هل يذكر أحدُ اليوم أن كثيراً من شعارات الثورة الخضراء في ايران عام 2009 كانت ضد دعم إيران لحزب الله؟"
نبتغي من وراء هذا  التحليل مناقشة الفرز السني-الشيعي الدموي الذي انحدرت له الثورة السورية والمنطقة في الشهور الأخيرة، والتي تمتد في اتجاهات متعددة وبأهداف متناقضة، ولكن تتوافق جميعا على استخدام الفزاعة الطائفية واستدعاء الكراهية في حروب السلطة.

مصريا وأحداث أبو النمرس:

 شهدت مصر آواخر عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، الذي تعارض إيران الآن الثورة الثورة التي قامت ضده، ما لم تعرفه من قبل، فقُبيل الانتفاضة- الثورة- الشعبية التي أطاحت بالرئيس الإخواني محمد مرسي، وهو تحديداً ما حدث في (23 يونيو الماضي) الثالث والعشرين من يونيو العام 2013، حيث قُتل أربعةٌ من المصريين الشيعة بأبشع الطرق على يد جموعٍ هائجة بزاوية أبو مسلم بمنطقة أبو النمرس إحدى قرى محافظة الجيزة.

أتى ذلك في أعقاب مؤتمرٍ ل"نصرة سوريا" أقيم في الخامس عشر من الشهر نفسه، تحت رعاية، و في حضور، الرئيس الدكتور محمد مرسي، رئيسُ الجمهورية التابع لجماعةِ الإخوان المسلمين (الذي عُزل بعد ذلك بأقل من ثلاثة أسابيع) والذي أراد به تجاوز الحصار المفروض عليه شعبيا ومغازلة مشاعر الجماهير المصرية الرافضة لأدائه وجماعته.

في هذا المؤتمر المشار إليه تحدث عددٌ من "الدُعاة" الإسلاميين المعروفين بقربهم من الرئيس المعزول، حاضّين الحضور على الجهاد في سوريا بالمال و النفس، خاطب اثنان من هؤلاء الدكتور مرسي (باللفظ):

"أناشدكم ألا تفتحوا أبوابَ مصر الطاهرة للرافضة."
تلا ذلك متحدثٌ آخر استطرد في الخط نفسه فدعا الرئيس (الجالس مستمعا صامتاً) أن يستغني عن هؤلاء" الأنجاس الذين يسبون صحابة الرسول" ما استطاع، ثم أكد على ذلك مُستخدماً المثل العربي القديم "الحرةُ لا تأكل بثديها"، قوبل هذا التشبيه للتعامل مع الشيعة بالدعارة تهليلٌ من الحضور، ثم تم الرجل وختم بتكفيرِ معارضي الرئيس المعزول والدعاء عليهم.

 لم يكن مستغرباً إذا ما جرى من قتلٍ للشيعة المصريين الأربعة بعد ذلك اليوم الأسود  (و الذي كان بالقطع أحد المسامير الكثيرة التي أبى حكم الدكتور محمد مرسي إلا أن يدقها في نعشه).

 مع الأسف ليس من جديدٍ في المنطق الذي ساد هذا الحشد، و إن زاد في كارثية الموقف أنه تم تبنيه من قبل رئيس الدولة المنتخب- والمعزول فيما بعد- بصمته ومن ثم قبوله الضمني، منطقٌ لا يرى التعددية ناهيك أن يفهم المختلف أو المخالف، ومن ثم بالضرورة يجرُ إلى الطائفية أو حتى يخلقها، وفي هذه الحالة بالتحديد عبر مؤتمر الرئيس المعزول عن لغةٍ سائدة تحرق الأخضر و اليابس، وتفجر الكراهية الطائفية في المنطقة عموماً و تغذي اتجاهاً كارثياً تعيشه العديد من البلدان العربية وسوريا خصوصاً في الشهور الأخيرة. 
الطائفة ليست حاكما ولا اتجاها واحدا:

ربما أشد جوانب المأساة السورية إيلاماً انقلاب الثورة التي بدأت سلميةً جامعة إلى صراع طائفي، استغله منذ البداية نظام بشار الأسد الحاكم هناك منذ عقود، وفي خضم الحشد الشيعي-السني غاب عن كثيرين أن أول من دفع باتجاه العنف و الطائفية معاً كان النظام الحاكم في دمشق.
غاب أيضاً في الانحراف بالثورة نحو الفزاعة الطائفية في سوريا أن نشطاء وسياسيين علويين ومن سائر الطوائف السورية، كانوا دوماً جزءٌ لا يتجزأ من معارضي آل الأسد تماماً مثلما شيعة بينهم علماء ومثقفين معروفين، كانوا دوماً من معارضي حزب الله و تحالفه مع هذا النظام في لبنان، و نسينا (أو أُنسينا) أن هؤلاء دعموا الثورة السورية على طول الخط.
 لم يكن صعباً أن نلاحظ أن النظام رهن مصير الطائفة العلوية بمصيره ثم مد ذلك إلى مصير الأقليات السورية الأخرى. كثيرون في المعارضة كانوا و ما زالوا على وعيٍ بذلك، و لكن أصوات هؤلاء تكاد تضيع وسط سيطرةٍ متزايدة لألوان متباينة من الإسلام السياسي (السني) التي أكدت ضمناً و فعلاً على الهوية السنية للثورة في مواجهة النظام المنتسب للعلويين، وزاد الطين بلة وقوف الولي الفقيه في طهران و تابعه السيد حسن نصر الله (و التبعية المطلقة لهذا الأخير و حزبه لولاية الفقيه حقيقة يعرفها كل من كلف نفسه عناء قراءة أدبيات حزب الله منذ نشأته) مع نظام دمشق ثم قتاله معه على الأرض.

و بدلاً من أن يوقف من يُفترض فيهم المنطقية و بعد النظر من الجانب السني من رجال دين و علماء و ساسة هذا الانزلاق المتسارع إلى الهاوية صبوا الزيت على النار بالتأكيد على طائفية الصراع، و بذلك سلموا آل الأسد ما أرادوا من قلبٍ للمشهد من ثورة لنيل أبسط الحقوق و الحريات إلى حرب ضروس بين "الروافض" و "النواصب."

الطائفية هنا متبادلة، هناك مقاتلو حزب الله على الأرض، كما تناقل العديدُ من وسائل الإعلام، يقولون انهم لن يتركوا "(السيدة) زينب تُسبى مرتين"، في العبارة استدعاءٌ لكربلاء و ما عاناه آل البيت في ما يعُرفُ برحلة السبي من كربلاء إلى بلاط يزيد في دمشق، بعد مقتل حفيد الرسول (ص) الامام الحسين (ض).

في الإشارةِ اتهامٌ ضمني لكل سني أنه إما شريكٌ فيما عاناه آل بيت الرسول الأعظم (ص) أو على الأقل غيرُ عابئٍ به، السنةُ هنا متهمون أنهم "نواصب"، أي مناصبي آل البيت العداء، الدليل على هذه "الناصبية"؟ تكفيرُ بعض السنة للشيعة واندفاعهم لتدمير مزاراتهم واعتبار ذلك التدمير قلب الإسلام ومنهجه الصحيح الوحيد. لسنا هنا في وارد مناقشة صحة معتقد البعض من عدمه، لكن زيارة أضرحة آل البيت عند الشيعي الاثنا عشري جزءٌ لا يتجزأ من صلب عقيدته وبروز مجموعات تحسب على السلفية الجهادية على الساحة السورية أجج الخوف على هذه المزارات، خاصة مزار حفيدة الرسول (ص)، السيدة زينب (ض)، بدمشق.

يعرف الجميع أن هذه الرؤية للأضرحة لا تشمل كلَ السُنة، بل إنها طالما استهدفت مزاراتٍ سنيةٍ أيضاً (لاحظ، مثلاً لا حصراً، ما جرى في مالي وما جرى في مقام سيدي بوسعيد بتونس وغيرها خلال العام الفائت).

ومن نافلة القول التذكير بعداء تيارات السلفية والسلفية الجهادية للتصوف بكل أشكاله والتصوفُ حاضرٌ في سوريا مثلما هو حاضرٌ في مجتمعات سنيةٍ أخرى كثيرة، كذلك لا يشتركُ كل السنة في تكفير الشيعة ناهيك عن سُنةٍ يكفرون إخواناً لهم من السُنة قبل غيرهم.  لكن حقيقة أن التعميمَ خطأٌ حكماً تبدو غائبةً عن الطرفين. من الجهة السنية، لغة لعن "الرافضة" التي تبناها الرئيس الإخواني المعزول و التي تستخدمها بعض الفصائل التي تقاتل حكم آل الأسد على الأرض جاهلةٌ بالواقع قدر ما هي كارثية سياسياً.

الشيعة الاثنا عشرية كما السنة ليسوا كلاً واحداً مُصمتاً حتى نتحدث عن صراعٍ سني-شيعي حزب الله مؤسسة شيعية، لكنه لا يمثل كل الشيعة لا داخل لبنان و لا خارجه.
ولاية الفقيه وصراع المرجعية الشيعية:

صحيح أن ولاية الفقيه التي يتبعها هذا الحزب لها جذورٌ في الفكر الشيعي الاثنا عشري، ولكن أصلّها الخميني و بادر بتفعيلها في صيغة الجمهورية الإسلامية

لكنها تبقى فكرة خلافية بين ابناء الطائفة و لها معارضةٌ قوية في حوزاتها العلمية في النجف و قم. الغالبية العظمى من الشيعة الاثنا عشرية يتبعون المدرسة الأصولية التي تلزمهم بتقليد (أي اتباع) فقيهٍ مجتهدٍ حي (هناك اتجاهات لتقليد الميت لكن هذه محدودة التأثير حتى الآن) و المعروف ان الرقم الأكبر من الاثنا عشرية عموماً و الايرانيين خصوصاً يقلدون، إلى جانب مراجع آخرين، السيد السيستاني لا الولي الفقيه في طهران (الخامنئي).
علماً بأن السيستاني لم يؤيد قتال الشيعة الإثنا عشرية دفاعاً عن حكم آل الأسد كما فعل الخامنئي، كما أن السيستاني في موقفه هذا ليس وحيداً بين المراجع الشيعية. أضف إلى ذلك كله أن الموقف السائد في الشيعة الاثنا عشرية هو أن العلويين ليسوا من الشيعة، كيف إذاً نحسب المسألة صراعاً سنياً-شيعياً؟

 هل يذكر أحدُ اليوم أن كثيراً من شعارات الثورة الخضراء في ايران عام 2009 كانت ضد دعم إيران لحزب الله؟ أما في لبنان، الذي يرسل منه حزب الله من يقاتل دفاعاً عن حكم آل الأسد، لم يغب أبداً معارضي هذا الحزب داخل الطائفة الشيعية. العلامة الراحل محمد مهدي شمس الدين (ت 2002 ) رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لم يُعرف بقربه من الحزب ولم يدعم ولاية الفقيه
علماً بأن آخر كتبه (الوصايا) قدم أساساً لحوار حقيقي بين السنة و الشيعة يقوم على درس و تمحيص الخلافات بين الطائفتين علمياً في مجالي الحديث والروايات التاريخية.  علاقة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله (ت 2010) بولاية الفقيه وحزبها في لبنان كانت أكثر تعقيداً. الرجل بدأ مرتبطاً بحزب الدعوة في النجف حيث ولد و تلقى تعليمه ثم انضوى تحت زعامة الخميني بعد الثورة الإيرانية و كان فيما نعرف طرفاً أساسا في إنشاء و قيادة حزب الله وإن بشكلٍ غير مباشر.

 لكن مع ذلك كان محمد حسين فضل الله- رحمه الله- الوكيل الشرعي للسيد الخوئي (لا الخميني)، وبعد وفاة/ مقتل الخوئي (سنة 1992) بعامين نودي بفضل الله مرجعاً مما أثار حفيظة مؤسسة ولاية الفقيه في طهران و اتباعها في حزب الله (الذي كان يرى في السيد فضل الله أباً روحياً حتى ذلك الحين) فشنوا على الرجل حملة نقد شديد، كان مما وظفوه فيها ضده بشكل غير مباشر جهوده في التقارب السني الشيعي ونقده لروايات تاريخية غير منطقية تؤسس لطقوس لعن بعض صحابة النبي (ص)، و سبهم خاصة أسطورة مقتل السيدة فاطمة رضوان الله عليها على يد عمر رضي الله عنه.

تحسنت علاقات الطرفين، فضل الله وحزب الله، بعد حرب 2006 لكن حزب الله لم يعترف أبداً بفضل الله مرجعاً، و مع ذلك اتبع فضل الله مئات الآلاف و اكتظ مسجده كل جمعة بعشرات الآلاف و سار أيضاً عشرات الآلاف في جنازته عام 2010 في ضاحية بيروت الجنوبية، هل من مبرر لصراع مع هؤلاء الشيعة؟ أليس من الأجدى العمل على فتح حوار مع اتباع أمثال الراحل فضل الله بدلاً من دفعهم إلى الاحتماء بهويتهم الطائفية في ظل صراع سني شيعي لا يميز مصيباً عن مخطئ ولا يبقي ولا يذر؟ ألا يقول القرآن الكريم "اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصةً."(الأنفال 25).
حزب الله وأمل وإيران:

إن سيطرة حزب الله على المشهد الشيعي اللبناني نتاج سلسلة من الصراعات. مبدئياً، كغيره من حركات الإسلام السياسي، سنية أو شيعية، حزب الله غير معني بالدولة القومية لا في لبنان ولا في غيرها، اللهم إلا كوسيلة لأهداف (نظرياً) أوسع، هو هدف ولاية الفقيه الإيرانية. 

تحدث بيان تأسيس الحزب عام 1985 يتحدث عن كونه جزءا من إيران على أرض لبنان، وعن إبقاء لبنان ساحة للصراع مع "الصهيونية و الاستكبار العالمي" و الالتزام بالصراع حتى تحرير القدس(تحرير جنوب لبنان ليس سوى محطة على هذا الدرب)، محطة أساس في صعود حزب الله كان نصره المؤزر على حركة أمل الشيعية في سلسلة معارك دموية عام 1988 (قبل إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية بثلاث سنوات)، علماً بأن خطاب أمل التي أسسها السيد موسى الصدر )الإيراني المولد( في منتصف السبعينات كان دوماً أكثر التزاماً بالصيغة اللبنانية. 

ومن رحم أمل و بعد إختفاء مؤسسها في ليبيا (1978) وبعد الثورة الإيرانية وولادة الجمهورية الإسلامية في إيران تحت حكم الولي الفقيه، ولدت بعض جذور حزب الله في لبنان عام 1982 في صيغة "أمل الإسلامية" التي رأت في قيادة الخميني الشرعية الوحيدة الجديرة بالاتباع.

لم تعرف علاقة أمل بحزب الله الوحدة شبه الكاملة التي نراها الآن إلا بعد مقتل رفيق الحريري عام 2005، و لا يمكن فهم سطوة حزب الله دون الأخذ في الاعتبار الدعم الإيراني الهائل لهذه المؤسسة، ليس فقط في المجال العسكري بل في مجالات خدمية و إجتماعية بالغة السعة و التأثير.
صحيح، أن خطاب أمل الرسمي اليوم يبدو منسجمٌا تماماً مع حزب الله و تبعيته للولي الفقيه في طهران، لكن من يعرف الصورة جيداً يعلم أن ما يظهر غير  الحقيقة وراء الأبواب المغلقة.

ربما كان اختلاف البعض داخل أمل مع حزب الله غير معلن، لكن الساحة اللبنانية الشيعية، ورغم سطوة حزب الله الظاهرة، لم تخلُ من معارضين لحزب الولي الفقيه و للاستقطاب السني-الشيعي الحاد الذي ساهم في صناعته، خاصةً منذ مقتل رفيق الحريري الذي دافع الحزب أولاً عن المتهم بقتله (النظام السوري) قبل ان يُتهم هو نفسه بقتله.

أبرز التنظيمات التي ظهرت ثم أفلت سريعاً كان اللقاء الشيعي اللبناني، و هذا كانت الشخصية القيادية فيه رجل الدين العلامة السيد محمد حسن الأمين.

لم ينجح "اللقاء"، الذي أعلن في إبريل 2005، في تحقيق تأثيرٍ واسع لكن لازمه و تلاه حضور أصوات بارزة حافظت على مسافة بينها و بين حزب الله إن لم تنتقده صراحةً. من أبرز هذه الأسماء، إلى جانب السيد محمد حسن الأمين، سليل آخر لنفس العائلة الشيعية البارزة التي انجبت الكثير من العلماء، السيد علي الأمين، و هذا كان مفتياً لصور و جبل عامل قبل أن يكلفه خلافه المفتوح مع حزب الله منصبه هذا.

صوتُ آخر بارز هو السيد هاني فحص، هو أيضاً كسابقيه من آل الأمين خريج الحوزة العلمية بالنجف الأشرف و له تاريخ معروف من العمل السياسي و الفكري. لكن تأثير هؤلاء و غيرهم محدود في مواجهة سيطرة شبه كاملة لحزب الله وهجوم من وسائل إعلام تحسب على الحزب و حلفائه. مثلاً لا حصراً، و إضافة لطرده من عمله، تعرض مقر السيد علي الأمين في مدينة صور (جنوب لبنان) لهجومٍ مسلح خلال أحداث أيار (مايو) 2008 التي احتل خلالها حزب الله بيروت.

من ذكرنا ليسوا إلا مثالاً لأصوات شيعية أخرى من أدباء وصحفيين ورجال دين و غيرهم عارضت حزب الله على طول الخط. الصورة الحالية تكرر تاريخاً مأساوياً، و نحن كالعادة، سنة و شيعة، نصر ألا نتعلم. الشيعة بفرقهم المختلفة عانوا ألواناً من الاضطهاد عبر تاريخهم.

من المفارقات المؤلمة أن أول من حول سب صحابة الرسول (ص) إلى طقس يمارس من على المنابر لم يكونوا الشيعة، بل الأمويين و سبوا تحديداً من لم يسجد لصنم، ربيب الرسول (ص) و زوج ابنته، وأحد أقرب صحابته،  أول من أسلم من الصبيان  و أول أئمة الشيعة: الامام علي كرم الله وجهه.

بعد ذهاب دولة الأمويين و بعد عقود من سيطرة العباسيين (الذين تأتي جذورهم من إحدى فرق الشيعة التي اندثرت، و تحديداً الكيسانية)  تمكن البويهيون، و كانوا من الشيعة الاثنا عشرية، من السلطة الفعلية في مقر الخلافة العباسية بغداد و مما تذكره كتب التاريخ أن بعض أتباعهم سارعوا إلى خط كتابات تسب الصحابة على جدران المدينة، فما كان من البويهيون إلا أنهم "وجهوا" ذلك ولم يبقوا إلا على جملٍ تدعوا على كل من ظلم آل البيت دون تسمية، كذلك أبقوا على الخليفة (السني) العباسي بينما شهد عهدهم، في منتصف القرن الرابع الهجري، مسيرات تحي ذكرى مقتل الامام الحسين في عاصمة الخلافة العباسية لأول مرة.

حنكة البويهيين كبحت جماح أتباعهم و لو جزئياً و أبقت على خليفة عباسي سني و إن بلا سلطة حقيقية، لا غرابة إذاً أن كل من وصفهم مدح دهائهم الشديد، فهؤلاء فطنوا لحدود قدرة الشيعة وسط أغلبيةٍ سنيةٍ. أين نحن اليوم، سنة و شيعة، من مثل هذه الحنكة؟  بل أين كانت  منذ البويهيين؟
بعد قرنٍ ونيف من استيلاء البويهيين على السلطة في بغداد نزل الصليبيون سواحل الشام حيث سكنت مجتمعات من فرقٍ مختلفة من الشيعة، وفرقٍ أخرى خرجت من رحم التشيع ثم تميزت عنه (كالدروز و العلويين)، فيما عدا مدينة صور دفع الصليبيون الشيعة بعيداً عن الساحل، لكن مؤرخين ورحالة اتهموا الشيعة، خاصة الاثنا عشرية، بالتعاون معهم (أي الصليبيين).

كما هو معروف حُكم الأيوبيين اتبع منهج القبضة الحديدية تجاه الشيعة، مؤسس الأسرة الناصر صلاح الدين معروفٌ بعدائه لهم، لكن موجات الاضطهاد و التنكيل الأكبر أتت أيام المماليك (1250-1516 م) ثم العثمانيين (1516-1917 م) و هذه حجمت من الوجود الشيعي في الشام بشكلٍ كبير، في هذين العهدين اتُهم الشيعة بالولاء لقوى خارجية أيضاً، الصليبيين ثم الصفويين  على التوالي، و عوقبوا جماعياً.

علماً بان الصفويين، الذين حكموا إيران من 1501 إلى 1722 م، هم من حولوا هذا البلد إلى التشيع بحد السيف بعد الاستيلاء عليه في القرن السادس عشر الميلادي، في هذه المراحل و غيرها من العلاقات (أو الصراعات) السنية-الشيعية في بلاد الشام حكمت الدائرة المغلقة التالية: يضُطهد الشيعة أو يهمشوا، يستقوون بلاعب خارجي فيزداد اضطهادهم.

لا يختلف هذا النسق عن سلوك أقلياتٍ أخرى و علاقاتها بالأغلبية في أماكن أخرى، لكن عاملاً زاد الأمور استفحالاً هنا هو أن حليف الشيعة في لبنان و سوريا اليوم و كما في عهد الصفويين هو إيران التي تلتزم نهجاً أيدولوجياً شيعيا (على عكس حكم القاجار و البهلويين الذين حكموا إيران على التوالي من 1785 إلى 1925 ثم من 1925 إلى 1979) مما يعقد بالضرورة العلاقات مع السنة، ليس لعداءٍ شيعي-سنيٍ فطري، لكن لأن الهوية السياسية تبنى ضد "الآخر" السني في هذه الحالة (و المنطق نفسه ينطبق على تيارات سُنية متشددة تحسب على السلفية كما أسلفنا).
 مثلاً لا حصراً لعن الخلفاء الثلاثة الأول، أبوبكر وعمر و عثمان رضوان الله عليهم، كان طقساً يومياً مارسه بلاط الشاه الصفوي الثاني طهماسب (حكم من 1524 إلى 1576) و الاحتفال بمقتل عمر ابن الخطاب (ض) استورده حزب الله من إيران إلى جنوب لبنان. 

إن سلوك حزب الله في لبنان منذ مقتل رفيق الحريري مروراً ب"غزوة" بيروت في 2008 وإنتهاءً بتحالفه معه النظام في سوريا ينافس تطرف بعض السنة في العداء للشيعة.
يبدو حزب الولي الفقيه الكيان السياسي الأقوى في لبنان الهش لكنه قطعاً، لا هو و لا قيادته في طهران، و لا أمثال محمد مرسي و من خطب في حضوره في منتصف يونيو الماضي راغبين في قطع الدائرة الخبيثة التي نعيش، بل هم يؤكدون استمراراها. الامام علي كرم الله وجهه نهى أصحابه عن سب جند معاوية في معركة صفين و صلى على قتلى الخوارج بعد أن حاربهم (و كانوا هم من بدء القتال)، إن لم تكن أخلاق الامام أليس لنا على الأقل ان نحلم، سنةً و شيعة، بحنكة البويهيين؟

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.