“العدالة الاجتماعية شرط الحرية وشرط انسجام الإرادة الخاصة مع الإرادة العامة”
 
الديمقراطية السياسية تبقى ناقصة بدون ديمقراطية اجتماعية. الأولى تهتم بمصدر السيادة والسلطة وحقوق المواطن السياسية ومساهمته في الانتخابات وتشكيل الأحزاب وإبداء الرأي ونشره… أما الثانية، والتي لها أولوية على الديمقراطية السياسية، فتهتم بتحسين أوضاع المواطن المادية، عن طريق مبدأ العدالة الاجتماعية من حيث توزيع خيرات البلد على كل المواطنين لأن للمواطن حق شرعي بنصيب عادل منها. فالمساواة بين الأفراد في المجتمعات المنظمة تستند بشكل أساسي على هذه العدالة الاجتماعية. فأفراد الشعب المنبوذين والفقراء وقليلي الثقافة، لا يمكن أن يساهموا بشكل جدي في الحياة السياسية التي تتطلب معرفة بأمور الدولة وتسييرها وأمور السلطة ومداخلاتها. أولويات هؤلاء الناس هي لقمة العيش وليست السياسة.


الحقوق الاجتماعية ضرورية لاعتبار الإنسان غاية في ذاته يجب احترامه ومساعدته على العيش الكريم. لأن هدف التنمية والتقدم في الدولة هو حرية المواطن ورفاهيته. الديمقراطية الاجتماعية تسهل مشاركة المواطنين في العمل السياسي بشكل فعّال لأنها تسد حاجاتهم المادية وتعيد لهم اعتبارهم وكرامتهم وبهذا يصبح للديمقراطية بشطريها معنى واقعيا ومتكاملا. الديمقراطية الواقعية أقل تواضعا من تعريفها التقليدي. تعرّف أولا بالحرية، حرية الشعب بكل فئاته. ليس فقط حرية الاغنياء وأصحاب الامتيازات ولكن حرية كل مكونات الشعب. هذه الحرية تفترض مستوى معين من العيش الكريم والدخل المعقول ومستوى من التربية والتعليم ومساواة اجتماعية.

في حال تأخر الديمقراطية الاجتماعية، من الضروري رغم ذلك تحريك الديمقراطية السياسية ، لأن أي توعية سياسية، ولو كانت في حدود ضيقة، تساعد الناس على معرفة مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية. فإشراك الناس في العمل السياسي يحرك كثيرا من طاقات كامنة فيهم للمطالبة بمجتمع أكثر عدالة.

السلطة الاقتصادية في الدول الديمقراطية الرأسمالية وخاصة في الدول النامية، تلعب دورا سلبيا  جدا في تطوير الديمقراطية الاجتماعية. لأن هدف الرأسمالية يتناقض أصلا مع هدف العدالة الاجتماعية. هدف الرأسمالية هو الربح الجشع بكافة الوسائل والحصول على امتيازات طبقية تعلو بكثير على حقوق بقية المواطنين. هذه الامتيازات تعطي الرأسماليين سلطة غير شرعية للتدخل في أمور الدولة وتوجيه سياساتها عن طريق الضغوط الاقتصادية والمالية والسياسية والثقافية والإعلامية  لمصالحها الخاصة دون أي اعتبار لمصلحة البلاد  والمواطنين في الحاضر والمستقبل من حيث التنمية الاقتصادية السليمة لاستغلال خيرات البلاد وتوظيفها بشكل عادل وعقلاني. الانهيار الهائل في الاقتصاد العالمي في نهاية 2008 أكبر برهان على متاهات  وبلطجة الرأسمالية. الانهيار الأخير، الذي يذكرنا  بانهيار 1929سيعود دوريا إن لم تتغير فلسفة الليبرالية الجديدة التي دشّنها الرئيس ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية تاتشر في الثمانينات من القرن العشرين.

أسباب الانهيار الاقتصادي العالمي يعود الى خلق مجتمع اقتصادي ومالي مؤسس على المضاربة بلا حدود  بعيدا كل البعد عن الاقتصاد الحقيقي والواقعي. هذه المزايدات في سعر السلع لا يمكن أن تتصاعد هرميا بشكل مستمر، سوف تحصل ازمة اقتصادية يذهب ضحيتها بشكل أساسي الناس العاديين الذين دخلوا في لعبة المضاربات وزيادة مداخيل وهمية  على الورق،  يمكن أن تنهار في أي لحظة. لقد شجعتهم ودفعتهم إليها المؤسسات المالية التي قدمت القروض السهلة لتشجيع الناس على الاستهلاك  وشراء البيوت مثلا ثم بيعها ثانية وثالثة… إلى أن ينفجر  “البالون” الاصطناعي، لأن البعد صار كبيرا جدا بين السعر الواقعي للأشياء والسعر الذي وصلت إليه هذه المزايدات. أما الادّخار، الذي هو الاحتياطي الأساسي لحماية الناس من الأزمات الحياتية، لم تشجعه المؤسسات المالية ولا حتى الدولة. الفوائد المعروضة على المدخرين ضئيلة  غير مشجعة على الادخار. بواسطة الدعاية الدائمة تم غسل دماغ الناس على الاستهلاك بلا وعي .

للخروج من هذه الازمة الاقتصادية، أخذت الدول بتقديم آلاف المليارات من الدولارات لدعم البنوك والشركات. أما ملايين الناس الذي أضاعوا ” اقتصادياتهم” في هذه “الطوشة” العالمية فلقد تركوا ليدبروا “رأسهم” !

أظهر تقرير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، الصادر في 30 نيسان 2014، أن:  

 %1 من أكبر أغنياء الولايات المتحدة يملكون نسبة 47 % من الدخل العام، في كندا 37%، في بريطانيا وأستراليا 20%، في البلاد الاسكندنافيةوفرنسا وإيطاليا وإسبانيا حول ال 10%

وإن 10%، من أكثر أغنياء الولايات الأمريكية يحصلون على 80% من نمو الدخل، وفي كندا النسبة 66%

وفي بريطانيا وأستراليا 50 %

كل هذا يبين لنا لماذا اغلبية السكان لا يرون أنفسهم مشاركين في التنمية الاقتصادية.

هذا الغنى الفاحش والمتزايد يعود الى ظاهرة العولمة، الى التكنولوجيات الجديدة، الى الدخل الهائل لأرباب الأعمال دون محاسبة. تزامن هذا الوضع مع النمو والتأثير الهائل للقطاع المالي في الدول الانكلوفونية. والتحول التدريجي في تحديد الضرائب. في سنة 1981 كانت النسبة الضرائبية المفروضة على أموال القسم العالي من أصحاب الدخل المرتفع هي 66%

أما في سنة 2008 فقد انخفضت النسبة الى 41%.

منذ الصدمة المالية سنة 2008، رفعت 21 دولة من أصل 34، بعض الشيء سقف الضرائب لكبار الأغنياء في مجموعة “منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية”. مقابل 3 دول خفضت الضرائب عنهمم

 سوف تتعمق الهوٌّة بين الأغنياء والفقراء ان لم توضع خطة سياسية متناسقة. “على الأغنياء دفع الضرائب المستحقة بشكل أكثر عدلا”. هذه الكلمة هي للسكرتير العام للمنظمة المذكورة.

تضاؤل العدالة الاجتماعية- ليس شيئا طبيعيا وحتمياـ نتج عنه عوامل سلبية متعددة منها : ضعف الصحة العامة، تزايد الاجرام، ضعف النجاح المدرسي، عدم الرضى عن الذات، ضعف الشعور بالسعادة، تخلل التضامن الاجتماعي، عدم الثقة بالحياة الديمقراطية، ضعف النمو الاقتصادي عند هذه الطبقة من الناس المحرومين.

من الضروري وضع مشروع اجتماعي حيث الأعمال تتناسب مع مؤهلات الناس وتكفي حاجاتهم المعيشية. وحيث الضرائب تتناسب بشكل تصاعدي مع دخل الافراد. هذه الضرائب هي أساس تحقيق اختياراتنا الاجتماعية.

لا يكفي التبجح بالحريات العامة والمساواة أمام القانون إن لم ترفق بتحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطنين ليصبح لهذه المساواة والحرية معنا واقعيا.

من كتاب أسس وركائز وتطبيق الديمقراطية

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.