نظرية "العقل الفاعل" و"العقل المنفعِل" تبين كيفيَّةَ الخلاص من قهر العقل المجتمعي، وتحلل الصراعَ المتواصل بين العقل الفاعل والعقل المنفعل، على صعيد الفرد والجماعة, وهو صراعٌ يتوقَّف على نتائجه تقدم المجتمع أَو تخلفه. أما العقل المنفعل فهو خاصية ذهنية يكتسبها الشخص من الآخر: محيطه/ أسرته/ مجتمعه.. يستخدمها في ممارساته وتصرفاته وسلوكه، أي يعتمد مجموع قيم وقواعد وعادات المجتمع, وتتسم بأحترامه لها. وهذه الخاصية تتصف بالخمول ورفض التغيير, في غياب التعامل مع التفكير والتحليل, وتختلف من عصر إلى آخر, وأيضاً من فرد لآخر. أما العقل الفاعل فهي ملكة إنسانية ذهنية طبيعية، تتسم بالحساسية- النشاط والذكاء، تمارس التفكير والتحليل، ترنو إلى الرقي والارتقاء شخصياً ومجتمعياً. يمتلك فكراً ذكياً يقوم على تمحيص أموره ومجتمعه حضارياً.. ينتقد من أجل تحقيق الأفضل.. صريح وواضح.. يتسم بالصراحة والشجاعة الأدبية.. مبتكر ومبدع.. يتفاعل مع كل جديد مفيد.. يساهم في تطوير المجتمع باتجاه التقدم والانتقال المستمر نحو بلوغ المستوى العلمي/ الحضاري الأرقى. ويظهرمن ذلك أنَّ "العقل الفاعل" يجسد الجانبَ الطبيعيّ "الحُرّ" من عقل الإنسان، الجانب المُتحفو المُتسائل والمُتشكِّك والمُبدِع والمُتطلِّع نحو اكتشاف آفاقٍ جديدة نافعة ومتطورة في حياة الفرد والمجتمع. (18)

ويلاحظ على هذه الملكة الذهنية أنها تولَد مع الإنسان، ثمَّ تَضمر تدريجيًّا، بسبب تأثير العقل المُنفعِل/ العقل المجتمعي وسيطرته على العقل الفاعل، وقد تنمو لدى بعض الأشخاص، فتؤَدي إلى تساؤله وتشككه ونقده لقيم المجتمع وأعرافِه ومُعتـقـداتِه من حيث مدى مصداقيتها وصلاحيتها للعـقـل الفاعل وللمجتمعّ, لأنه بلغ مرحلة فكرية تمكنه من التحليل والنقد واستنباط أفكار وقيم جديدة أكثر ملاءمة. وهنا, ترد الملاحظات التالية(19)
1- يولَد كل فرد بعقل واحد هو "العقل الفاعل"، الذي يكون في مُنطلقاته الأُولى عقلاً "بِدائيًّا" أقربَ إلى الغريزة منه إلى "العقل الناضج"، ولكنَّه قد يزدادُ نموًّا خلال سنوات العُمر التالية.
ولدى اختلاط الفرد بأعضاء مجتمعه, أبوَيه أوَّلاً، ثمَّ رفاقِه ومُدرِّسيه فيما بعد، يبدأ عقله المنفعل- قيم المجتمع- بالنمو، لأنَّه هو العقلُ السائد. فيبدأ الطفلُ في تعلُّم الخضوع للقواعد التي يسلُكها المجتمع، لأنَّه إذا عصاها، سيُعاقَبُ ، بشكلٍ أو آخر، وإذاقبلها والتزمها، فإنَّه سينال رضا أبوَيه ومُعلِّميه أو اعجابهم , لذلك فلا مفرَّ من اتباعها في العادة.

وتتفاوت المُجتمعات في مدى فَرضِ تلك القواعد واحترامها, فكلَّما ارتفعَ المجتمعُ في سلَّم التطوُّر والتقدُّم والديمقراطية، بالمعنى الحديث، مُنِحَ الطفلُ قَدرًا أكبر من الحرِّيـَّة والاختيار, وكلَّما انخفضَ ذلك السلَّم، كان العكسُ صحيحًا. ومع مُراعاةِ النتائج الإيجابيَّة والسلبيَّة لهذه الحُرِّيـَّة، وتفاوُتِ الأفراد في الاستفادةِ منها أو إساءةِ استعمالها، فإنَّ نتائجَ الأبحاث النظريَّة والعلميَّة الحديثة رجَّحتْ أنَّ منحَ الطفل قَدْرًا مُعيَّـنًا من حُرِّيـَّة التصرُّف- أي استخدام عقله الفاعل- المصحوب بحُسن التوجيه والـتـثـقـيف والتعليم دون ضغطٍ أو تلـقـين، يُؤدِّي، بالنسبةِ للأغـلبـيَّة العُظمى من أفراد المجتمع، إلى بناءِ شخصيَّة الفرد، وحَـفـْـزِ قُدراته الذاتـيَّـة للخلقِ والإبداع.

2- في بداية سنوات العُمر يُغذِّي العقل الفاعل العقل المنفعل بنتائج انطباعاته وتجاربه المستخلَصة من اتصال الفَرد بالآخرين، أسرتِه أولاً ثمَّ مدرستِه ورفاقِه فيما بعد؛ وهذا العـقـل الفاعل هو الذي يُـقرِّر أوَّلاً ما يجب أن يُغذِّي به العقل المنفعل من قواعدَ ومبادئ. ولئن يُلاحظ الفرد أنَّ هناك أمورًا مقبولة ومُـتـَّبعة من قـِـبـَل الآخرين، غير أنَّه لا يُحبُّها، وأُمورًا غير مقبولة من جانب الآخرين، بيد أنه يُحبُّها، فأنـَّه يُحاول أن يُوازن ويُقارن ويُعادل، من خلال عقله الفاعل، مقدارَ ما يحصل عليه إن تخلَّى عن رغباته المُحبَّبة، إكرامًا لرغبات الآخرين، أو بالأحرى إكرامًا للقواعد التي يفرضُها المجتمع - قبول الآخرين له و/ أو إعجابُهم به- أو ما يفـقـدُه أو يُعانـيه إن اتَّبع أوامر عقلِه الفاعل التي تُمثــِّل رغباتِه: غضب الآخرين عليه أو مُعاقبته. إنَّ حصيلةَ هذه المُوازنة الصعبة والمعـقـدة، والتـلقائـيَّة أحيانًا، هي التي تحدِّد وتـُـقـرِّر مدى التزام الفرد اتـِّباعَ قواعد "العقل المُجتمَعيّ"، وبالتـَّالي مدى تغلـُّب العقل المُنفعِل على العقل الفاعل، أو ضمور العقل الفاعل لمصلحة العقل المنفعل. وفي الأحوال العاديَّة فإنَّ العقل المنفعل هو الذي يكسبُ هذا السباق.

3- يحل العقـل المنـفعـِل تدريجياً محلَّ العقل الفاعل في ميدان التمييز بين الأُمور، أي أن "العقل المجتمعي" يسيطر بالتدريج على عقل الفرد, عامّّةً, وعلى عقلِه الفاعل خاصَّة، لمصلحة عقله المنفعل، الذي يبدأ بالتطور تدريجيًّا حتَّى يصل إلى المرحلة التي يصبح فيها الفرد الناضج مدافعاً عن قيم مجتمعه ومعاييره وقواعدِه بحماسٍ وإخلاص، لأنَّ عقلَه المنفعِل قد أدرك مرحلة النضوج بل الازدهار. يُدافع عنه باعتباره يـمثــِّل عقلَه هو لا عـقـل المجتمع الذي يعيش فيه. وفي هذه الحالة، وهي السائدة والغالبة في مختلف المُجتمعات، وفي مجتمعاتنا العربـيَّـة والإسلامية خصوصا ً، يصبح الفرد ناطقا ًبلسان مجتمعهِ، أو يتحوّل بالأحرى إلى دُميّة يُحرك خيوطـَها العقـل المجتمَعي.
4- ومع ذلك، فإنَ العقـل الفاعل قد لا يموت نهائيا ً لدى فئة من الأشخاص، بل يظـل قابعاً ومُنـزويًا في أعماق ذات الإنسان، في جزءٍ ممَّا يُسمِّيه فرويد "العقل الباطن"، أو ما يُسمِّيه أرسطو: الوجود بـ"القوَّة" لا بـ"الفِعْل". وقد يظهر بين حين وآخر لدى أفراد هذه الفئة عند اعتراضهم أو ثورتـهم على القواعد والمبادئ المُتعارَف عليها في المجتمع، أو يظهر بشكلٍ واضحٍ ومركـَّـز لدى قلائلَ جدًّا من الأفراد الذين يشرعون، عن طريق استخدام "عقلهم الفاعل". وهؤلاء يتصفون عادة بالذكاء المميز أمثال الأنبياء والعباقرة من العُلماء والفلاسفةِ والمصلحين الاجتماعيِّين مِمَّن تمكـَّـنوا من تغيـير وجه المجتمع والتاريخ بفكرهم أو بمُكـتـشـفاتهم وكفاحهم. وقد لقيَ هؤلاء البارزون من الأشخاص، على مرّ التاريخ، صنوفا ً من الصَّدِّ والردِّ والعقاب والتعذيب، بل والقتلِ أحيانا.
5- ومعنى ذلك أنَّ هؤلاء الأشخاص قد أخذوا باستخدام عقلهم الفاعِل لِمُحاسبة عقلهم المُنفعِل، وتحليل مفاهيمه وقيمه ومعتقداته، والتمييز بين صالحها وطالحها، تبعا ً لِمِصداقـيـَّـتِـها وصلاحيَّتها، بالنسبة لهم، ولحاضر المجتمع الذي يعيشون فيه ومستـقـبله. وبعبارةٍ أُخرى فإنـَّهم قد أدركوا شعوريا ً أنَّ لعقلهم وجهـَيـن، وجهًا "مُنفعلا ً" ووجهًا "فاعلا ً". فراحَ الوجهُ الفاعل ينظر في وجهه المقابل "المُنفعِل"، يُحاورُه ويُجادلُه، ويعترض أو يثور عليه.
وفي هذه المرحلة نفسها نصل إلى ما أسماه الجابريّ "التفكير بالعقل في العقل", حيث يقولُ في هذا السياق: "التفكير في العقل درجةٌ من المعقوليَّة أسمى بدون شكٍّ من درجة التفكير بالعقل..." بمعني إخضاع العقل الفاعل نفسه للبحث والتمحيص ليكون أهلاً لأكتشاف المسببات وطرق العلاج الاجتماعي والتطوير. من هنا يقوم العقل الفاعل بثلاثة أدوار أساسية:
أ- التفكيرُ في ذاته (العقلٍ الفاعل)، يتأمـلـُه ويستقصيه ويستنبطنه، ويلاحظ مدى استقلاله عن العقل المنفعِل، من جهة, ومدى قُدرة الذات العاقلة الفاعلة على استخراج المبادئ الكلية والضروريَّة من إدراك العلاقات بين الأشياء، فضلاً عن استنباط الدليل لإثبات المدلول, أي الوصول إلى الاستدلال الصحيح، قدر الإمكان، دون التـأثــُّر بأيِّ تأثيرٍ مُسبقٍ أو بعامل اجتماعيٍّ أو إيديولوجيٍّ خارجيّ. وتعتبر هذه المرحلة من أصعب وأدقِ ما يمر به العقل الفاعل في بحثه عن الذات الفاعلةِ لتحريرها من قهر العقل المنفعلِ الخاضع للعقل المجتمعيِّ، من جهة، ومن جهة أخرى، تحريرها من الذات، أي من العقل الفاعلِ نفسه، في حالة قناعته بمُسَلماتٍ مقبولةٍ على نطاقٍ عام حتى في الأوساط العالِـمةِ أو التي تـُعتبر موثوقة ً، أو مقبولة لدى الطبقة المثـقـفة، كنظريات كبار العلماء والفلاسفة. وباستـثـناء بعض النظريات العلمية التي وصلتْ إلى حدّ اليقـينِ وسُميت "قوانينَ"، ينبغي أن تظل جميع الأمور الأخرى خاضعة للشك والبحث.
ب- التفكير في "العقل المنفعـِل": يُسائـله ويُحاورُه ويُجادلُه و/ أو يُحاسبُه ويُـقوِّم مفاهيمَه وقِيَمَه ومعاييرَه - أي ينقدُه- ليكشفَ عن مدى تأثر ذلك العقل بالمجتمع أو بـ"العقل المُجتمَعيّ"، أو مدى خضوعِه له. ثمَّ يُحاول أن يُعدِّلـَه و/ أو يُغيِّرَه، ليصبحَ، على الأقلّ، عقلاً "مُنفعلاً" على نطاقٍ عالَميٍّ أو شموليٍّ بدلَ أن يكون محلـِّـيا ً أو قـُطريّا ً أو قوميّا ً، أو لِيغدوَ عقلاً يتجاوز إيديولوجيَّته نفسَها، لينظرَ في الإيديولوجيَّات الأُخرى ويُراعيَها ويتفهَّمها، ويتعلـَّم منها.
ج- التفكير في "العقل المُجتمَعيّ" باعتباره ظاهرة ً مستـقـلـَّة ًخارجة ًعنه وعن "العقل المنفعِل"؛ أي ينظر في أحوالِ المجتمع وظواهره وخصائصه وصفاته وقيمه ومعاييره، ثمَّ يستخرجُ منها فرضيَّات فنظريَّات ثمَّ قوانين، قد تصدق على كلِّ المجتمعات أو على مجتمعات معـيَّـنة فقط. ثمَّ يدرس تأثـيَر ذلك "العقل المُجتمعيّ" على "العقل المنفعل".
الإبداع في الفكر، فلسفةً وعلمًا، من نتائج العقل الفاعل. ًوالعقلَ العربيَّ المعاصر, بوجه عامّ، يميل نحو الاتباع أكثر مِمَّا يميل نحو الإبداع. فمنذ سقوط المعتزلة، يتجه موطن الحضارة العربية- الإسلامية (سابقاً) نحو الانحدار المستمر لصالح استمرار تقدم الغرب حضاريا. ومع تزايد الفجوة, يزداد التخلف وتزداد التبعية، ويستمرالجهل والفقر, فحسب تقرير الأمم المتحدة أن نصف السكان تقريبا في هذه المنطقة يعتبرون من الأميين والفقراء الذين يقل دخلهم عن دولارين في اليوم، كما بلغت نسبة الأمية فيها 43%، وهي أعلى نسبة في العالم، بما فيها البلدان النامية الأخرى. وعلى صعيد الترجمة، التي تعكس مدى اهتمام الأمة بالمعرفة والثقافة، يشير التقرير إلى أن الكتب المترجمة إلى اللغة العربية منذ عصر المأمون وحتى اليوم تبلغ نحو مائة ألف كتاب، وهو ما يوازي تقريبا ما تترجمه أسبانيا في عام واحد, رغم أنها أقل دول الاتحاد الأوربي تطوراً.(20)

بل أن الوطن العربي- باستبعاد جنوب الصحراء في أفريقيا- صار أكثر مناطق العالم تخلفاً,. فقد اتسعت الفجوة الحضارية بين الوطن العربي وبين الدول المتقدمة من ثلاثين ضعفاً عند دخول نابليون مصر(1798) إلى آلاف الأضعاف في بعض الجوانب العلمية والتكنولوجية حالياً. من هنا ضرورة بناء وعي عميق لفهم هذا التخلف وأسبابه ومنها قهر "العقلِ المجتمعيِّ" والخضوع لـ"العقلِ المنفعل"،. إن كافة مؤشرات استمرار تراجع هذه الأُمَّةِ تكادُ تدورُ، على الأَغلبِ، حولَ محور واحدٍ أو عاملٍ مُنْفردٍ يتمثل في "التخلف". و يكشف تقرير الأمم المتحدة عن أن جميع البلدان العربية الاثـنين والعشرين، التي تعتبر أغنى البلدان الإسلامية (لا بسبب إنتاجيتها العالية وجهودها الخاصة، بل بسبب تملك بعضها سلعة جاهزة هي النفط)، تحقق دخلا سنويا مقداره 531 مليار دولار فقط، بينما تحقق أسبانيا وحدها أكثر من ذلك (595 مليارا).(21)

لنتخيل ماذا يمكن أن يحدث لو انتقلنا من الانفعال إلى الفعل: على المستوى الخارجى سنصبح أصحاب ريادة ودور إقليمى ودولى حقيقى وأصحاب إرادة حقيقية، كما أننا سننتقل على مستوى المجتمع والدولة إلى مرحلة متقدمة، ومجتمع أكثر عقلانية. ذلك أن الفعل مرتبط بالعقلانية بالدرجة الأولى، ورد الفعل أكثر ارتباطا بالعاطفة. إن حركة التقدمم العلمي/ الحضاري يمكن أن تحدث فى حال تحولنا من عبودية رد الفعل إلى سيادة الفعل.(22)

وينبغي، قبل كلِّ شيء، أن نَعي بدقَّة وعُمق بأنَّ أيَّ تقدُّمٍ حضاريّ، لا سيَّما في هذا العَصر الحديث، لا يُمكن أن يتحقـق إلاَّ من خلال إرساءِ أُسُسٍ ومبادئَ فلسفيَّـة وعلميَّـة وتراكـُمِها. فالحضارة الغربيَّـة الحديثة قامت على هذه الأُسُس. حتَّى النهضة التي حدثَت ابتداءً من منتصَف القرن التاسع عشر، في اليابان، قامت استنادًا إلى تــَبـْيـِئة الفلسفة الغربيَّـة والعقل الغربيّ العلميّ والثقافيّ لمتطلَّبات المجتمع اليابانيّ، إلى الحدِّ الذي صرّح فيه المثقَّفون الشَّباب من الساموراي، منذ ستـينات القرن التاسع عشر: "ليس هناك تاريخٌ ماضٍ، فتاريُخنا يبدأُ اليوم! ويقول فرانك غيبني F. Gibney في هذا الصدد: "لم يحدث في مناسبة أُخرى من التاريخ الحديث أنَّ أمَّةً كبيرة، غير اليابان، غيَّرت بهذا الشكل الجذريّ، مجتمعَها وعاداتِها وأُسُسَها الاقتصاديَّة بالإضافة إلى بـِنيتها السياسيَّة... ومع ذلك، لم يفقد اليابانيـُّون هُويَّـتهم القوميَّة خلال هذه العمليَّة، بل على العكس، فقد تمكنوا من تقوية ودعم هويتهم.. من هنا فإن تحريرَ الإنسان العربيّ لإنجاز نهضته وتقدُّمه، يتطلب أوَّلاً، وقبل كلِّ شيء، تحريرُ عقله الذي تعرَّض للقهرعلى مرِّ العصور، فأصبح خاضعًا خانعًا تابعًا، مُقـلـِّدًا مُردِّدًا بعيداً عن التجديد.( 23)

فعلى صعيد المجتمع العربي, من المعروف الخضوع للعقل المجتمعي- القيم/ العادات/ التقاليد- منذ الطفولة, والحصيلة أغلبية مجتمعية لا واعية حضارياً. وبالعلاقة مع تخلف أسلوب التربية والنظم التعليمية، فإن إنشاء حوالي 200 جامعة وتخريج قرابة 12 مليون من المتعلمين والمتخصصين لم يتمخص عن تحقيق نتائج ملموسة باتجاه التقدم العلمي المجتمعي، بل بقي المجتمع يعيش قيمه وعاداته وتقاليده التي تعود إلى أكثر من ألف عام، وتمتد في بعضها إلى ما قبل التاريخ (العهد السومري.) لذلك لا غرابة أن نلاحظ في أيام شهر محرم (وهذا الشهر كان الناس يلتزمون فيه بعدد من المحرمات منذ ما قبل الإسلام، بخاصة تحريم سفك الدماء) مشاركة متعلمين من خريجي الجامعات في التعازي/اللطمية/ التطبير: ضرب الرأس بآلة حادة "السيف/ القامة"، رغم أنها ظاهرة مقززة لا تنم عن أي تصرف حضاري، ومع كونها تعزز التخلف والتعصب- المذهبي/ الطائفي، ليس على مستوى التعامل بين أفراد المجتمع، حسب، بل حتى في جانب منها على المستوى الرسمي أيضاً، بتثبيت الألقاب العشائرية والمذهبية/ الطائفية, كجزء من تعريف المواطنة في السجلات الرسمية. والنقطة المهمة الأخرى تتمثل في الثقافة الشعبية، التي تجسد أهم مكونات العقل المجتمعي، كما في زيارة العتبات المقدسة أو التبرك بالقبور وتقديم النذور والأضحيات، وهذه الأمور ليس لها علاقة بالدين، بل قد تقترب من الشرك، وربما تعود إلي شعيرة عبادة الأجداد التي كانت وما تزال سائدة، لدى المجتمعات البدائية.(24)
وجدير بالذكر أن جميع تلك العقباتِ والقيود الخارجية- بما فيها ضعف الإمكاناتِ وفقدان حرية الفكر, تدخل هي الأُخرى في إطار العقل المنفعل الذي يفرض على معظم الساسة والمسؤولين والمخطِّطين قيمهم المتحجرة وعُقَدهم المُستحكِمة وتقاليدهم الراسخة ومفاهيمهم البالية ، الأمر الذي يجعلُهم يُفضِّلون، مثلاً، إنفاقَ مئاتِ مليارات الدولارات في شراء الأسلحة البائرة، التي لا تستعمل إلا في قـَمعِ رعاياها، بدلاً من إنفاقها على إنشاء مراكز الأبحاث والتطوير ودَعم الخِرِّيجين والباحثين، مادِّيـًّا ومَعنويًّا، في هذا الاتجاه.(25)
الواقعُ الذي يعيشُه الوطن العربي اليومَ لا يبعث كثيراً على التفاؤل, حيث يُواجه خصماً متطوراً من جهة، ومتطلعاً إلى استغلال واستنزاف ثرواته الطبيعيَّة والبشريَّة، بما فيها النفطُ والمياه، والأيدي العاملة الوافرة والرخيصة، والسوق التجاريَّة التي تتألَّف من 300 مليون مستهلك.. علاوة على ما يُعانيه من التشرذمَ, التمزق والفساد، الاستئثار بالسلطة، الاستبداد والحرمانَ من الحريات الأساسية علاوة على التخلف، بما فيه الفقر والأُمية والجهل الذي يتجاوزالعامَّةَ ليشملُ معظمَ ”المتعلِّمين“، وكثيراً من الخرِّيجين، بدليل أنَّ هذا الجيشَ الذي تخرج من الـ 200 جامعة (قرابة 12مليون)،لم يُقدِّم أيَّ عطاءٍ علميّ أو تِقنيّ خارق لأبناء وطنه.(26)

أما ما سُميَّ بالصحوةِ الإسلاميَّة فيرى بعض من المفكرين ومنهم الجابري أنها لا تفي بما هو مطلوب من المسلمين في هذه الظروف التي تتحداهم فيها الحياة المعاصرةُ بمختلف مظاهرها وتعقيداتها,لأنَّ الصحوةَ انفعال لا فعل، والمسلمونَ محتاجون، بل مطالبون بالفعلِ وليس بمجردِ الانفعالِ. كما ولا زال "العقل المجتمعي" يعتاش على قشور أمجاد التراث الماضي، وأورامه, بخاصة المذهبيـة والطائفية، التي تُعتبَـر من بقايا الصراعات الـقـَبـَـلية في العصر الإسلامي والعصر الجاهلي. علاوة على تقاليدُه البدويَّـة وعصبيَّـتـُه القـَبليَّـة التي لا تزال قائمةً في مجتمعاتنا، بحيث أنَّ أكبرَ دولةٍ عربيَّة من حيث المساحة والثروة تُسمِّي نفسَها باسم العشيرة أو الأسرة التي تحكم البلدَ منذ تأسيسها. والجدير بالذكر, أنَّ "العقلَ المُجتمَعيّ العربيّ الإسلاميّ " متأثرٌ بالفترةِ المظلمة من تاريخنا والتي استمرَّت أكثر من 700 عام ( منذ سقوط بغداد) بكلِّ ما تتضمَّـنُه من سلبيَّات وتخلف، أكثر مما هو متأثر بفترة الحضارة العربية الإسلامية. فنحن لا نعيشُ ذاك الجزء من تُراثَنا الفكريَّ الَخصب، بقدرِ ما نعيشُ جزئه الضارّ "نزاعات", التي كانت ولا تزال، قبَليَّةً بدوية سرعانَ ما تحوَّلَت لدينا إلى نزاعاتٍ مذهبية/ طائفيَّة متواصلة لغايته، سواءٌ على الصعيد العربيّ- العربي أو الإسلامي- الإسلامي، أو على الصعيد العربي- الإسلامي.(27)

الإبداع“ هو المِحور الأساسي الذي يدورحولَه أي تقدُّم. فمراجعةُ التُراث أو إحياؤُه لا يتمُّ بإعادة ”اتِّباعه“، بل بإعادة ”إبداعه“. والانطلاقُ مع مَسيرةِ الحضارة القائمة لن يكونَ بنَقلِ أو استنساخِ نموذجِها كما هو، بل بـ”إبداع“ وسائلَ مُبتكَرة لاستمزاجها بثقافتنا، وتَبْـيِـئـتِها لظروفنا، ثمّ الانطلاق، بعد ذلك، إلى إبداعاتٍ خارقة تتجاوزُ جميعَ المُنجزاتِ الأُخرى. إن الانطواءَ على الذاتِ والانعزالَ عن العالَم والإصرارَ على العودةِ إلى الماضي (اتِّباع)، يشكل رد فعل مباشر للإحباط الذي تعانيه مجتمعاتنا اليوم. ويرتبط بذلك تأثر "العقل المجتمعي العربي الإسلامي"
بالفترةِ المظلمة من تاريخنا االمتواصل منذ أكثر من 700 عام ( منذ سقوط بغداد) بكلِّ ما تتضمَّـنُه من سلبيَّات وتخلف، أكثر مما هو متأثر بفترة الحضارة العربية الإسلامية.(28)

فضح الجابري الخطاب السلفي الذي ما يزال ينوه بـ العقل ويدعو إلى الاحتكام إليه، ولكن أي عقل؟ إنه العقل الذي يرجع في اشتقاقه إلى عقل البعير إذا جمعتَ قوائمه ومُنعت من الحركة, أي من النهوض (الخطاب العربي المعاصرـ ص73). وهنا يذكر الجابري: "أن يحتوينا التراث شيء، وأن نحتوي التراث شيء آخر... إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث؛ القطيعة التي تحولنا من ) كائنات تراثية) إلى ( كائنات لها تراث)، أي إلى شخصيات يشكل التراث أحد مقوماتها. ( نحن والتراث المركز الثقافي العربي/ 1993). وقالها بصراحة أيضا : القارئ العربي مؤطر بتراثه، بمعنى أن التراث يحتويه احتواءً يفقده استقلاله وحريته. لقد تلقى القارىء العربي، ويتلقى تراثه منذ ميلاده ككلمات ومفاهيم، كلغة وتفكير, كحكايات وخرافات وخيال، كطريقة في التعامل مع الأشياء، كأسلوب في التفكير كمعارف وحقائق. ( نحن والتراث ، المرجع السابق ـ ص22). 29)

وقال عن الصحوة: إن النائم الذي ينام ليلته ليصحو في الغد، يستطيع أن يتابع مسيرة حياته كالمعتاد... أما اهل الكهف فلا تكفيهم الصحوة لمتابعة مسيرة الحياة، بل يحتاجون إلى تجديد عقولهم أولا، حتى يستطيعوا أن يروا الحياة الجديدة على حقيقتها ( الدين والدولة وتطبيق الشريعة ـ بيروت ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ طبعة 2004 ـ ص127). وحسب الجابري: المسألة التي لا تقبل إضاعة الوقت, تتمثل في تطوير الوعي, أي نظرة الناس إلي الدين، إلي العالم، إلي الكون، إلي القبيلة، إلي الغنيمة... في هذه المجالات بالضبط يجب الاشتغال ونحن مطالبون هنا بالكثير(30)

من الأمور الأساسية، مسألة تحويل الفكر العلمي إلي ثقافة, أي عدم الاكتفاء باستقاء المعلومات العلمية أو الحضارية وحفظها أو تطبيقها في المعامل والمختبرات، بل التفاعل معها وهضمها وتمثيلها، لتصبح جزءا من شخصية المتعلم/ المثقف، وبالتالي تحويلها إلي جزء من الثقافة السائدة في المجتمع. بيد أن الواقع يدل علي عكس ذلك، أي أن هذا العلم الذي تحمله النخبة لم يتحول إلي ثقافة بعد!.(31)

لقد عالجَ الجابري ونبّه، ربما لأول مرة، ، إلي ما أسمّاه- الفكر كأداة وليس كمضمون- نقد العقل العربي- وهذا تمييز دقيق بين المفهومين. والفكر نابع من العقل الفاعل. وفي رأيه ن كل المعتقدات والممارسات الشعبية الموجودة، لابد أنها كانت في مرحلة سابقة ثقافة عالِمة مؤيدة بأحاديث، موضوعة أو غير موضوعة، مزورة أم لا، هذا غير مهم، لكنها موجودة. كما أنها مؤيدة بتفسيرات تلقي القبول من طرف الناس رغم هشاشتها. فالثقافة العالمة هي المنبع الذي جاء منه كل ذلك. كل ما نراه اليوم في وسائل الإعلام من بكاء ولطم، تجد له أحاديث منسوبة لجعفر الصادق ينسبها لعلي بن أبي طالب. بينما هذا الفكر، سواء لبس لباسا شيعيا أو صوفيا أو سنيا هو، كما بين في بنية العقل العربي ، كله فكر هرمسي. ويضيف "نحن إذن في حاجة إلي الكشف عن الأصول الحقيقية لهذا الفكر. وعندما سنقوم بهذا النوع من الحفر والتنقيب في البنيات الفكرية، سنحقق التغيير المنشود والذي يمس صانعي الثقافة الشعبية ذاتها. إن هذه الثقافة الشعبية, كما تبرز اليوم, هي إيديولوجيا متخلفة لاستغلال الجماهير من طرف السيد، وعندما نقوم بفضح السيد ونكشف بأن سيادته مبنية علي الأوهام التي يؤمن بها هو الآخر، أو يعرف بأنها مزورة هذا لا يهم، فنحن نكشف الأسس التي يراد تركها خفية علي عامة الناس، وهذا يتطلب وقتا طويلا لأن الثقافة الشعبية هي أصعب ما يغير، هي عادات وأعراف لم تخضع للتفكير والنقد. فعندما نحفر عن جذورها ونكشف عنها آنذاك سيصبح التغيير ممكنا. أما أن نهاجمها مباشرة فهذه استراتيجية قد يتولد عنها رد فعل للرأي العام قوامه الرفض والتشكيك.(32)

إنَّ الحضارة الحديثة قائمةٌ على فلسفة، وبالتَالي على علمٍ وتـقـنيَّة؛ فإمَّا أن نفهمَ هذه الفلسفة بدقـَّةٍ من خلال عقلنا الفاعل واخضاعها لمتطـلـَّباتنا، أو نكون قادرين على خَلقِ فلسفةٍ عربيَّةٍ جديدةٍ تنسجمُ مع عصرنا ومُستلزَماته. ولكننا لم نتمكـَّن من القِـيام بأيٍّ من هذَين الأمرَين. يقول حسن حنفي: "لقد تعثــَّرت الفلسفة لدينا لأنَّ البُعدَ الثالث في موقـفـنا الحضاريّ، وهو الموقفُ من الواقع، قد أُزيح جانبًا وأُسقِط من الحساب، فتحوَّلت الفلسفةُ لدينا إلى نقل، نقلٍ عن القدماء، أو نقلٍ عن المُحدَثين، وغابَ التنظيرُ المباشر للواقع."(33)

المجتمع لا يتقدم بالتشبه والتكرار- الآباء والاجداد- بل بالتغيير والتجديد نحو الأفضل..
لا يمكنُ إحياءُ هذه الحضارة، أو إنقاذُها، عن طريق الدعوةِ إلى ما كانت عليه قبل خمسةَ عشرَ قرنًا مضَت، فهذا معناه الرجوع إلى الخلف، وعقاربُ ساعةِ التاريخ لن تعودَ إلى الوراء, فلم يحدثْ في التاريخ أن استعادت حضارةٌ ما مجدَها القديمَ بالعودةِ إلى الماضي. بل أعادت بعضُ الشعوب مجدَ حضارتها من خلال اقتباسِ نهجٍ جديد، مُستفيدةً من الآخر بما توصَّلت إليه الحضارةُ الحديثة من عِلمٍ وتكنولوجيا وفلسفة وفكر، كما حدثََ في اليابان، وكما يحدثُ الآن في بلدان النُّمورِ الآسيويَّة، مثلاً. وهذا ينطبقُ حتى على الحضارة الغربـيَّةِ الحديثة التي لم تُحاول استعادةَ مجدِ حضارتها اليونانيَّة الرومانيَّة كما هي، بل اقتبسَت آخِرَ ما توصَّلَت إليه الحضارةُ العربيَّةُ الإسلاميَّة، واستمزجَتها بالتراثِ اليونانيِّ العريق، خاصَّةً في مرحلتِها الأُولى، ثمَّ انطلقَت نحو ”الإبداع“، في المرحلة الثانية، لتتجاوزَ تُراثـَها وتُراثـَنا، وتصلَ إلى ما وصلَت إليه اليوم.(34)

لقد استطاع الجابري أن ينتبه بـ عقله الفاعل ، ربما للمرة الأولى، إلى أن مفهوم التراث في الوعي العربي لا يعني فقط حاصل الممكنات التي تحققت، بل يعني كذلك حاصل الممكنات التي لم تتحقق وكان يمكن أن تتحقق. إن التراث لا يعني ما كان فحسب ، بل أيضا، ولربما بالدرجة الأولى، ما كان ينبغي أن يكون .( التراث والحداثة ـ 1991ـ ص24). (35)

من الصعب وجود أمّة في عالمنا الحاضر، لها تراث عريق، ذو تاريخ حضاري متميز ومعترف به، أضر بها تراثها، بقدر ما أضر بالأمة العربية، الذي أصبح وبالا عليها. فنحن ننشأ على تمجيد وتعظيم ذلك التراث منذ نعومة أظفارنا: في البيت وفي المدرسة وفي وسائط الإعلام وفي كتب التاريخ والأناشيد :( بغداد يا بلد الرشيد ومنارة المجد التليد..). هذا التأكيد على التراث والاعتزاز بالأمجاد العظيمة والحضارة الغابرة، وفضل الحضارة العربية الإسلامية على الحضارة الغربية، لم يؤدِ إلى ما كان المقصود منه: شحذ الهمم وحشد الطاقات، وبعث القدرات الكامنة في أذهان ونفوس الشعب العربي، بل أدى إلى عكس ذلك تماما. فقد أسفرت هذه العملية، التي ما برحت مستمرة ومتزايدة، عن ركود وهمود, بل زيادة التخلف، بسبب مقاومة التغيير والتطوير، واجترار الماضي والتقوت على فتاته، والاتكاء على منجزاته وأمجاده، في حين يتحدانا الحاضر والمستقبل، وكما قال جمال الدين الأفغاني" العربي يعجب بماضيه وأسلافه، وهو في أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله".(36)

ذلك لأننا نظرنا وننظر إلى تاريخنا لا باعتباره نقاط انطلاق، بل خطوط انتهاء. فقد ظلت نظرة العربي خاصة والمسلم عامة، إلى تاريخه، نظرة أحادية الجانب، أي باعتباره نهاية وليس بداية، تنتظر من يرفعها إلى بدايات أخرى جديدة أفضل. أي أننا اعتبرنا السلف في إنجازاته وسلوكه هو القدوة والأمل والمثل الأعلى, بل ونهاية التاريخ. أما نحن اليوم فظلال ومسخ لذلك السلف، أي صورة مشوهة له. وتصورنا أنه لن يمكننا أن ننقذ هذه الأمة إلا بالعودة إلى الأصول، إلى الماضي نستعيده ونحيـيه من تحت أكوام التراب والركام. بينما لم ندرك أن للتاريخ صيرورة وللزمن سيرورة وللظروف أحكام، يجب أن تتغير بتغيرها، وأن تتطور بتطورها. لذلك فمن العبث محاولة إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف.(37)

بل يذهب الجابري إلى أبعد كثيرا من ذلك، حين يشير إلى أننا لا نزال نعيش العصر الجاهلي في ثقافتنا الحاضرة، فيقول:" هناك، إذن، أشياء كثيرة لم تتغير في الثقافة العربية منذ الجاهلية إلى اليوم تشكل في مجموعها ثوابت هذه الثقافة وتؤسس بالتالي بنية العقل الذي ينتمي إليها." (38)


ويقول حسن حنفي إن:"التراث مازال حيا في قلوب الناس. يؤثر فيهم سلبا وإيجابا. يلجأون إليه في وقت الأزمات. ويحتمون به إذا اشتدت بهم عوائد الدهر. يسمعونه في أجهزة الإعلام وفي المساجد ويتربون عليه في المدارس وفي الأسر. مطلق يضع لهم معايير السلوك، ويحدد لهم تصوراتهم للعالم، بل إنه أكثر حضورا من الحاضر نفسه، لأنه حضور معنوي وفعلي، ذهني ومادي، عقلي وحسي . . . والتراث ليس تراثا دينيا وحسب، بل يتداخل فيه الديني والشعبي، المقدس والدنيوي،. . . الكل يكون مخزونا نفسيا في اللاشعور التاريخي للأمة وفي ذاكرتها الجماعية".(39)

إن تمجيد التراث وتعظيم السلف، أديا إلى عكس المطلوب: نكوص وتخلف وبالتالي إلى كوارث. ويذهب جورج طرابيشي إلى أبعد من ذلك، فيعتبر أن التراث أصبح يشكل عصابا جماعيا. وهو يتفق في تعريف العصاب مع فيليب ريـيف، الذي يقول" العصاب هو عجز الإنسان عن الإفلات من قبضة الماضي ومن عبء تاريخه". ومع فرويد، الذي يرى أن"العصابي يشيح عن الواقع لأنه يجده لا يطاق بتمامه أو في بعض أجزائه."(40)

ربما أن أحد الأسباب الأساسية لاهتمامنا المفرط بالتراث والحرص على حفظه واستذكاره وتكراره، إلى جانب فشلنا في تمحيصه ونقده، ووضعه في مكانه المناسب من التاريخ الماضي والحاضر، يرجع، على الأرجح، إلى ارتباطه بالمقدس، أو بالأحرى بالنص الديني، والعقيدة الإسلامية. فحينما حدثت الصدمة الأولى مع الغرب أو مع الحداثة، شعر العرب والمسلمون عامة، ورجال الدين خاصة، الذين كانوا يمثلون الطبقة المتعلمة أو المثقفة الوحيدة تقريبا، في مطلع القرن التاسع عشر، بالخطر الذي يهدد عقيدتهم أو هويتهم، بسبب هذه المفاهيم الجديدة الوافدة من "الآخر". لذلك انقسمت هذه الفئة الحريصة على العقيدة إلى قسمين. الفئة الأولى رفضت الحداثة وكل ما يتعلق بالغرب عامة، بحجة صيانة العقيدة أو حمايتها، أو بالأحرى للمحافظة على نفوذها ومصالحها كطبقة لها مكانتها وامتيازاتها. والفئة الثانية تمثل فريقا متميزا من رجال الدين الذين نظروا إلى المسألة نظرة اكثر موضوعية وواقعية وتجردا. ومنهم مثلا شيخ الأزهر في زمن الحملة الفرنسية، الشيخ حسن العطار(1776-1835م)، الذي قال "إن بلادنا لابد أن تتغير، وتتجدد بها من العلوم ما ليس فيها". وتلميذه رفاعة الطهطاوي (1801-1873م)، الذي حثّ على اكتساب العلوم والمعارف من"الإفرنج"، محذرا من "غفلة عوام المسلمين من مغبة معارضة مشروع التغيير بحجة عدم جواز الاقتداء بما تفعله الأمة الإفرنجية، إذ الواجب مجاراة الجار، ولو كان إفرنجيا غير مسلم، في كل ما هو مظنة لتقدمه، فذلك شرط الاستعداد الواجب شرعا لمواجهته ومقاومته." وموقف الشيخ محمد عبده المعتدل من الحداثة، الأمر الذي أدى إلى تعرضه لهجمات المحافظين، وكذلك موقف الأفغاني المؤيد للحداثة في آخر حياته. كما ظهرت مجموعة من الكتاب العلمانيين الذين دعوا إلى التجديد أو التحديث)41)

لقد أصبحنا حداثيين مستهلكين غير منتجين، بعد أن أمعنا في استخدام منتجات الحداثة، دون أن يكون لنا أي دور في صنعها، الأمر الذي ضاعف تبعيتنا للآخر. ومع ذلك مازلنا، منذ قرابة قرنين، نتنابز ونكابر ونتشاجر على التفاضل بين التراث والحداثة، ونتزايد على شعارات أصبحت فارغة، بحكم التطورات الحديثة. وخلال ذلك الوقت الثمين الضائع، قطع الآخر أشواطا هائلة في سلم التطور والتقدم خاصة في المجالين العلمي والتقاني، فتضاعفت الفجوة الحضارية بين الوطن العربي وبين الآخر، من عشرات إلى آلاف المرات. وهكذا تضاعفت تبعية الأمة العربية له بنفس القدر. فأصبحت أراضيها منهوبة، ومواردها مستنزفة، وثقافتها مخترقة، وعقيدتها مهددة، أكثر من أي وقت مضى.(42)

وإذا عدنا إلى الحضارة العربية الإسلامية، في عصرها اللامع، فإننا سنلاحظ أنها ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه من تقدم وازدهار، لولا انفتاحها على الحضارات الأخرى، بما فيها اليونانية والبيزنطية والفارسية والهندية والصينية. والحديث يقول "اطلبوا العلم ولو في الصين" ويقول"خذوا الحكمة من أي وعاء خرجت". وينسب إلى الإمام عليّ قوله: "الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق".(43)

والسطور التالية مستقاة بإيجاز من دراسة واقعية ميدانية, تعكس دور العقل المجتمعي في مسألتين بالغتا الأهمية: القتل غسلاً للعار.. و.. النظرة الدونية للمرأة في المجتمع العربي- الإسلامي.(44)

تشكل ظاهرة "القتل غسلا للعار" المعروفة والمألوفة في العراق وفي البلدان العربية، تقريبا، مثالاً صارخاً عن مدى سلطة "العقل المجتمعي" على الأفراد والجماعات، وعلى حكم القانون، بصرف النظر عن ضررها المباشر وغير المباشر. ورغم بشاعة هذه الجريمة التي ذهب ضحيتها آلاف الفتيات البريئات لمجرد الشبهة، في الغالب، فإن العقل المجتمعي يكاد يرفع منفذيها إلى مصاف الأبطال في ذلك المجتمع، ولاسيما في الأوساط الريفية والمناطق الفقيرة, بخاصة وأن القانون الجنائي العراقي كان يعاقب مرتكبها بالسجن البسيط لفترة تتراوح بين ستة أشهر وثلاث سنوات. وخلال بحثه المستمر عن أبعاد هذه الظاهرة، علم كاتب المقالة من أحد ضباط الشرطة، أن الجاني كان يسلم نفسه عادة، وهو يحمل السكين التي تقطر دماً، فيستقبل بحفاوة من جانب أفراد مركز الشرطة، أو من السجانين، باعتباره قام بواجب "مقدس". لذلك قام بزيارة بعض المسجونين بهذه الجريمة، وكان يعرف أحدهم شخصيا منذ طفولته، حيث كان يلعب معه وأخته "الضحية" في الشارع. قال له القاتل، بكل فخر وكبرياء، "قتلتها"، وكأنه أرضى ضميره، ويتوقع منه أن يحترمه. وعندما ذكر له صاحب المقال أن عمله هذا مخالف للشريعة الإسلامية، تميز غيظاً وكاد أن يضربه، لولا حماية ضابط السجن. ثم عرّفه الضابط على سجين آخر، نال قسطاً من التعليم. فلاحظ مدى عذابه النفسي وشعوره العنيف بالذنب، منذ اللحظات الأولى من المقابلة. سأله: لماذا فعلتها إذاً ؟ قال ما معناه: "إنه المجتمع الذي دفعني إلى ذلك، وإلا فسأكون محتقراً ومنبوذاً، وعرضة للتهكم والعار الدائم، أنا وجميع أفراد أسرتي. كما أن أبي وأمي دفعاني إلى ذلك باعتباري مسؤولاً- الأخ الأكبر. ومع كل ذلك فقد طُلقت اُختي من زوجها، لأن سُمْعته قد تلوثت، بسبب العار الذي لحق بسمعة أسرتها، سواء حقا أو باطلا".

يستنتج كاتب المقال, بحق، من هذه الواقعة عدة أمور مهمة، منها(45)

1- السلطة التي تتمتع بها قيّم "العقل المجتمعي"الفاعلة، تشكل قوة طاغية لدى الجماعة والفرد. فهي تغسل دماغ الفرد العادي فيمتثل لهم، بشكل لاشعوري، لا باعتبارها موجبات يفرضها ذلك المجتمع، بل باعتبارها إرادته الخاصة، واختياره الحر. خاصة إذا كان اتباع تلك القيم، تكسبه احترام وتقدير أفراد المجتمع، الخاضعين لنفس قيم "العقل المجتمعي". وهذا التحليل ينطبق على حالة السجين الأول.

2- أما حالة السجين الثاني ، فإن سلطة ذلك "العقل المجتمعي" الطاغية تنطبق عليه بشكل أكثر جلاء وقسوة. فمع أنه استطاع أن يحكـّم "عقله الفاعل"، فيكتشف أن ما يأمر به "العقل المجتمعي" المستبد، هو أمر غير مناسب، بل خاطئ، وضار، إلا أنه قرر، بعد معاناة نفسية وعقلية عنيفة، أن يخضع لأوامره مكرها، فيرتكب تلك الجريمة، للأسباب المبينة أعلاه.

3- تتجاوز بعض هذه القيم الدين والشرائع المعروفة، بل تتعارض معها. فهذه الجريمة التي اقترفها الأخ، بسبب الشبهة وكلام الناس، مثلا، مخالفة تماما للشريعة الإسلامية. ومعروف أن جريمة الزنا تتطلب شرعا أربعة شهود مباشرين. ولها عقوبة خاصة يوقعها أولو الأمر.
4- تنحدر بعض قيم "العقل المجتمعي" من عصور قديمة، مثل هذه القيمة التي قد تعود إلى العصر الجاهلي.
5- يسكت رجال الدين غالبا عن مثل هذه القيم ويتسامحون معها لأنهم خاضعون لسلطة "العقل المجتمعي" المتغلبة والسائدة، شأنهم شأن الآخرين. وقد سأل كاتب المقال مرة أحد رجال الدين في كربلاء عن ظاهرة ضرب الجسد وتعذيبه،"، في ذكرى واقعة كربلاء بمناسبة شهر محرّم، بما فيه من لطم الخدود والصدور وضرب النحور والظهور بالأيادي والسلاسل، و"التطبير"( أي تجريح الجباه بالسيوف، فتسيل الدماء ويفارق بعضهم الوعي أو الحياة)، وسكوتهم عن هذه العادة المخالفة لنص الشريعة وروحها، فأجاب بما معناه إنها عادة متوارثة لا يمكن منعها. وهذا مثال آخر على سلطة "العقل المجتمعي" القاهرة. ويمكن تفسير هذه العادة أيضا بمحاولة جلد الذات، نتيجة الشعور بالذنب، والتقصير في القيام بالواجب .
6- يسكت المثقفون والمفكرون، غالبا، عن معالجة أمثال هذه القيم لأنها من قبيل المحرمات، التي تعتبر، هي الأخرى, أي المحرمات, من جملة مكونات "العقل المجتمعي". ومن جهة أخرى، فإن المفكرين أنفسهم، خاضعون لسلطة "العقل المجتمعي"، بشكل لاشعوري، لذلك يتجنبون الخوض فيها، بوعي أو بلا وعي. مثلا: لاحظ الكاتب نفسه أن كاتبا كبيراً وأستاذاً جامعيا معروفا، عاش في أمريكا ودرّس في جامعاتها، لم يتعرض لهذه القيمة المعروفة والمنتشرة على نطاق واسع، في كتابه الهام الموسوم بـ" المجتمع العربي في القرن العشرين"، الذي يتجاوز ألف صفحة. ويعبر العالم النفساني علي زيعور عن هذه القيم بأنها من قبيل "المستور والغرف المظلمة والذي لا يصح شهوده". يضاف إلى ذلك، فإنه ليس مستغرباً مشاهدة عناصر ثقافية من خريجي المعاهد والجامعات يشاركون بهذه المناسبات..
7- تشكل هذه القيمة، في "العقل المجتمعي" السائد لدينا، بالإضافة إلى قيم أخرى كثيرة، مظهرا من مظاهر وضع المرأة في مركز أدنى من الرجل. فللرجل، مثلا، الحق في مجتمعنا أن يمارس الجنس بدون قيد تقريبا، قبل الزواج وبعد الزواج، أحيانا، وفي معظم الأوساط،. ولا توجد أية عقوبة تقع على الرجل يفرضها المجتمع أو القانون، من جراء ذلك. ومع أن هذا الحق مخالف تماما للشريعة طبعا، غير أن الرجل الذي يمارسه، كان يعتبر، في مجتمعنا العراقي، الذي نشأت فيه، "سَبـِعْ"، أي أسداً. وهي كلمة تعبر عن الجرأة والشطارة والحذاقة والفحولة، وكلها قيم يحترمها العامة والخاصة، أي أنها تشكل جزءا من "العقل المجتمعي" السائد.
8- ظلت نظرة "العقل المجتمعي" للمرأة دونية، كما كانت في الجاهلية:" وإذا بشّر أحدهم بالأنثى "ظلّ وجهه مسودا وهو كظيم". وهذا الأمر لا يزال سائدا في مجتمعاتنا. فالحالات المعروفة كثيرة جداً، تصل إلى حد أن والدة كاتب المقال نفسه كانت تصرح أنها تذهب لمواساة المرأة التي تلد أنثى، ولتهنئة الأخرى التي تلد الذكر. هناك حالات كثيرة معروفة ضَرَبَ الزوج فيها الأم لأنها ولدت أنثى أخرى، أو طلقها. كما وصلت إلى حد أن بعض الآباء الذين يبلّغون بجنس الوليد قبل الولادة، كما هو معروف اليوم، يقدمون على دفع الزوجة، طوعا أو كرها، إلى الإجهاض، في حالة العلم بأن الوليد سيكون أنثى، كما علم الكاتب نفسه من إحدى الطبيبات العراقيات مؤخراً، لذلك أصبحت تمتنع عن إبلاغ الزوجين بجنس الوليد. وقد أكد تقرير الأمم المتحدة الأخير على أن من أهم أسباب تخلف العرب هو وضع المرأة في المجتمع العربي.

وعلينا أن نكون أكثر صراحة في هذا الأمر، بأن الدين الإسلامي أخذ الكثير من القيم الجاهلية، ومنها وضع المرأة في مرتبة أدنى من الرجل, بما فرض عليها من شروط مجحفة في حياتها مقارنة بالرجل ، بضمنها الميراث: وللذكر مثل حظ الأنثيين!

والخلاصة، هناك عشرات بل ربما مئات من هذه القيم المشابهة التي تكمن في "العقل المجتمعي" وتشكل جزءاً مهما من التراث العربي الإسلامي. وقد انتقلت هذه القيم إلينا من عصور أو فترات تاريخية قديمة- قبل وبعد الإسلام. وهنا يقول الجابري: التراث يتجسد في "كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي".(46)

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.