية.
لذلك فإن تركيا تبدو وفق بعض التقديرات الإسرائيلية طريقاً مثالياً إذا ما أرادت إسرائيل تدشين خطوط تواصل واتصال دائمة مع الأحزاب والتيارات الإسلامية العربية لعدد من الأسباب أهمها: أن تركيا تتمتع بدرجة عالية من المصداقية لدى هذه التيارات، كونها اتخذت مواقف مساندة نسبيا للثورات العربية، وداعمة للأحزاب الإسلامية. ولأن تركيا تعد "النموذج" الأقرب الذي تسعى إلى الاقتضاء به، بما يجعل من تحسن العلاقات التركية - الإسرائيلية نموذجاً يمكن أن يساهم في تحفيز هذه التيارات على إجراء مراجعات بشأن العلاقات مع إسرائيل.
يضاف إلى ذلك أن ملف الجماعات الإرهابية يعد محركا أساسيا ودافعا محوريا لإعادة توثيق العلاقات مع تركيا، لا سيما أن التعاون الاستخباراتي بين البلدين يشكل رافدا أساسيا للتعاطي مع هذا الملف الذي بات يزعج الإسرائيليين، بسبب حالة الفراغ والضعف الأمني الذي تعاني منه عدد من دول الجوار كمصر وسوريا. هذا بالإضافة إلى أن ثمة قناعات لدى بعض التيارات والاتجاهات في إسرائيل بأن تقارب تركي - إسرائيلي من شأنه أن يزيد الخناق حول إيران ويضمن تعظيم الضغوط الدولية والإقليمية حيالها، بما قد يدفعها إلى التفاوض لحل سلمي لإنهاء أزمة الملف النووي الإيراني.
هذا بالإضافة إلى المخاوف الإسرائيلية من قيام السلطات السورية بنقل أسلحة كيميائية إلى حزب الله في لبنان، ذلك أن إسرائيل تعتبر أن أي تطور في مسار الأزمة يفضي إلى هذا التوجه من شأنه أن يدفع باللجوء إلى الأدوات العسكرية من أجل وأد أي تحرك في هذا الإطار. عكس ذلك تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، افيغدور ليبرمان، حين أشار في يوليو 2012 إلى أنه حال "رصد نقل أسلحة كيميائية سورية إلى حزب الله، فسوف تتحرك إسرائيل بأشد طريقة ممكنة". وأضاف ليبرمان أن عملية كهذه ستشكل "سببا للحرب"، موضحا أن الموقف الإسرائيلي أصبحت على علم به أغلب القوى الدولية كالدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة وروسيا.
وفي هذا الإطار اعتبرت بعض الاتجاهات السياسية في إسرائيل أن فتح صفحة جديدة مع تركيا يمكن أن يكون ضروريا ليس وحسب بشأن مستقبل ما يحدث في سوريا، وإنما أيضا لما يمكن أن يحدث لإيران. وقد أشادت وزيرة العدل الإسرائيلية، تسيبي ليفني، بما شاهدته العلاقات التركية – الإسرائيلية مؤخرا من تطورات، معتبرة أن "إعادة لحوار استراتيجي بين البلدين يمكن أن يساعد إسرائيل في تشكيل معسكر للدول الأكثر اعتدالا لمواجهة المتطرفين في سوريا وإيران".
هذا فيما كتب بنيامين نتنياهو على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي facebook أن إسرائيل وتركيا، لهما حدود مشتركة مع سوريا، وثمة حاجة للتواصل بشأن الأزمة السورية، وأن هذه الأزمة مثلت الدافع الأساسي لتحسن العلاقات المشتركة . ولا تتخوف إسرائيل وحسب من استمرار عمليات القصف الصاروخي بقذائف الهاون التي تعرضت لها مؤخرا إسرائيل عن طريق الخطأ من داخل الأراضي السورية، ولكنها تتخوف كذلك من تداعيات الحرب الأهلية في سوريا وامتدادها إلى الجولان، لا سيما بعد وصول الجيش السوري الحر إلى بعض المناطق هناك. هذا بالإضافة إلى الهواجس الإسرائيلية التي أثارها لجوء نظام الأسد لاستخدام أسلحة دمار شامل في معركته مع المعارضة، وهو الأمر الذي يزيد من مخاطر ما يطلق عليه في إسرائيل "السيناريو الكابوس"، والذي يتمثل في وصول أسلحة كيماوية إلى بعض الجماعات الإسلامية.
أشار إلى ذلك مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، يعقوب عميدرور Yaakov Amidror، حيث أكد على أن "تطبيع" العلاقات بين تركيا وإسرائيل سيحقق لإسرائيل العديد من المكاسب، حيث سيكون بإمكانها التعامل مع تداعيات الحرب الأهلية في سوريا، والتعاون مع حلف الناتو، الذي حالت تركيا كثيرا دون انخراط إسرائيل في العديد من أنشطته.
ولا تبدو تركيا بدورها بعيدة عن الهواجس التي يثيرها الملف السوري، ذلك أن المخاوف التركية تتزايد من احتمال استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية خلال الحرب الدائرة في سوريا، بما يتضمنه ذلك من إمكانية استهداف مواقع تركية وإسرائيلية وأردنية. وقد كان ذلك أحد الملفات الرئيسية التي تناولها الرئيس الأمريكي باراك أوباما خلال زيارته لإسرائيل، إذ أنشأت الولايات المتحدة هيئة للحرب الكيماوية، ويريد أوباما إقامة هيئة عسكرية أمريكية – تركية – إسرائيلية - أردنية مشتركة، تضمن التعاون العسكري بين الدول الأربع في مواجهة التحركات السورية.
وقد اتفق أوباما على كافة التفاصيل الخاصة بإنشاء تلك الهيئة المشتركة مع العاهل الأردني، الملك عبد الله، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، فيما اتفق وزير الخارجية الأمريكي، جون كيرى، على التفاصيل مع رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان. ولم يكن بالإمكان تشغيل الهيئة المشتركة دون تسوية الخلاف الإسرائيلي – التركي .


(ج)- واشنطن.. وركيزة "الشريك الثالث":
برز الدور الأمريكي في الدفع بتسوية القضايا العالقة في العلاقات التركية – الإسرائيلية في سياق التوجهات المستجدة لإدارة أوباما الثانية، والتي تشير تطورات مواقفها حيال قضايا الإقليم إلى أنها تخلت عن استراتيجية "بصمة القدم الخفيفة" Light Foot Print، التي تعاملت بها مع تطورات المنطقة على مدى السنوات القليلة الماضية، وذلك لصالح استراتيجية أكثر فاعلية بالتنسيق مع كل من حلف الناتو دوليا، وتركيا وإسرائيل إقليميا . هذا التطور لا ينفصل سياقه عن سياق موافقة واشنطن السريعة على صفقة أسلحة مع تركيا تقدر بقرابة 140 مليون دولار، ومن قبلها انضمام تركيا إلى منظومة الدرع الصاروخية، ثم الإقدام على نشر صواريخ باتريوت، وإعلان تركيا موافقتها على انضمام إسرائيل إلى أنشطة حلف الناتو غير العسكرية لعام 2013، وسماح تركيا للناتو بتحويل قاعدة أزمير الجوية التابعة للحلف إلى مركز قيادة للقوات البرية للحلف غرب تركيا.
كما تأتي خطوة "تطبيع" العلاقات بين البلدين في الإطار ذاته، والذي جعل الاعتذار الإسرائيلي يتحقق خلال جلسة جمعت بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الأمريكي باراك أوباما في مطار بن جوريون قبيل مغادرته إلى الأردن، ليغدو بمثابة إثبات لفرضية أن العلاقات بين تركيا وإسرائيل تقوم على ركيزة ومحورية "الشريك الثالث". وقد أصدر البيت الأبيض في هذا النطاق بيان يعرب فيه عن سعادته باتجاه تركيا وإسرائيل لتعميق التعاون ومواجهة التحديات المشتركة، وقال البيان "إن الولايات المتحدة تقدر بعمق شراكاتنا الوثيقة مع كل من تركيا وإسرائيل، ونحن نعلق أهمية كبيرة على استعادة العلاقات الايجابية بينهما من أجل دفع عملية السلام والأمن في المنطقة". وقد أعطى الحديث الأول بين نتنياهو وأردوغان منذ 2011، عندما اتصل نتنياهو لتقديم المساعدة بعد الزلزال تركيا، أوباما نصرا دبلوماسيا في أول زيارة له لإسرائيل والأراضي الفلسطينية، والذي لم يقدم لها خطة جديدة لإحياء محادثات السلام المجمدة منذ ما يقرب من ثلاث سنوات.
وقد بدأت جهود أوباما لإنهاء حالة الخصومة بين البلدين قبل أسابيع من الاعتذار الإسرائيلي، إلا أن البداية الحقيقية للدبلوماسية النشطة حول شروط الاتفاق بين البلدين بدأت في 20 مارس الماضي، أي قبل يومين من إعلان التوصل إلى "صفقة التسوية" للقضايا العالقة بين الطرفين. ومع ذلك فيبدو أن الأتراك أنفسهم لم يتوقعوا الاستجابة الإسرائيلية السريعة، ذلك أن وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، كان قد استمع من نظيره التركي، أحمد داوود أوغلو، خلال زيارته لأنقرة في الأول من مارس الماضي، شروط أنقرة لـ"تطبيع" العلاقات مع إسرائيل. إلا أن إتمام "الصفقة" لم يحسم إلا خلال زيارة أوباما إلى إسرائيل، حيث وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي على النص النهائي في 21 مارس، هذا فيما كان داوود أوغلو يقوم بزيارة رسمية إلى بولندا. وحين أُبلغ بالتطورات الإيجابية عاد على الفور إلى أنقرة، بعد اجتماع لم يدم أكثر من أثنى عشر دقيقة في العاصمة البولندية وارسو.
وفي هذا الإطار أشار جون كيري، إلى أن "المصالحة بين إسرائيل وتركيا تمثل تطوراً مهماً للغاية من شأنه أن يساعد في دفع قضية السلام والاستقرار في المنطقة"، وقال كيري في بيان (23 مارس 2013) من العاصمة الأردنية عمان "نحن نتطلع إلى التنفيذ السريع للاتفاق والـ"تطبيع" الكامل للعلاقات بين إسرائيل وتركيا بحيث يمكن أن نعمل معا من أجل تحقيق مصالحهم المشتركة"، وقال كيري، الذي أجرى محادثات مع نتنياهو بعد لقاء سابق مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إن "التقارب بين البلدين من شأنه أن يساعد إسرائيل على مواجهة التحديات الإقليمية التي باتت تواجهها".
وعلى الرغم من أن التحركات الأمريكية الأخيرة كانت الأكثر فاعلية، إلا أن هذه الجهود في واقع الأمر كانت متممة لجهود سابقة بذلتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، هيلاري كلينتون، ففي منتصف يوليو 2012، طالبت كلينتون أثناء زياراتها إلى إسرائيل، بتقديم اعتذار لتركيا، ودعت إلى الإسراع من أجل إعادة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى سابق عهدها، انطلاقا من أن كل وقت يمر دون عمل ينجز ذلك يضر بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.
الدعوة الأمريكية التي وجهت آنذاك إلى كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وإيهود باراك، وزير الدفاع حينئذ، تأسست على ثلاث عوامل أساسية بحسب كلينتون، هى: (أولا)، أن المصالح الحيوية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل ستتضرر إن لم يجر العمل على إصلاح العلاقات التركية – الإسرائيلية. (ثانيا)، ثمة جماعات إرهابية تستغل تدهور علاقات البلدين للقيام بعمليات تضر بالمصالح الأمريكية الإستراتيجية في المنطقة. (ثالثا)، أن تركيا أصبحت قوة إقليمية وفاعل مركزي في الإقليم، بما يجعل من استمرار تدهور علاقات إسرائيل معها يؤثر على القدرة الأمريكية – الإسرائيلية على تشكيل موقف إقليمي ودولي موحد حيال الملف النووي الإيراني.


ثالثاً: "الاعتذار الإسرائيلي".. ومستقبل دور تركيا الإقليمي
تعزيزا لحضور تركيا الإقليمي وحفاظا على الدور البارز الذي باتت تتمتع به بفضل تحركاتها في منطقة الشرق الأوسط، لم تعتمد تركيا على إستراتيجية التحرك المنفرد في مواجهة إسرائيل، فقبيل اتصال نتنياهو بأردوغان، قام الأخير بالاتصال بكل من الرئيس المصري، محمد مرسي، ورئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، بهدف إطلاعهم على التطورات الأخيرة فيما يخص مفاوضات إنهاء أزمة العلاقات بين تركيا وإسرائيل.
كما اتصل أردوغان برئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، لإبلاغه بالتطورات ذاتها، وأكد أردوغان للقادة العرب أن صفقة "تطبيع" العلاقات بين البلدين تضمنت رفع الحصار الإسرائيلي عن الأراضي الفلسطينية . وقد أشار وزير الخارجية التركي داود أوغلو إلى أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان طلب موافقة كل من رئيس وزراء حماس في غزة، إسماعيل هنية، ورئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس (أبو مازن)، قبل قبول الاعتذار الإسرائيلي.
وقد وصفت الخطوة التركية من قبل إسماعيل هنية، بـ "النصر الدبلوماسي" . واتساقا مع التصريحات التركية أعلنت إسرائيل من جانبها أنها قد خففت الحصار على غزة منذ قيام الثورة في المصرية، وأنها ستتخذ المزيد من الخطوات اعتمادا على تطورات الوضع في غزة، ومن خلال العمل مع تركيا على تحسين الوضع الإنساني في القطاع، هذا فيما صرحت قيادات من حماس (خالد مشعل) وتركيا بأن أردوغان سيقوم بزيارة القطاع في أبريل القادم، وذلك بصحبة الرئيس محمود عباس.
وقد سبق التطورات الأخيرة على مسار العلاقات التركية مع إسرائيل، إقدام تركيا في ديسمبر 2012، على عقد "صفقة" مع حلف الناتو، تقضي برفع الفيتو عن مشاركة إسرائيل في أنشطة الحلف مقابل الاستجابة السريعة من دول الحلف للمطالب التركية الخاصة بنشر بطاريات صواريخ باتريوت على الحدود التركية مع سوريا. هذا فيما أشارت بعض التقارير إلى أن تركيا شاركت بفاعلية في جهود التهدئة بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وذلك بهدف وقف الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة فيما عرف بعملية "عمود السحاب". وقد التقى رئيس جهاز المخابرات التركي هاكان فيدان رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي في القاهرة بنهاية عام 2012، وتم الاتفاق على عودة الاتصالات بين الجهازين بعد انقطاع.
وهكذا، يتضح أن تركيا حاولت أن تجعل من توتر العلاقات مع إسرائيل أحد أهم العوامل التي تعزز دورها الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وتدفع بتقديم وتطوير العلاقات مع الدول العربية، انطلاقا من أن سبب توتر واضطراب العلاقات مع إسرائيل، يرجع إلى تبني تركيا للمواقف العربية في مواجهة السياسات الإسرائيلية. كما أنها حينما قبلت الاعتذار الإسرائيلي، فقد جاء ذلك في إطار "إخضاع إسرائيل" للمطالب التركية، ولدفعها على تلبية المطالب التركية الخاصة برفع الحصار عن قطاع غزة.
ومثلما فعلت تركيا عندما رفعت الفيتو عن مشاركة إسرائيل في أنشطة حلف الناتو، وبررت ذلك بأنه يأتي في إطار الرغبة في دعم علاقات الحلف بدول الربيع العربي، فإنها حاولت أن تجعل من الاعتذار الإسرائيلي أحد إستراتيجيات تعزيز حضورها الإقليمي. ومع ذلك فمن المحتمل أن تواجه العلاقات التركية - الإسرائيلية العديد من التحديات، التي لن ترتبط وحسب بمسار العلاقات الثنائية، وإنما سترتبط بالأساس بمسارات التفاعلات الإقليمية، التي باتت تطرح تحديات مرتفعة الحدة لا تتعلق وحسب بالبيئة الأمنية المحيطة بتركيا، وإنما تتعلق على نحو مباشر بأمن تركيا الإقليمي، وهو الأمر الذي يدفع تركيا إلى تنسيق سياساتها مع بعض القوى الإقليمية المعتدلة مثل دول الخليج، كما أنها وفق المؤشرات الحالية تتجه إلى دعم علاقاتها مع مصر بعد وصول حركة الإخوان إلى السلطة في مصر، وهو الأمر الذي يجعل من تطور العلاقات مع إسرائيل مسارا مهددا نسبيا لمسارات تطور العلاقات التركية مع العديد من الدول العربية.
يرتبط هذا من على جانب آخر، بنمط الإدراك التركي لطبيعة الاعتذار الإسرائيلي، حيث تعتبر اتجاهات رائجة في تركيا أنه لا يعبر عن تحول إستراتيجي في سبل التعاطي الإسرائيلي مع "ملفات الاشتباك" و"قضايا الصراع" مع الدول العربية وحيال القضية الفلسطينية، وإنما يجسد محض إجراء إسرائيلي تكتيكي الهدف منه امتصاص غضب الأتراك لتنسيق السياسات حيال بعض القضايا، التي حوْلت أيضا إسرائيل من طرف معني بالتأثيرات والتداعيات السلبية للبيئة الإقليمية المحيطة، إلى طرف يتأثر على نحو مباشر أمنيا وسياسيا بالأحداث التي يشهدها مسرح إقليم الشرق الأوسط، وذلك بعد تصاعد نفوذ التيارات الإسلامية في كافة الدول المحيطة بإسرائيل.


رابعاً: "الاعتذار" ومستقبل العلاقات التركية – الإسرائيلية:
أ- على الصعيد السياسي:

يبدو من مواقف الحكومة التركية في مرحلة ما بعد الاعتذار الإسرائيلي، أنها غير متحمسة لسرعة عودة العلاقات مع إسرائيل إلى سابق عهدها، وتستخدم في هذا الإطار إستراتجية "خلق الذرائع" كالإصرار على رفع الحصار عن قطاع غزة، والإعلان عن زيارة أردوغان إلى القطاع في أبريل القادم، وهو الأمر الذي أدى إلى صدور تصريحات إسرائيلية بعد ذلك تؤكد على أنه ليس من الوارد حاليا بالنسبة لإسرائيل إنهاء الحصار البحري - المفروض على قطاع غزة منذ عملية "الرصاص المصوب" (2008-2009) – هذا في وقت أكدت فيه تركيا على أن "تطبيع" العلاقات مرتبط بتطبيق كامل للاتفاق بين الدولتين، والذي يقضي برفع الحصار عن قطاع غزة.
وقد أفضى ذلك إلى لجوء إسرائيل إلى واشنطن للتعبير عن الامتعاض من "التشدد" التركي في مواجهة "المرونة" الإسرائيلية . ويعطي هذا التطور مؤشرات واضحة على أن كلا الجانبين قد يسعى إلى "تعايش الضرورة" مع الطرف الآخر، على النحو الذي يسمح بتقديم بعض التنازلات، على أن بالتوازي هذا مع وجود هامش سياسي يسمح لكلا الطرفين بممارسة بعض أنماط "المعارضة السياسية"، لمواقف وسياسات الطرف الآخر..
بيد أن هذا لا يعني أن أيا من الجانبين سيسمح مرة أخرى بأن يفضي ذلك إلى اضطرابات أو مواجهات سياسية وإعلامية حادة كتلك التي شهدتها العلاقات أبان أزمة "قافلة الحرية"، ولعل الموقف الإسرائيلي من تصريحات أردوغان الأخيرة حيال "الصهيونية" حالة كاشفة على ذلك. فعلى الرغم من الإدانة الإسرائيلية للخطاب الذي ألقاه أردوغان في أواخر فبراير الماضي، في المؤتمر الخامس لحوار الحضارات، ووصف فيها الصهيونية بأنها "جريمة ضد الإنسانية" جنبا إلى جنب مع الفاشية ومعاداة السامية. بيد أن هذا لم يحول دون أن تعتذر إسرائيل إلى تركيا.
كما لم يمنع ذلك أردوغان من القول أنه كان أول رئيس وزراء تركي يقوم بزيارة الحاخام الأول لتقديم التعازي للمواطنين اليهود الذين قتلوا في هجوم بقنبلة على معبدين يهوديين في اسطنبول في 2003. وأنه حصل على جائزة في عام 2004 من قبل مجموعة اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة لتعزيز السلام بين الشعوب. وزار إسرائيل رسميا في عام 2005، وللمرة الأولى دعا الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز للحديث أمام البرلمان التركي في عام 2007. وقبل الهجوم الإسرائيلي على غزة في عام 2008، كانت وزير الخارجية الإسرائيلية آنذاك، تسيبي ليفني، تصف العلاقات التركية الإسرائيلية بأنها "ممتازة"، على نحو دفع البعض إلى القول بأن "أردوغان من أصل يهودي".
وقد نفى أردوغان عن نفسه تهمة الإساءة إلى "الصهيونية"، مطالبا بالا يساء فهم إشارته إلى "الصهيونية"، مضيفا أنها جاءت في إطار تعليقاته على السياسات الإسرائيلية في غزة. وفي مقابلة مع صحيفة بوليتيكن الدنماركية Danish Politiken daily، قال أردوغان أن ما كان يقصده يتمثل في انتقاد سياسات إسرائيل التوسعية في الأراضي المحتلة . هذا الموقف الأخير، من المرجح أن يجسد نمط العلاقات المستقبلية بين تركيا وإسرائيل، حيث سيكون نمط "الانتقادات المتبادلة" دون التصعيد أو محاولة إثارة مواجهات سياسية النمط السائد بين تركيا وإسرائيل، أي أن حركة التوتر ستكون بين حدين، على نحو لا يسمح بالانتقادات المتبادلة لأن تتحول إلى أزمات سياسية حادة.


ب- على الصعيد الاقتصادي:
يختلف المسار الاقتصادي عن بقية مسارات العلاقات إن الأمنية أو السياسية، حيث اتسمت العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل خلال السنوات الماضية، بقدر نسبي من الاستقرار والديمومة. وقد تعززت التبادلات التجارية وتعمقت بفضل سلسلة من الاتفاقات الثنائية التي فتحت الأسواق التركية والإسرائيلية أمام بعضها البعض. وتشمل الاتفاقيات إبرام اتفاقية التجارة الحرة واتفاقية منع الازدواج الضريبي، واتفاقية الاستثمار الثنائي. وقد أدت هذه الاتفاقيات إلى نمو التجارة البينية من 449 مليون دولار في عام 1996 لتتجاوز 2.1 مليار دولار في عام 2002. وقد استمرت هذه الوتيرة الاستثنائية مع زيادة التجارة الثنائية بمتوسط 14.6% سنوياً، خلال الفترة من 2002 إلى 2008، وذلك قبل أن تشهد العلاقات بدايات مرحلة التوتر والاضطراب.
وعلى الرغم من التوتر السياسي بين الدولتين، فإن تراجع المبادلات التجارية كان مؤقت، إذ سرعان ما عادت العلاقات إلى طبيعتها ووتيرتها العادية. ذلك أن صادرات تركيا من الأغذية المجهزة والمشروبات والتبغ قد تضاعفت بين 2007 و2011. كما شهدت التعاملات التجارة خلال الفترة من 2010 إلى 2011 زيادة بنسبة 30.7 في المائة، متجاوزة النمو الحاصل أثناء أوج فترات تحسن العلاقات بين البلدين.
ومع أن اكتشاف احتياطيات هائلة من الغاز بالقرب من سواحل كل من قبرص ومصر ولبنان وإسرائيل، كان دافعا إلى التوتر بين علاقات طرفين واشتداد المنافسة الإقليمية للتنسيق مع بعض الأطراف الأخرى المعنية لاستغلال هذه الموارد الضخمة، على نحو ضاعف من التوترات القائمة على السيادة والحدود البحرية في شرق المتوسط، بيد أن هذا التطور دفع إلى بروز اتجاه آخر داخل البلدين يدعو إلى التنسيق المشترك، بما يحقق مصالح الدولتين معا، لا سيما أن إسرائيل ستحتاج إلى تركيا من أجل تصدير الغاز إلى الدول الأوروبية . وقد عبر عن ذلك ألون ليئيل Alon Liel، وهو دبلوماسي إسرائيلي سابق في تركيا، حين أشار إلى أن الوقت قد حان للمصالحة بين الحكومة الإسرائيلية الجديدة وتركيا، مؤكدا على أن هناك صفقات ضخمة يمكن أن تنجز بين البلدين بعد اكتشافات الغاز الطبيعي الأخيرة.
وتمثل إسرائيل فرصاً للمنتجين الأتراك للارتقاء بالمنتجات التركية من الناحية التقنية والتكنولوجية. ففي مارس 2012، صنفت "رابطة الصناعة والأعمال التركية" إسرائيل باعتبارها شريكاً استثمارياً محل أولوية، حيث أكدت على مميزات الربط بين الأرض والعمالة التركية مع الاقتصاد الإسرائيلي المبتكر. ويمكن العثور على مثال كاشف يوضح أهمية العلاقات المشتركة في مدينة بورصة التركية حيث تقوم شركات التصنيع بتجميع السيارات الكهربائية كجزء من مشروع مشترك مع شركة "بيتر پليس" الإسرائيلية. وبفضل هذا المشروع تُنتِج تركيا حاليا سيارتها الكهربائية الأولى باستخدام التقنية التي لم يكن من السهل تطويرها من دون تعاون مشترك في هذا المجال.
هذا بالإضافة إلى أن الصادرات التركية باتت مرتبطة خلال السنة الأخيرة بميناءى حيفا وأشدود الإسرائيليين، حيث التصدير التركى يتجه إلى دول الخليج العربى، عن طريق سوريا، ومن هناك إلى الأردن ثم السعودية. وفي ظل استمر القتال فى سوريا، وغلق الحدود السورية - التركية، تتجه تركيا إلى نقل صادراتها إلى ميناء حيفا، لنقلها برا إلى الأردن. وخلال السنة الأخيرة، وبسبب تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية فى مصر، توقفت معظم أنشطة الموانئ المصرية، فنقلت تركيا صادراتها إلى أوروبا والولايات المتحدة عن طريق الموانئ الإسرائيلية.
ومن ثم، فالعلاقات الاقتصادية المشتركة لم تتأثر على نحو واضح بتوتر العلاقات بين البلدين. ترتب ذلك على أنه لم يكن أياً من الطرفين متحمسا لإعاقة اتجاه التجارة الثنائية. ففي أعقاب حادث أسطول الحرية، أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عن قطع كافة العلاقات مع إسرائيل، غير أن أنقرة قامت بعد ذلك بتوضيح سريع بشأن أنه لن يتم خفض العلاقات التجارية. وعلى نحو مماثل، عندما أعلن بيت استثماري إسرائيلي عن خططه للخروج باستثماراته من تركيا، حث رئيس "غرفة التجارة الإسرائيلية" الشركات على الإحجام عن اتخاذ أية إجراءات من شأنها أن تضر بالعلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل.


ج- العلاقات العسكرية:
مسار العلاقات في بعدها العسكري تأثر سلبيا بتوتر العلاقات السياسية بين البلدين، بما أفضى إلى تراجع العلاقات العسكرية والأمنية بين البلدين منذ الهجوم الإسرائيلي على "أسطول الحرية"، حيث جمدت تركيا ما لا يقل عن اثني عشر مشروعاً دفاعياً مع إسرائيل، بما في ذلك اتفاق بقيمة 5 مليار دولار لشراء دبابات، وآخر بقيمة 800 مليون دولار لشراء طائرات دوريات وإنذار مبكر. كما منعت تركيا الطائرات العسكرية الإسرائيلية من التحليق في الأجواء التركية. كما استبعدت أنقرة إسرائيل من المشاركة في مناورات "نسر الأناضول"، والتي يشارك فيها حلف الناتو. واستخدمت تركيا كذلك حق النقد الفيتو لمنع إسرائيل في المشاركة قمة الحلف في شيكاغو بالولايات المتحدة وذلك في مايو 2012. كما حالت تركيا دون تعيين ممثل لإسرائيل في مقر الحلف في بروكسل، وذلك بعدما كانت قد عارضت في ابريل 2012 منح إسرائيل عضوية "منظمة التعاون والتنمية".
وقد شهدت مناورات "نسر الأناضول" في عام 2012 مشاركة القوات البحرية لأول مرة في تاريخ هذه المناورات، حيث كانت هذه المناورات حكرا على القوات الجوية. وجرت هذه المناورات في نفس توقيت مناورات "نوبل دينا" التي أجرتها إسرائيل بالاشتراك مع كل من اليونان والولايات المتحدة في شرق البحر المتوسط، وتمثل تهديدا من قبل إسرائيل وقبرص اليونانية التي وقعت إسرائيل معهما العديد من الاتفاقيات العسكرية.
وقد اتجهت تركيا مؤخرا إلى تأسيس "قيادة مجموعة فضائية"، للقوات الجوية التركية التي تحدد خارطتها استنادا إلى مفهوم استخدام الفضاء لأغراض سلمية ودفاعية. ومن المنتظر أن تلبي الفعاليات في هذا الإطار، حاجة القوات المسلحة للصور المأخوذة من الفضاء في مجال الاستخبارات، عبر القمر الصناعي "غوك تورك 2"، الذي يوفر إمكانية التقاط صور لأي رقعة من العالم.
هذه التطورات تشير إلى أن تركيا قد اختارت طريق تطوير القدرات العسكرية ذاتيا وبالتعاون مع بعض الشركاء الإقليميين والدوليين، فمناورات "نسر الأناضول" الأخيرة التي لم تشارك فيها إسرائيل، شاركت فيها المملكة العربية السعودية للمرة الثانية، فيما شاركت دولة الإمارات العربية المتحدة فيها للمرة الأولي. وقد تعمقت علاقات التعاون العسكري والأمني والاستخباراتي بين تركيا والعديد من الدول العربية، وأصبحت لهذه العلاقات أطر هيكلية ومؤسسية، تعقد بشكل دوري وتتابع كافة التطورات والتفاصيل في هذا الإطار، وهى تطورات في مجلها تشير إلى أن عودة العلاقات التركية – الإسرائيلية في شقها العسكري، إلى مرحلة ما قبل 2008، قد يواجه بالعديد بصعوبات التي يصعب تجاوزها بسهولة، بالنسبة لتركيا.
هذا على الرغم من أن ثمة مشروعات عسكرية ضخمة، يمكن للتعاون بين البلدين بشأنها أن يحقق لتركيا مصالح كبرى، مثل المشروع التركي الخاص بإنتاج الطائرات من دون طيار، وتحتاج تركيا فيه إلى الدعم التكنولوجي الإسرائيلي. كما تعد العلاقات العسكرية مع إسرائيل إحدى وسائل الحصول على طائرات استطلاع إلكترونية أمريكية الصنع من طراز "أواكس" Awacs، وتحتاج تركيا هذه الطائرات لاستكمال منظومتها الدفاعية ضد الصواريخ الباليستية، التى قد تستهدفها . وبدون امتلاك تركيا طائرات "أواكس" المتقدمة لن تكون هناك فائدة لمحطات الرادار والإنذار المبكر، التى أقامتها الولايات المتحدة فى قاعدة "كورتشيك" الجوية التركية، التى تم ربطها، رغم نفى أنقرة، بمحطة الإنذار المبكر التى أقامتها الولايات المتحدة فى صحراء النقب الإسرائيلية، هذا حسب تقرير نشره موقع "ديبكا" القريب من جهاز الاستجبارات الإسرائيلية.


خامساً: الاستنتاجات الدراسة:
- استطاعت إسرائيل أن تتعاطى مع الموقف التركي المتصلب عبر إستراتيجية "التطور التدريجي"، وذلك من خلال محاولة "إذابة الجليد" بين البلدين، عبر الإدلاء بتصريحات تشير إلى احتمال التوصل إلى صيغة توافقية لإنهاء حال التوتر في العلاقات، وذلك انطلاقا من التقدير الإسرائيلي لأهمية تركيا وفاعلية دورها المركزي في الإقليم وفي ضوء المتغيرات الطارئة والمتسارعة، وهو ما هيأ الرأي العام الإسرائيلي إلى القبول بالاعتذار، بل وتأييده طالما أن المصلحة العليا لإسرائيل، تقتضي إعادة توطيد العلاقات مع تركيا. وقد جعلت إسرائيل من التعاون الاقتصادي بالتوازي مع ذلك مسارا منعزلا عن مسارات العلاقات في شقيها الأمني والسياسي، بما جعل منه حافزا على إعادة العلاقات، وتأكيدا على أهمية هذه العلاقات بالنسبة للطرفين.
- إن إقدام إسرائيل على الاعتذار لتركيا بعد ممانعة دامت ثلاث سنوات يمثل "خياراً إجبارياً" بسبب صعود قوة تركيا الاقتصادية والعسكرية، وتمدد نفوذها على ساحة الإقليم، وتحولها إلى لاعب يحظى بحضور وتقدير دولي متصاعد. وعلى جانب آخر فإن تأخر الاعتذار الإسرائيلي رغم توالي المفاوضات السرية بين الطرفين، ارتبط من ناحية بطبيعة المعادلة الداخلية في إسرائيل، ومن ناحية أخرى بطبيعة المحدد الخارجي بالنسبة لتركيا. ذلك أنه فيما رفضت الأخيرة أي تنازل عن مطالبها، باعتبار أن ذلك يتعلق بـ"الكرامة الوطنية التركية"، فإن تأخر الاستجابة الإسرائيلية ارتبط بموقف زعيم حزب "إسرائيل بيتنا"، افيغدور ليبرمان.
- على الرغم من أن تحسن العلاقات التركية - الإسرائيلية في شقها السياسي تعلق وفق المعطيات السابقة بتقديم إسرائيل اعتذار رسمي إلى تركيا، فإنه من المرجح أن تتزايد الروابط المشتركة في شقها الاقتصادي والتجاري تدريجيا. كما انه من المرجح في حال عدم تحسن العلاقات، خلال الفترة المقبلة أن يتجه كلا الطرفين إلى توثيق علاقتهما مع شركاء جدد، في محاولة من قبل كل طرف للضغط وحصار الطرف المقابل، وهى إستراتجية اتبعت من قبل الطرفين خلال الأعوام الأخيرة.
ويبدو من الصعب، وفق المعطيات الراهنة، تصور عودة العلاقات العسكرية سريعا إلى سابق عهدها، فالتعاون في هذا المجال قد يكون على نحو متدرج وبطئ نسبيا، ومع ذلك فإن أي تطور ايجابي على هذا المسار لن يقود إلى علاقات وثيقة كتلك التي وسمت العلاقات في الماضي، حيث استفادت إسرائيل كثيرا من المناورات المشتركة مع تركيا، والتي مكنت الطيارين للتدريب على سيناريوهات تشمل التخطيط لشن هجمات على أهداف بعيدة، مثل المنشآت النووية في إيران. ولكن منذ ذلك الحين، تم العثور على مواقع بديلة التدريب في اليونان وبلغاريا ورومانيا.
وقد يكون أحد المحددات الأساسية في ذلك لا يرتبط وحسب بتركيا، وإنما بإسرائيل أيضا، ذلك أن العلاقات الوثيقة بين الاستخبارات التركية والإيرانية، قبل توتر العلاقات بين الجانبين (أنقرة وطهران) بفعل الثورة السورية، قد يجعل إسرائيل تتخوف من تسريب أي معلومات حساسة لطرف ثالث، خصوصا في ظل التطورات الايجابية التي شهدتها العلاقات التركية – العربية، خلال السنوات الأخيرة.
ومع ذلك، يمكن توقع أن تقتصر أية تطورات ايجابية في هذا الإطار على تجديد عمليات التدريب المشتركة، بقيادة الولايات المتحدة، وعودة أنشطة التدريب البحري في يخص عمليات الإنقاذ، مع استئناف متدرج وبطيء للصفقات العسكرية بين البلدين، والتي كانت قد جمدت تدريجيا منذ عام 2008.
- نجحت الدبلوماسية التركية في تحقيق نصرا كبيرا من خلال إجبار إسرائيل على الاستجابة إلى كامل الشروط التركية، وهو الأمر الذي تتعامل معه أنقرة باعتباره "انتصار دبلوماسي" غير مسبوق. ووفق المؤشرات الراهنة، فإن هذا قد يدفع تركيا إلى إبراز "الكبرياء الوطني" في تعاطيها مع إسرائيل، بما من شأنه أن يثير حفيظة ومعارضة القيادات الإسرائيلية، بما قد يؤثر على العلاقات التركية – الإسرائيلية، على نحو قد يجعل الولايات المتحدة فاعلا مركزيا في الحفاظ على نمط العلاقات بين البلدين، لتبدو في بعض الأحيان أشبه بوسيط بين "أعداء" وليس "حلفاء"، وقد يكون ذلك مقصودا من جانب تركيا للتأكيد على أن علاقاتها مع الدول العربية، وحيال قضايا الإقليم المركزية لم تتأثر بطبيعة العلاقات مع إسرائيل.
بدا ذلك واضحا من تعليقات وزير الاقتصاد الإسرائيلي وزعيم حزب المستوطنين "البيت اليهودي"، نفتالي بينيت، حين توجه إلى جنود الجيش الإسرائيلي على صفحته في شبكة التواصل الاجتماعي، قائلا إنه وحزبه وكل الشعب الإسرائيلي يقف إلى جانبهم ويدعمهم في مواجهة الإجراءات التركية المعادية، قائلا: "عليكم أن تعملوا كل ما في وسعكم من أجل حماية إسرائيل وسكانها"، وقال إن "أردوغان يبدو، منذ نشر الاعتذار، وكأنه يريد لإسرائيل أن تندم على الاعتذار، فهو يبذل كل جهد ممكن لمواصلة الاستفزاز ويدير حملة منظمة وفظة تهدد من جديد العلاقات الإسرائيلية – التركية".
ومن ثم، يمكن القول إن "عملية التطبيع" بين البلدين إن على الصعيد السياسي أو العسكري قد تكون طويلة وشاقة، وكما قال سامي كوهين في صحيفة مليت التركية ففي الوقت الذي لن تهرول فيه أنقرة باتجاه إسرائيل، فإن الأخيرة لن تستجيب بسهولة إلى المطالب التركية الخاصة برفع الحصار عن قطاع غزة ، وهو ما أكد عليه أيضا الكاتب التركي المعروف إبراهيم كالين - كبير مستشاري رئيس وزراء تركيا - حين أشار في مقال نشرته جريدة زمان التركية (النسخة الإنجليزية) إلى ضرورة أن يكون التفاؤل بشأن مستقبل العلاقات التركية – الإسرائيلية مشوب بكثير من الحذر.
* الدراسة من إعداد: محمد عبد القادر خليل

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.