كان جورج حبش حكيم الثورة في النزاع الاخير مع حياة حافلة بالعطاء حين هدمت جماهير رفح ذاك السور العالي الذي قسم رفح الى رفحين، (المصرية، والشامية الفلسطينية)، وكان العدوان على غزة في اشده، ربما كان الم الحكيم شديدا على ضحايا العدوان، لكنه التقط شعاعا ينسجم مع جبلته الثورية الحقيقية، اختار ان يمجد هدم السور كفعل شعبي مباشر وثوري وعفوي، لقد قالها الحكيم "هذه هي ارادة الشعوب، التي ستكسر كل الاسوار والموانع"، كانت بديهة الحكيم التي استوطنها عمرا كاملا كما وصفه محمود درويش، منشدة إلى الفعل لا إلى رد الفعل، وكان يبحث في كومة المحبطات من الظواهر عن حجر مضيء، هذه سجية من سجايا الحكيم الذي نتذكر وفاته بعد ثماني سنوات من الآن.

لعل كل علامات التعجب التي يصدرها الناس اليوم عن غياب القيادة للهبة الشعبية، وحتى عن فشل الثورة المصرية نتيجة افتقار القيادة، قد بددها الحكيم في صباه، وهو الذي من نواة ثقافية في الجامعة الأمريكية حلم بوحدة وتحرر وتقدم امة كاملة، لم يكن قد بلغ يومها الخامسة والعشرين عن شكل "نادي العروة الوثقى" الذي تحول إلى النادي الثقافي العربي الذي لا زال اسمه منتشرا في كثير من العواصم العربية، ثم إلى حركة القوميين العرب بعد تأسيس "كتائب الفداء العربي".

فقد كانت النفوس كبارا على رأي المتنبي ولكن الاجسام حملتها ومضت بها، ليكون جورج حبش قائدا لحركة عربية تمتد من المحيط إلى الخليج، وكانت إن ربطت دورها بدور زعيم الأمة الخالد جمال عبد الناصر، فقد قال الحكيم "إن وجود زعيم رسمي للثورة العربية لا يلغي وجود جركة شعبية تسنده"، وكان ان حققت الحركة انجازات سواء في اسقاط حلف بغداد الذي هو أشبه بحلف آل سعود اليوم، أو في تحرير الجنوب العربي من الاستعمار البريطاني لتتشكل جمهورية جنوب اليمن، فجورج حبش لم يكن مجرد قائد فلسطيني وهذه حقيقة لا مبالغة، لقد كان قائدا قوميا، بقدر ما كان مشحونا بالعروبة.

لو كان الحكيم حيا اليوم، هل كان سيندب الواقع القائم قوميا ووطنيا فلسطينيا؟ لا نظن ذلك، بل كان سيجهد عقله في البحث عن وسيلة لفتح الآفاق المسدودة، كان سيمسك بتلابيب الهبة ويبحث لها عن دور اكثر تأثيرا، ويسعى إلى تشكيل رأس قيادي لها، فبوصلته دائما كانت الثورة والتغيير والتقدم للأمام.

جورج حبش لم يكن دوغمائيا جامدا كما أمعن كثيرين في وصفه أو نقده، بل كان ينظر الى ما خلف الظواهر أكثر مما ينظر الى بريقها أو دخانها، كان يبحث عن الاستراتيجي في التكتيك، وعن التكتيك الأسلم للوصول الى الاستراتيجية، ودون ان يفقد البداهة التي كانت تسكن عقلا وذهنا ليس متوسط الذكاء، بل يصل احيانا الى النبوغ.

كان من السهل عليه أن يتخلى عن فكرة إذا ثبت بطلانها، وحتى عن حركة إذا فشلت، فقد انتقل من موقع الفكر القومي التحرري الى موقع الفكر الاشتراكي، دون ان يفقد ايمانه بالقومي كإطار للتحرر، وتخلى عن حركة تفككت وبان فشلها نحو بناء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي شاكلتها جبهات شعبية اخرى في عمان والبحرين والصحراء الغربية، بمعنى انه كان دائم التجدد وكان يحترم عقله أكثر مما تسيطر عليه رغباته.

لهذا يكتسب الحكيم رمزيته، ولا نخال فلسطينيا او عربيا عرفه أو عرف عنه ينكر استعداده الكفاحي وهيبته الشخصية، ونزاهته، وتعففه عن ملذات الحياة، فالرجل لو مارس الطب منذ الخمسبنات لامتلك العقارات والأسهم وغيرها، والرجل لو اختار خلاصا فرديا لأبدع بشهادة كل عاصره في الدراسة.

لكنه اختار أن يقف الى جانب شعبه، فقد كان عظيم الوثوق بالشعب وطاقاته وإمكاناته، وكان عظيم الوثوق ايضا بحتمية انتصاره لو قيض له قيادة قادرة على تفجير طاقاته.

للحكيم في ذكراه عهد الشهداء، عهد وديع وعهد غسان وعهد القادة كلهم، وله عهد شعب ان يكون ايقونة وبوصلة... فقد كان معلما وكان قائدا وملهما تفتقده اليوم فلسطين وربما تفتقده أمة بأكملها.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.