في بؤس الفلسفة صاغ ماركس , على أساس موجز عن التاريخ السابق للرأسمالية , أول نظرية للبحث : أن البنية الاقتصادية للرأسمالية تنتج نزاعا طبقيا غير قابل للتسوية بين الطبقة العاملة و البرجوازية بحيث أنه على الطبقة العاملة أن تحله بقيادة الصراع الطبقي ضد البرجوازية , حتى يتم تأسيس المجتمع غير الطبقي . يمكن للمرء أن يقول أن ماركس في فلسفة البؤس قد صاغ مشروعه الاقتصادي للبحث .

هل تكفي هذه المقولة الثورية للوقف عندها أكثر من عقدين من الزمن لتكون المبرر الأساسي لبقاء الماركسية أسيرة فهم أعتمد أولا على محركين العلم والحركة فيما بقيت الأفكار تتحرر من خلفيات التكوين وضغوط البقاء صادمة لتتماهى مع كل التبدلات الكونية على أساس أن الزمن ليس محلا للحركة فقط وأثبات الوجود بل ولتبرير أحقية الوجود أيضا .

ماركس في هذه المقولة فتح الباب على مصراعيه للعقل البشري أن يفترض أن أبواب التحرر الفكري لا يمكن أن تنحصر في شكلية واحدة وفي نمط واحد من الكونية , إنه بذلك حرر الإنسان من شعوره بالخضوع لمنطق الممكن والواقع , جدلية الراع ومفهوم التاريخ وشروط المادية لا تمنحنا عذرا أن نقف عند بوابة ماركس هذه بل لا بد لنا من البحث عما هو أمام وأبعد من هذه البوابة الجديدة .

الصراع الطبقي وجه من أوجه متعددة لصراع الإنسان حتى يبقى وليس حتى يتحرك البقاء قيمة أولية للحركة ولكن ما بعد القاء هي العلة الأكبر التي يجب أن تدرك جيدا من قبل الماركسي خصوصا والفكر الإنساني عموما , محرك التأريخ يشهد أن تعدد الصراعات وإن كانت تكلف الوجود الإنساني إلا أنها تحصيل للكيفية التي يقرر الإنسان فيها كيف يكون ,وما هي الوجهة القادمة وإلا عد التمسك فيها لمجرد أنها موجودة نوع من العبث العقلي .

الصراع الطبقي وفق للمقولة غير قابل للتسوية وهذا ما لم يثبته لا ماركس ولا الماركسيين ولا حتى من يدرس الصراع كقيمة مجردة لأن أصل فكرة الصراع هو التنازع على محل بقصد الغلبة والاحتواء فلا بد لنا من فهم أولا حقيقة التناقض بين طرفي الصراع ومسارات وخطوط ومجريات حركة الصراع وأرتباط ذلك بالعلل والأساسيات التي أدت وراكمت وصنعت هذا الصراع ومن ثم البحث عن الجذور التي قد تحمل بذور لصراعات أخرى .

ماركس في المقولة هذه يحدد وجها من أوجه التاريخ صحيح أنه وجه له وزن مؤثر لكنه أيضا مرتبط باستحكامات أسباب النزاع لها مصادر ذاتية ولها مصادر موضوعية بلورت هذا الصراع وأظهرته للعلن بالكيفية التي شرحها ماركس (نضال المجتمع ضد الطبيعة، من حيث هو نضال المتناقضات) ,فالصراع متجدد ومتنوع ومتغير حدوثي وافتراضي فهو مستمر سيال لا يتوقف ولا يتمحور حول كيفية محددة ولا شكلية معتمدة على أنها السر الكامن والنموذج الذي لا يمكن تجاوزه أو التجاوز عليه .

هذه المقدمة تقود لجملة من النتائج أولها أن لا شيء يمكن عده نقطة نهاية يصل لها الفكر وتتجمد عندها المعرفة وخلاصتها الفلسفة وبالتالي الادعاء بأن الماركسية هي نهاية الفلسفة والصورة النهائية لتصورات الحل في الصراع المادي والتاريخي(الأسُس النظرية الجذرية للماركسية–اللينينية غير قابلة للمراجعة) ,هذا الموقف يعاكس الكثير من الاصوات المتجددة داخل الفكر الماركسي والتي تؤكد على حركية الفكر بتسابق جدي مع الزمن لا الوقوف أمام مفهوم جامد ونحن نتكلم عن صراع وعن جدل وعن حركة لا بد لها أن تستجيب للمتغيرات الفكرية التي نشأت في ظلها ونتيجة لها , إنها الخطيئة الكبرى كما يقول عطية مسوح رافضا هذه الفكرة (فحين اعتُبِرَتْ نظريةً كفَّتْ عن التطور. الماركسية منهج معرفي، على غرار المناهج الأخرى، وهو باعتقادي أكثرها صحَّة لأنه منهج مادي جدلي تاريخي.) .

من العلم وشروطه أن لا ننظر لكل حركة في الوجود على أنها حدث منفصل من مستوجبات اللحظة ونتاجها , لكل حادث جذور منها من تنبت بجذور عميقة تمتد لمسافات بعيدة في أرض الواقع ومنها من له جذر يمثل شعرة أرتباط بالواقع , لا يمكنني أن أقر بعبثية هذا الكون المنتظم وأقطع بما يخالف الدليل والتجربة الحسية لأدعي العلم والعلمية.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.