أ‌- تصور يقوم على فكرة هلامية عن ماض مجيد متخيل، في مجمله، تستحيل استعادته، ويتعذر تجسيده على أرض الواقع، لثلاثة أسباب أساسية، أولها: كونه في الأغلب الأعم متخيلا إلى درجة كبيرة، بفعل بعد المسافة الزمنية به والانشداد العاطفي القوي إليه. وثانيها: كونه يغطي بلدانا شاسعة أوسع بكثير من الدولة الوطنية التي ليست، في الواقع، إلا نوعا من الصورة الكاريكاتورية عن الإمبراطورية الإسلامية التاريخية، وثالثها: إن كل استعادة تعني خلق واقع متجاوز، لم تعد له أسس تربطه بالواقع، علاوة على كونه لم يعد يجسد التقدم في أي بعد من أبعاده، وإنما هو التأخر بعينه، ما دام يتجاهل عنصر الزمن، وما يؤشر إليه من تغير وتطور ليس بالإمكان القفز عليه، وتخيل إلغائه. ولذلك قيل، في مناقضة ومناهضة التصورات السلفية المختلفة المقترحة لنمط من التقدم العربي قائم على العودة إلى الماضي، إنه دعوة إلى القيام بثورة إلى الخلف، وليس القيام بقفزة إلى الأمام، كما هو مفترض في كل ثورة تقدمية حقيقية، خاصة أن العملية الأولى لا تدخل عامل الزمن ضمن مدركاتها بينما تستند الثانية على اعتماده في تصورها للتقدم لأنه عنصر من العناصر الأساسية المكونة للمستقبل.
 
ب‌- وتصور عماده المركزي فكرة ملتبسة، وحائرة، عن الغرب ممزوجة بالشعور بضغط هذا الغرب، المادي والمعنوي، السياسي والعسكري والثقافي، وبالتطلع إلى محاكاة صنائعه وبعض علومه بعد تجريدها من حمولتها الفلسفية والثقافية، وما يعتقد أنه مصدر تقدمه المضمر لمصدر تأخر العرب، واقتران ذلك، كله، بخوف واضح وصريح من الغرق في قيم هذا الغرب غير المتوافقة، في جوهرها، مع تصور العرب الخاص لمقومات الهوية العربية الإسلامية. الأمر الذي ولد لدى العرب تذبذبا حقيقيا بين اتجاهات شتى في آن واحد، تنم عن الرغبة الأكيدة في تحقيق التقدم على النمط الغربي في مجالات بعينها، مع الحرص على الاحتفاظ بكل ترسانة القيم والمثل والثقافة العامة التي يتم اعتبارها محددة للهوية الذاتية للعرب والمسلمين. والحال، أن التصادم بين تلك الرغبة وهذا الحرص كثيرا ما يبرز للعيان في فكر ممثلي الحركات الفكرية المختلفة التي كان لها، على صعيد النظر، ارتباط ما أو احتكاك بالغرب، بغض النظر عن أسباب وحيثيات وتجليات وحدود هذا الاحتكاك.
 
إن التقنية والصناعة التي نشأت في الغرب الحديث، الذي واجه عالم العرب ثقافيا وسياسيا وغزوا عسكريا، كما تكشف عن ذلك تجربة الاستعمار المباشر، في مختلف البلدان العربية، ليست آليات محايدة وبريئة بشكل يسمح بانتزاعها من مناخها الحضاري، وسياق إنتاجها الثقافي، بل إنها حاملة لمحدداتها، ومحكومة بمنطقها، بحيث يستحيل التعاطي مع بعضها بمعزل عن البعض الآخر. ولعل هذا ما يفسر فشل كل المحاولات الانتقائية والتلفيقية التي تم اللجوء إليها ضمن منطق أخذ ما يمكن الاستفادة منه، ونبذ ما ليس في مصلحة العرب والمسلمين. ذلك أن اعتماد هذا المنطق لا يشكل مقياسا موضوعيا، ومتسقا في مختلف مستوياته، بل يحيل إلى أكثر من متغير ومجهول في عملية الاقتباس، والأخذ هذه، تبدأ، باختلاف القوى المعنية، ولا تتوقف عند طبيعة مصالحها المتباينة، وإنما تتعدى كل ذلك إلى الأهداف المتوخاة من تلك العملية برمتها، وغالبا ما تكون أساسا، وأرضية خصبة، لصراعات مبدئية، إيديولوجية وسياسية عملية، بين مكونات المجتمع الواحد، وضمن الحقبة التاريخية الواحدة. غير أن الفشل كان حليف التيار الذي اعتبر أنه ينبغي استنساخ التجربة الأوروبية بحذافيرها، أيضا، لأنه لم يستطع غرس هذه المفاهيم والقيم في التربة العربية ورعايتها من خلال توفير مناخ يسمح لها بالنمو السوي، والاندماج في منظومة المبادئ والقيم الوطنية والقومية، وإنما اكتفى بنقلها، ومحاولة فرضها فرضا على واقع غير الواقع الذي أنتجها وتلونت بملامح حضارته وثقافته الأساسية، أي دون أخذ طبيعة الواقع العربي، وثقافته، بعين الاعتبار. وهذا ما يفسر، مرة أخرى، كيف أن المفاهيم الإجرائية في سياق نشأتها قد فقدت هذه الوظيفة، من جراء نقلها التعسفي من سياقها ومحاولة فرضها على سياق مخالف بصورة جذرية.
 
فهل هذا يعني أنه لا توجد أي نقاط تقاطع بين الأدوات المنهجية في مقاربة الواقع عندنا، وعندهم، وأن كل مجتمع منغلق على ذاته، بشكل كامل، وليس هناك أي جسور واصلة بين المكونات الأساسية لمختلف المجتمعات البشرية؟
 
إن التطور الذي عرفته مختلف العلوم الإنسانية ومناهجها، خلال عقود طويلة من مقاربة الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، على نطاق واسع، قد أضفى عليها قدرا كبيرا من الفعالية والدقة في تعاطيها مع الوقائع الموضوعية في مختلف المجتمعات، وإن المشكلة لا تتعلق، في الواقع، بتلك الأدوات المنهجية بل ترتبط، أساسا، بالثقافات السياسية والتصورات الإيديولوجية التي يتم الترويج لها عند بعض الباحثين الذين لا يحرصون على الالتزام بنتائج بحوثهم في مختلف أبعادها، وإنما يحاولون فرض بعض القوالب الإيديولوجية الجاهزة على دراساتهم ضمن تأويلات فكرية وسياسية تخدم الأغراض المسبقة لبعض القوى التي تحاول الاستفادة من البحوث الميدانية في مختلف المجالات لتكييف الرأي العام مع ما تتطلبه خدمة مصالحها الإستراتيجية وتبشر به تصوراتها الإيديولوجية القبلية.
 
وبطبيعة الحال، فإن هذه التصورات الإيديولوجية تختزل التقدم في اعتناق مجمل تصورات الغرب الحديث، ليس حول نفسه فحسب، وإنما، أيضا، حول ما ليس هو. وخاصة ما يمكن تسمية تجاوزا المجتمعات الشرقية أو مجتمعات وشعوب العالم الثالث.
 
وفي المقابل، فإن تيارات فكرية وسياسية في هذه المجتمعات الأخيرة تنطلق من أن خصوصيتها الثقافية والتاريخية تجعلها خارج دائرة المقاربات التي تعتمد أدوات منهجية ذات الخلفية الحداثية التي ترمز إلى ثقافات لا تمت بصلة بثقافاتها المحلية، والتالي، فهي تحاول النأي بنفسها عن تلك المقاربات، بدعوى ضرورة إبداع منظومة منهجية ملائمة وقادرة على إدراك مختلف الأبعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية الخاصة بها.
 
وفي الواقع، فإن مفهوم التقدم، الذي يمكن اعتباره مفهوما متداولا ومقبولا لدى الجميع، يصبح ذا حمولات وشحنات فكرية وإيديولوجية، قد تصل إلى حد التناقض بين نخب مجتمعات الغرب الحديث، ونخب مجتمعات العالم الثالث خاصة عندما يتم التركيز على معطيات تعتبرها النخب، هنا وهناك، مقومات قيمية وهوياتية مميزة لتلك المجتمعات. وهذا ما يضفي على المفهوم طابعا استعصائيا بدرجة كبيرة.
 
كاتب وباحث مغربي

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.