شهد العالم متغيرات جوهرية في الصراع المعاصر، ولعل أبرز سماته المخيفة التحول من حرب الحدود والجيوش إلى الحروب الشبحية والعمليات الخاصة وإذكاء حرب الهويات الفرعية واستهداف المجتمعات، ولعل العراق أنموذج يجسد وحشية هذه المتغيرات الخطيرة، ونتاج لصراع الاستراتيجيات الأجنبية والإقليمية، حيث عملت الأدوات السياسية الوافدة على تفتيت الديموغرافية العراقية إلى مكونات وطوائف وأعراق مع تفاقم مظاهر عسكرة الإسلام والمليشيات والجماعات الخاصة والتي تعمل بشكل مزدوج في السلطة وخارجها، وهي المرتكز الجوهري للفوضى النازفة.

ويبدو أنه انعكاس للتخادم الأمريكي الإيراني في العراق، لاستمرار الفوضى كمبرر لتعزيز النفوذ الإيراني، مما يشير إلى انهيار واقعي في أمن دول المنطقة دون استثناء، كون النموذج العراقي طازج وقابل للتطبيق في أي بلد عربي "عرقنة الدول العربية" ويلاحظ نقل سيناريو العراق الدموي إلى سوريا التي أصبحت ساحة صراع دولي إقليمي، والأحداث الجارية في العالم تؤكد مخطط القضم الجيوبوليتكي للدول العربية، وتجزئتها إلى دويلات متحاربة مضطربة تسودها المهارشة الطائفية لتستنزف قدراتها وشعوبها.

عقيدة السلطة بالإكراه والصدمة
نشهد ظواهر الإبادة الفكرية والثقافية ضد الشعوب العربية وخصوصا جيل الشباب الذي فقد الواقعية ودخل في دهاليز العالم الافتراضي باستخدام الوسائط المتعددة، ويبدوا أن عجلة التفكيك مستمرة خصوصا بعد استخدام "عقيدة السلطة بالإكراه والصدمة.. العراق أنموذجا"، وقد استنزفت ديموغرافيته بشكل بشع وأسهمت في تفكيك المجتمع عاموديا وأفقيا بمحاور طائفية وعرقية وخلقت فجوة كبيرة بين السلطة والشعب، ومن أبرز مخلفاتها ظواهر النزاعات وتناسل التنظيمات المسلحة والاضطراب السياسي والأمني، مع تعاظم ظواهر الاعتقالات والتعذيب المنظم وتطويع مادة الإرهاب بشكل طائفي، مما يعزز تجارة السجون التي أصبحت تضاهي أرباح النفط والذهب، وقد أسهمت أيضا بانتشار الفساد والاستئثار بالمال العام من قبل الأدوات السياسية[1]. وتدور في فلكهم حواشي منافقة لصوصية من كافة الشرائح تسهم في إشاعة البؤس والجوع وتعاظم البطالة في ظل استيراد العمالة من الهند والدول الآسيوية!!

وبات هذا التحول البائس الفوضوي يطلق عليه تجار السياسة في العالم "شراء الدول وتفكيكها"، ووفقا للنظريات الاقتصادية يطلق عليها "مدرسة شيكاغو- رأسمالية الكوارث" لمنظرها "مليتين فريدمان" اليهودي الأصل والأمريكي الجنسية، والذي حققت نظريته فوضى هدامة واسعة في العراق وصدمة واختلال مجتمعي كبير ذهب ضحيتها ملايين البشر.

تجريف القدرة العربية
نشهد اليوم تداعيات تجريف القدرة العربية، واندثار المنظومات القيمية، واستنزافا ديموغرافيا متعدد الأوجه، مع خواء فكري منظم، وسياسة إلحاق للمجتمعات العربية بالعالم الافتراضي، وتهديدات آنية وشيكة تقع ضمن مرتبة المخاطر الكبرى، لعل أبرزها شبح التقسيم إلى دويلات دينية طائفية إثنية عرقية "حرب المائة عام"، وانتشار الحروب المركبة والحرب الديموغرافية الزاحفة والتي نشهد ملامحها في لبنان والعراق وسوريا والكويت والبحرين والسودان والصومال واليمن.. ونعزوها للأسباب التالية:

- غياب العقيدة العربية السياسية واندثار استراتيجياتها التخصصية.
- غياب الاستراتيجية العربية الناجعة التي تعالج الأزمات الزاحفة.
- انهيار الأمن القومي العربي في ظل تفاقم مخططات التقسيم.
- القبول بالخطيئة العراقية "دولة المكونات والطوائف والأعراق" كأنموذج يسوق له.
- تسويف القضية الفلسطينية وتعاظم الصراع السياسي بين القوى الفلسطينية.
- تطبيق مخططات تفكيك السودان والانفصال مقابل السلطة.
- احتراب الصومال المزمن وعسكرة السلطة.
- تداعيات الطائفية السياسية في العراق واليمن ولبنان وسوريا والكويت والبحرين.
- انتشار ظواهر عسكرة الإسلام والمليشيات المسلحة ذات الارتباطات المشبوهة.
- تطبيق عقيدة السوق للشركات وتداعيات الخصخصة وتفاقم الفقر والبطالة والجوع.
- حمى التسلح النووي والصاروخي الإيراني في المنطقة.
- شبح الحروب المحتملة في المتوسط أو الخليج العربي أو العمليات البديلة لها.
- عمليات الإرهاب السياسي المختلفة والحروب الإعلامية والنفسية.
- تفكيك البنى التحتية المجتمعية وفق أساليب التقطيع الناعم العمودي والأفقي.
- غياب سياسة الاحتواء السياسي والتكامل المجتمعي.
- انتشار وتجارة وتعاطي المخدرات.
- تجارة الأسلحة والمتفجرات وانتشار عصابات الجريمة المنظمة.
- أجيال سائبة دون بوصلة وطنية ومنظومات أيديولوجية عربية اسلامية فاعلة.

الدولة أم العالم الرابع؟
يشهد العالم العربي متغيرات جوهرية ذات طابع فوضوي وتؤشر إلى تطبيق أنموذج "العرقنة النازفة" [2]، وأضحى تفكيك الدول منهجا شعبيا عاطفيا وإرادة خارجية ملحة لزرع الفوضى وتهديم المؤسسات بدواعي الاجتثاث والعزل والفلول... الخ، من المصطلحات السوقية لتجار الطوائف من ذوي الأفكار الهدامة لنظرية الدولة، لأن الواقعية السياسية طيلة العقود الماضية تلتزم بنظرية الدولة في ترتيب النسق الدولي، لأن الدولة هي الوحدة الأساسية في السياسية الدولية، وهي الكيان المهيمن في الشؤون الدولية، وكونها استثمارا حضاريا وتراكما أنفاقيا وهوية ثقافية؛ ولعل من أبرز مقومات "النظرية الدولاتية" يجب أن تحتكر الدولة القوة المقرونة بالقانون والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وتمارس السلطة بالإقناع وترسي الحياة السياسية الدستورية وتؤمن الديمقراطية الحقيقة، وبنفس الوقت تؤمن الردع ضد التهديدات الخارجية وترسي المقومات الأساسية للأمن القومي وما يطلق عليه صفحتي "الأمن والدفاع" وتمارس الدبلوماسية لتحقيق المصالح العليا للبلد، وتتفاوض لعقد المعاهدات الدولية والاتفاقيات والتحالفات التي تضمن أمنها وحقوق شعبها، وتمارس النفوذ إلى حد كبير في تحديد السياسة التجارية والمالية والإنتاج الصناعي والزراعي، وتأمين الخدمات الأساسية وتحرص على إرساء دولة المواطنة وتترجم تطلعات الشعب بالمكانة والهوية الحضارية، وتعطي نظرية الدولة صورة أكثر واقعية عن عالم السياسة الدولية، ولا بد من الإشارة إلى المتغيرات التكتيكية في إستراتيجية الإزاحة "حروب الإزاحة العربية"، ونستعرضها بما يلي:

1. الضخ الطائفي الإعلامي عبر وسائل الاعلام
2. الحروب الإعلامية عبر الوسائط المتعددة ووسائل الاعلام الموجهة
3. الحرب الالكترومعلوماتية
4. حرب المصطلحات وحرب الأثير
5. حرب الصور وصور الحرب
6. الدعاية السوداء والحرب النفسية
7. شيطنة النظام والدولة
8. تبسيط الاستهداف وتضخيم الاحداث
9. زرع وتنشيط الخلايا النائمة الهدامة
10. اذكاء الاضطراب الأمني والسياسي والاجتماعي
11. الإجهاد المؤسساتي وتقطيع الأوصال الشعبية
12. عسكرة الإسلام والتجارة الطائفية
13. اختراق الخزين المعرفي والتأثير في السلوك
14. غياب الدور النخبي والفكر العربي الناجع لمعالجة التداعيات الفكرية والاجتماعية والاقتصار على المحافل الاعلامية الدعائية وتغليب لغة التجارة الاعلامية على الاخلاقيات الاعلامية والدور الايجابي.
15. هامشية مراكز الدراسات العربية في صناعة القرار واتساق عدد كبير منها بالتقارير والدراسات للمراكز الاجنبية والتي لا تتسق مع واقعية الاحداث وتنطلق من مصلحة الممول لتلك المراكز او السياسية العامة للبلد المضيف لها.

استعادة المبادأة الاستراتيجية
تبرز الأهمية الجيوستراتيجية للعالم العربي كقوة تشغل رقعة متقدمة في العالم الثاني، وتحتكم على نصف الموارد الإستراتيجية في العالم، ومعضدة بأكثر من محور جيوسياسي وأبرزها المشرق العربي "دول المتوسط- الخليج العربي- المغرب العربي" التي تتهاوى فيها نظرية الدولة؛ وكما شهدنا في تونس والسودان ومصر وليبيا، وهذا يشكل عاملا مضطربا لتوازن القوى العربي الإقليمي، وبالمقابل هناك تماسك النسيج الديموغرافي للشارع العربي كالوشائج والعادات المشتركة والتعاضد في الأزمات.

ولا بد من قراءة استراتيجية متأنية للتهديدات والأزمات الزاحفة وإعادة رسم السياسة العربية في ظل تعاظم مظاهر القتل المجاني اليومي دون رادع أخلاقي وقانوني، وكذلك التهديدات الإقليمية والدولية وانشطار الدول والانفصال وخضوع المنطقة لصراع الوصول الدولي والعبث الإقليمي، ولا بد من العمل على حشد مفاعيل القوة والضغط لتحقيق التكامل السياسي والاقتصادي والعسكري العربي، وهو أمر صعب المنال حاليا ولكنه ضروري لاستعادة القدرة العربية الشاملة، وتشكيل تمركز للقوة في معادلة التوازن العربي الإقليمي والحضور الدولي، ويمكن تحديد أبرز الملفات المتقدة التي يفترض معالجتها كما يلي:

* التصدي لحرب الهويات الفرعية والاحتراب الطائفي والعرقي والذي أصبح مدخل سهلا للتفكيك السياسي للدول العربية كافة بلا استثناء.
* الملف العراقي مسؤولية دولية وعربية لا بد من معالجته بخارطة طريق مسؤولة تؤمن هوية العراق الموحدة وتعزز التعايش الاجتماعي المفقود وتنظم حشد القدرة بغية التصدي للتهديدات الداخلية والإقليمية والدولية التي يتعرض لها.
* معالجة الملف الفلسطيني والممارسات الصهيونية القمعية والاستيطانية.
* معالجة الصراع الطائفي السياسي في العراق ولبنان وسوريا والكويت والبحرين واليمن وتداعيات تقسيم السودان وصراع القبائل والمليشيات في ليبيا والصومال.
* الوقاية من الحروب المركبة القادمة باستخدام الشعوب كورقة ضغط وباستخدام مصطلحات براقة تخفي خلفها مخططات فوضوية تنسف الدولة والنظام.
* تخطي الخلافات العربية ومعالجة التهديدات الآنية والوشيكة.
* معالجة المخدرات والسلاح وتهريب العقول والقدرات العربية إلى الخارج.
* تدعيم القيم الإنسانية والاعتبارية للمواطن العربي في كافة الدول العربية.
* تعزيز روح المواطنة العربية الإسلامية.
* منح المواطن العربي حياة كريمة عزيزة تتلاءم مع مكانته بالاستفادة من تجارب عربية.
* الإصلاحات السياسية الناجعة والسريعة والاحتواء المرن.

ينزلق العالم العربي إلى وضع حرج للغاية يستهدف هويته ومكانته، ويعيش في حزمة تهديدات آنية ووشيكة ومحتملة في ظل غيبوبة المعالجة الفورية والإستراتيجية، ولا بد للدول العربية أن تحقق التكامل الذاتي ووحدة الهدف والمصير وتفكيك الأزمات الداخلية وفق سياسة العلاج الناعم لسد الثغرات والمفاصل اللينة التي ينتهزها الخصوم، ولا بد من خوض الحروب الإجهاضية لمعالجة هجمات التفكيك الساعية لتفكيك القدرة السياسية العربية، خصوصا أنها تعزز الاضطراب السياسي والأمني الداخلي وفق فلسفة "الحروب من الداخل".

وخلافا لذلك سيشهد العقد القادم هجمات التفكيك السياسي الكبرى للدول العربية، ويبدو أننا ندشن عقدا جديدا صاخبا بالانفصال والتقسيم وفق لمخططات مريبة، وباستخدام العنف التجاري والعمليات الخاصة، وعبر الانقلابات والحروب الأهلية، ونخشى من نقل سيناريو العراق إلى الدول العربية وفق فلسفة الصدمة والفوضى السياسية لبيع الدول كما تزعم النظريات الهدامة.
_____________
* مفكر عربي من العراق
saqarc@yahoo.com

الهوامش
[1] كشفت مصادر مقربة من السفارة الأمريكية في بغداد عن أن لدى السفارة تقريرا تفصيليا عن الثروات المالية الخرافية للقوى السياسية وبعض نوابها، في العراق الجديد. وبحسب التقرير الأمريكي، فإن مجموع ما تملكه القوى السياسية النافذة يبلغ نحو 700 مليار دولار. http://www.uragency.net/2012-03-11-16-31-52/2012-03-11-16-33-35/5989-700.html
[2] العرقنة النازفة من نظرية الدولة إلى فوضى العالم الرابع- ايار 2011، بحث منشور، تنظير للكاتب يحاكي التداعيات العربية وفرضية ترحيله الى العالم الرابع والذي وصفه بصورة العالم الرابع في حالة الفوضى، كانت قد وضعت وبشكل مقنع ولخصت في عنوانين لأعمال واسعة الانتشار وطبعت عام 1993، وهما كتاب لـ"زيبينغو بريجينسكي" "خارج عن التحكم" وكتاب لـ"دانييل باترك موينهان" "عاصمة الجحيم".. انظر صموئيل هنغتون "صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي" الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، مصراته، 1999، ص91.


حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.