“وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغا”

لكي يكون السياسي ناجعا يجب أن يكون خطيبا ولكي تكون الخطابة فنا مرموقا يلزم أن يتم التعويل عليها من قبل السياسي قصد اقناع الناس واستمالة السامعين والتأثير عليهم. ان هذه المعادلة هي التي تحكم العلاقة بين الخطابة والسياسة بحيث لا يخلو الفعل السياسي من توظيف لفن الخطابة ولا تخول صناعة الخطابة من تدخل في الشأن العام وتأثير في مجرى الأحداث وتغيير في مواقف الناس وتوجيههم نحو جملة من المقاصد والأغراض. لكن ما المقصود بالخطابة؟ وماهي عناصرها وآلياتها؟ والى ماذا تهدف؟ وهل الخطابة من الصناعات المحمودة أم من المنهي عنها وينطبق عليها ما انطبق على السفسطة؟

ان المعنى اللغوي للخطابة قد ذكره ابن المنظور في لسان العرب وتعني الخطاب والمخاطبة ومراجعة الكلام وتشبه الرسالة التي لها أول وآخر وهي فن وتجربة وخبرة ومرانة وملكة وتفيد الكلام المنثور المسجع ، أما المعنى الاصطلاحي فيدل على مجموع القوانين التي يقتدر بها الخطيب على الاقناع الممكن في أي موضوع يراد وذاك بحمل السامع على بوجاهة المقول وصحة الرأي وصواب الفعل أو الترك.

تتكون الخطابة من خمسة عناصر هي الصناعة والخطيب والجمهور والخطاب والأثر الذي يحدثه في النفوس من اثارة العواطف وتنبيه الشعور. وتعنى الخطابة فن مشافهة الجمهور واستمالته وإقناعه. وبعبارة أخرى هي فن مخاطبة الجماهير بطريقة إلقائية تشتمل على الإقناع والإستمالة. وتعني أيضا القدرة التكلم مع الناس بما يفي الغرض المطلوب. وعند أرسطو هي القوة القادرة على الاقناع.

الخطيب الجيد هو العالم والصادق والمؤمن بما يقول والمعد الجيد لخطابه والذي يمتلك مهارة لغوية والقادرة على رسالة واضحة إلى المستمعين والواثق من نفسه والمراعي لأحوال المستمعين والمستمع الجيد لهم والمتفهم لما يعانونه ويحرص على مطابقة الكلام لمقتضيات الأحوال والمتفنن في الدعاية قصد التأثير على الجماهير. ولعل أهم الأسئلة الملقاة في الخطابة هي: يخاطب من؟ ومن هم الجمهور؟ وكيف يخاطب؟ وهل من أدوات مخصوصة؟ وماهو غرضه؟ وماذا يهدف؟ هل المصلحة أم السلطة؟

وتعني صناعة الخطابة بصناعة الجدل وتهتم بالمناظرة والإرشاد والتعليم وسائر الأقاويل في الأمور الجزئية مثل الشكاية والاعتذار وتختلف عن البرهان في كونها يستعملها الإنسان مع غيره من أجل التأثير عليه وإقناعه بينما البرهان يستعمله الإنسان مع نفسه من أجل تنظيم أفكاره وتماسك الاستدلال.

إن الخطابة هي فن إيصال فكرة أو خبر إلى مجموعة من الناس على نحو مؤثر ومقنع وبالتالي يكون المقصد الخطيب الأول والأخير هو الإقناع والتأثير في السامعين من أجل استمالتهم وتحفيزهم. وقد ارتبط تاريخ العرب بالخطابة والحماسة واستعملت في تحشيد الناس للتوجه نحو المعارك والاستماتة في الدفاع عن الأوطان وكان الغرض منها الترغيب والترهيب والضغط على الأعداء وتخويفهم وكسب الأصدقاء.

” وللخطابة منفعتان: إحداهما إن بها يحث المدنيين على الأعمال الفاضلة وذلك أن الناس بالطبع يميلون إلى ضد الأفعال العادلة…والمنفعة الثانية أنه ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يستعمل معه البرهان في الأشياء النظرية التي يراد منها اعتقادها…فإذا سلك به نحو الأشياء التي نشأ عليها سهل اقناعه…لهذا قد نضطر إلى أن نجعل التصديق بالمقدمات المشتركة بيننا وبين المخاطب.”

غاية المراد أن الخطابة تبحث عن الإقناع في جميع الأشياء لكونها “قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحدة من الأشياء المفردة” بل إن الأمر يصل بها إلى أن تثبت الشيء وضده كما في المرافعات القضائية فيمكنها الإقناع في المتضادين جميعا بما في ذلك الخصم والحكم والمذنب والمحامي على الحق.

من هذا المنطلق وجب أن يكون السياسي خطيبا وأن يكون الخطيب سياسيا وذلك فقد يجب أن يكون للخطيب أصول وقوانين يعرف بها الأشياء النافعة في الغايات وهي العواقب… والنافعات” . ولذلك تلجئ الخطابة إلى التمثيل والسرد والمحادثة والتخييل وتقريب الحقائق من الأفهام من جل الإقناع والتأثير، “ويجب للخطيب أبدا متى أتى بالنتائج من أمثال هذه المقدمات أن يرفدها بالمثالات المأخوذة من الناس الذي فعلوا تلك الأفاعيل فلحقهم النفع أو الضرر.”

إن السياسي يحتاج الخطابة في كل عصر من أجل تبليغ رسائله الى شعبه وإقناعهم والتأثير فيهم وحفزهم على البذل والعطاء والعمل على تنمية المجتمع والامتثال للقوانين وتحقيق واجب الطاعة له. لكن ألا يمكن أن تتغلف الخطابة بالايديولوجيا وتحرض على العنف السياسي والكراهية بين الأمم؟ وألا تتحول الى أداة للممارسة الديماغوجيا والبروباغاندا الحزبية؟ وألا تكون سببا لصعود الأنظمة الشمولية وبروز الطغاة؟

المرجع:

ابن رشد، تلخيص الخطابة. نسخة محملة.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.