يرتبط حماس الداعشي للموت بما حدث في أواخر القرن الماضي؛ ذلك أن جيلا وُلد ونشأ وترعرع في ظل سيطرة فكرة الجهاد على الفضاء المجتمعي العام في العالم الإسلامي. قرأ هذا الجيل وسمع عن كرامات الشهداء، وورث عن جيل مجاهدي أفغانستان تجربة الجهاد في العمل السياسي.


كان الجهاد والدعوة إليه مشهدا يوميا في المجتمعات الإسلامية إلى حد أن المدارس عجّت بما يدعو إليه. وتبين سيرة أحد المجاهدين يُدعى محمد الزهراني كيف أنه ومجموعة من الطلاب في مدرسة تقع شرق السعودية سافروا إلى أفغانستان تحت إشراف أحد المعلمين.


لقد كان المجتمعات الإسلامية ترقص رقصة الجهاد. فقد أخذ أحد الآباء بيد ابنه بعد خطبة جهادية وتقدم به إلى الشيخ عبد الله عزام؛ ليصحبه معه إلى الجهاد؛ بالرغم من أنه متزوج وأنجب طفلين، وأن أما تكتب إلى ابنها المجاهد لكي تشجعه على الجهاد، وترفع روحه المعنوية.


استمد الجيل الناشئ تصوراته عن فكرة الجهاد من قادة الجهاد الأفغان العرب، ومن التأويلات المتطرفة لآيات الجهاد وأحاديثه، إلى حد وصل إلى أن من يقتل نفسه عدوانا وظلما وجزاء النار الموعود به يقابله من يقتل نفسه إيمانا واحتسابا وجزاؤه الجنة، وهي دعوة صريحة إلى العمليات الاستشهادية. وقد شكل “مذهب” عبد الله عزام في الجهاد تحولا “مذهبيا” في تاريخ الفكر الديني الإسلامي المتطرف. الخلاصة أن الجهاد الأفغاني أفرز خطابا وعالما خياليا ورمزيا صاغ النشاط الإسلامي العسكري في التسعينات، واستمر يصوغه إلى أن ولد الداعشي من رحم هذا الخطاب.


بعد انتهاء الحرب في أفغانستان انتبه أسامة بن لادن إلى أن أعلى التضامن الإنساني يوجد عند الرجال المنعزلين البائسين؛ أعني المجاهدين الذين عادوا إلى أوطانهم فلم تستوعبهم . ووجدها فرصة لكي يخلصوا لأفكاره، فغيّر اتجاه التفكير في الجهاد، مفردا الجهاد ضد أمريكا وحلفائها.


ولن تبدو خطورة هذه الفكرة إلا حين نعرف أن المجاهدين الأوائل في أفغانستان حين ذهبوا ليجاهدوا هناك؛ فإنهم ذهبوا يجاهدون ليس كرها في الآخرين الذين لا ينتمون إلى الأمة الإسلامية، إنما جاهدوا تضامنا مع ضحايا القمع المسلمين، وتضامنا مع معاناتهم الإنسانية.


كشف أسامة بن لادن في مقاطع مسجلة ومصورة أنه على دراية جيدة بالتاريخ النفعي للجهاد، وإذا ما استعملت قصيدة اعتبرها أحد النقاد صالحة لأن تتحدث عن الوضع الخاص والطموح والإغراء الذي يكمن في كون المرء أمريكيا ( عدوه ) فإن القصيدة يمكن أن تنطبق على الجهادي الذي يتصوره أسامة بن لادن : إنني أقود سيارتي المفخّخة عبر الشارع والا أهتم البتة. الناس يحملقون، ويسألون من أكون أنا. فإذا ما فجرت وغدا، يمكن أن أكون مجاهدا لأعوض عما لحق من الأذى مهما كان. جميل جدا أن أكون مجاهدا.. هي هو.. جميل جدا أن أكون مجاهدا.


في أحد المقاطع المرئية يقترح على الملتحقين بأحد معسكراته التدريبية أن يحدثوا أنفسهم عن العمليات الاستشهادية قائلا: “حدثوا أنفسكم عن العمليات الاستشهادية. حدثوها كثيرا.حدث نفسك. بقدر ما يزيد عندنا من الشباب أصحاب العمليات الاستشهادية بقدر ما يقترب النصر”.


إن المحيّر في المسألة هو ما الذي دعا ابن لادن إلى عدم انتباهه إلى خلافه مع فكرة الإسلام عن الجهاد؟ وما يحير أكثر هو ما الذي جعله يصر على فكرته عن الجهاد التي قوبلت بالرفض من أغلب العلماء. وأكثر من ذلك الدعم الغريب للعمليات الاستشهادية. ومع أني لست واثقا من التفسير، لكنني أرتاب في أن السبب العميق وراء هذا هو “المتعة الفاحشة” المقبولة اجتماعيا.


لقد عرّف إيجلتون المأساة بأنها نسخة عن المتعة الفاحشة، لكنها مقبولة اجتماعيا وأرستقراطيا. ومع بعض التعديل المناسب لهذا التعريف ليناسب موضوعي فإن متعة تفجير الإرهابي جسده أو تفجير الآخرين أو تدمير الممتلكات، ومشاهدة أوصال الجثث المقطعة هي قطعا مأساة، لكنها مأساة مقبولة عند المتطرفين، وعند من يتعاطف معهم ، ومن هذا المنظور فالتفجير الإرهابي هو بمعنى ما كالمأساة؛ أي أنه شكل يمتلك عند المتطرفين الدينيين عمقا أخلاقيا وروعة عظيمة.


لقد اعتقد أسامة بن لادن أن حل مشكلة هزائم المسلمين المتراكمة منذ زمن بعيد يكمن في الاستشهاديين الذين اعتبرهم طلائع المجتمع المسلم، وتجسيدا لوعد الله في نصر الطائفة المؤمنة. ومع هذا كان عليه أن يتيح في خطاباته المسموعة والمرئية مساحة للدفاع عما اعتبره مصالح المسلمين، وقد كان هذا كافيا لإعطاء تنظيم القاعدة قواعد صلبة في المجتمعات الإسلامية .


بذل أسامة بن لادن جهدا لكي يجد نظاما حاكما حليفا من الأنظمة العربية الإسلامية كما فعل في السودان، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على أي حليف إلا في تنظيم يشبه تنظيمه الإرهابي هو حركة طالبان، التي تعاونت معه تعاونا مشروطا وهو أن يكون ضيفا لا أكثر ولا أقل.


وبعكس ما يبدو في الظاهر لم يكن خطاب أسامة بن لادن متماسكا؛ إنما هو خليط من ثلاثة أفكار متناقضة: الأولى هي وجود عصر ذهبي ساد في البداية وهو عصر الرسول والخلافة الراشدة، والهدف النهائي من هذه الفكرة هو أن يقدم نظرية واحدة لوصف التاريخ بأنه في تدهور .


أما الفكرة الثانية فهي صعود الإمبراطوريات وسقوطها، وتظهر هذه الفكرة حين يتحدث عن أمريكا. والهدف من هذه الفكرة هو حين يُعْرف كيف يتحرك التاريخ فمن المكن أن يُتنبأ بما يحدث. يثبت التاريخ أن إمبراطوريات صعدت وسقطت، لذلك صعدت أمريكا وستسقط.


تنقض الفكرة الثانية الفكرة الأولى؛ وفق الفكرة الأولى بنى المسلمون إمبراطورية عظيمة، ووفق الفكرة الثانية فقد صعدت إمبراطورية المسلمين ثم سقطت. هنا تأتي الفكرة الثالثة وهي فكرة العود الأبدي ( التاريخ يعيد نفسه ) وهي فكرة فلسفية مفترضة أكثر مما هي تاريخية.


من المؤكد أن فكرة أن التاريخ يعيد نفسه هي الفكرة الأكثر جدية من بين الأفكار المتعلقة بتصور حركة التاريخ في المجتمعات الإسلامية، وقد قبلت هذا الفكرة استنادا إلى شحن إيديولوجي أن حاضر الأمة ومستقبلها لن يصلحا إلا بما صلح به أولها. ومما يجدر ذكره هنا وله علاقة بموضوعي أن بن لادن بدأ خطابه متحمّسا يحركه طاقة شعرية واضحة، ثم أضحى خطابه بعد الحادي عشر من سبتمبر وبشكل تدريجي خطاب معلّم ومشرّع. ومن المؤسف أن الجمع الغفير من الجيل التالي لجيل أفغانستان الذي درس الإسلام دراسة أكاديمية لم ينقد هذه الفكرة إنما عزّزها، ولن أقول جديدا هنا لو قلت: إننا وصلنا إلى منعطف خطير جدا كان مردوده كارثيا وهداما.


تمثّل هذا المنعطف في تحدّي المرجعية الدينية؛ فالمتطرفون ليسوا علماء إنما “فنيو عبادات” إذا ما استخدمت مصطلحا لماكس فيبر؛ تحدّوا التفكير الديني الذي يجرم إلقاء النفس في التّهلكة، ودعوا إليه. ثم تلا ذلك تحررهم المسلكي المتجسد في الدعوة إلى العمليات الاستشهادية.


من دون أن أتوقف عند نمو أفكار أسامة بن لادن المتطرفة؛ سألفت النظر إلى أن ثمة تغيّرا جوهريا اعترى التنظيمات المتطرفة بعد موته، وهو تغيّر لم يُلْحظ بعد بما يكفي. وأبرز ما يشير إلى هذا التغيّر هو الحرب الدائرة الآن في العراق وسوريا. وهي حرب لها أهميتها في التاريخ الراهن لأنها الحرب الأولى المنظمة التي تشنها تنظيمات إرهابية ضد أنظمة لا يمكن أن تُنكر عربيتها.


من هذه الزاوية لم يعد العدو شيوعيا سوفيتيا كما كان في أفغانستان، ولا إمبرياليا أمريكيا كما كان بعد خروج السوفيت؛ إنما هو عدو عربي إسلامي ابتعد كثيرا أو اقترب من فكرة الدين الإسلامي. وإذا كانت الشيوعية والإمبريالية مبرّران لحروب الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ( القرن العشرون ) فإن المتحاربين الآن في العراق والشام لا يقدمون تبريرا معقولا لكل المذابح التي تجري هناك؛ فالثورة لا تبرر الحرب الأهلية الجارية، والدين لا يبرر الإرهاب.


كان المتطرفون الإسلاميون في أواخر القرن الماضي ( القرن العشرين ) مستعدين للموت من أجل هدف واحد هو الإسلام ( القاعدة ) أما الآن فإن المتطرفين مستعدون للموت من أجل هدف آخر هو الأمة الإسلامية ( داعش ) والخلافة هي أثر متبق مما هو جليل وسامٍ من الأمة في عالم موحش تسيطر فيه الأنظمة الملَكية والجمهورية والرئاسية التي لا تمت في نظرهم إلى الإسلام بصلة.


ما معنى أمة؟ بروح انثربولوجية يعرف بنيديكت أندرسون الأمة بأنها “جماعة سياسية متخيّلة، حيث يشمل التخيّل أنها محدّدة وسيّدة أصلا”. حين يقول أندرسون جماعة؛ فلأن الأمة تُتخيّل على الدوام في شكل علاقة رُفقة، وأن يقول متخيّلة فلأن أفراد الأمة لا ولن يعرفوا أفراد الأمة كلهم، وما يوجد هو فقط صورة ذهنية حية لتشاركهم في ذهن كل فرد من أفراد الأمة.


إن الفرد في الأمة ليس في حاجة أن يرى أفراد الأمة كلهم، لكن في إمكانه أن يتوصل إلى استدلالات منطقية؛ فالمسألة فيما يتعلق بأفراد الأمة ليست في رؤيتهم كلهم ، إنما في رؤية ما يكفي منهم لكي يميز الفرد ما يبدو مألوفا في الأمة عما لا يبدو كذلك. وحين تكون الأمة محدّدة فلأن لكل أمة حدودا قصوى نهائية، فما من أمة تتخيّل أن حدودها تشمل البشرية جمعاء. أما كون الأمة سيدة فذلك يعني أنها تحلم بأن تكون حرة، وأن تكون في رعاية الله مباشرة.


وفق هذا التحليل للتعريف يبدو لي أن مفهوم الأمة يمكن أن يكون مفهوما تحليليا لفكرة الدولة الإسلامية في العراق والشام ( داعش )؛ فالجماعة من حيث هي علاقة رفاقية هي ما مكّن آلافا من البشر من مختلف أنحاء العالم للالتحاق بالدولة، وقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن ثلاثة عشر ألفا من خمسين بلدا التحقوا بين عامي ( 2011-2014 ) بالدولة الإسلامية في العراق والشام. كما أن تقديرات الأمم المتحدة تتعدى هذه الأرقام وتذهب إلى أن هناك خمسة عشر ألف مقاتل من ثمانين دولة. وما يفسر هذا العدد الهائل من المقاتلين ومن الجنسيات هو علاقة الرفقة المتخيّلة بين أفراد الأمة الإسلامية المنتمين إلى عرقيات مختلفة من شرق العالم ومن غربه.


وإذا ما كان لي أن أتابع هذا التحليل الذي يتخذ من مفهوم الأمة مفهوما تحليليا فإن الأمة من حيث كونها جماعة متخيلة محدّدة، هي ما يفسّر الخارطة التي نشرتها الدولة الإسلامية في العراق والشام ؛ فهذه الدولة تتخيل حدود الأمة، وهي بطبيعة الحال حدود نهائية تنتهي حيث تبدأ حدود أمم أخرى، ذلك أن الأمة لا تتخيل حدودها على أنها حدود البشرية جمعاء.


تشير الخارطة التي نُشرت إلى الحدود الجغرافية للأمة الإسلامية كما يتخيلها تنظيم الدولة الإسلامية. وما يثير الانتباه هو أن حدودها هو حدود الأمة الإسلامية القديمة قبل التقسيم إلى دول قومية حديثة، وأن هناك عملية ترتيب جديدة؛ حيث محيت الحدود التي أقيمت، وأعيد تركيب الدول القومية وأعيد إلي الأقاليم التسمية القديمة؛ أعني ولاية بدلا من دولة. وتبعا لتعريف الأمة من حيث أن تخيّلها يستدعي أن تكون أمه حرّة؛ فإن الحرية عند داعش لا تعني الضد من الاستبداد؛ إنما تعني الضد من الطاعة؛ فحيث تكون هناك حرية يجب أن تكون هناك طاعة.


لقد جعلت اللغة العربية المقدسة الأمة الإسلامية قابلة للتخيّل؛ ذلك أن اللغة العربية المقدسة تخلق من خلال كلماتها جماعة، وعلم داعش يمثل هذه الفكرة أحسن تمثيل. فهو رمز لهذه اللغة العربية بشكلها التراثي. صحيح أن هناك داعشيّيين لا يتكلمون العربية؛ لأنهم جاؤوا من بلاد لا تتكلم العربية، ومع ذلك فهم يدركون ما يعنيه علم داعش بخطه التراثي المقدّس.


كيف يتفاهم هؤلاء؟ باللغة العربية الأكثر موتا؛ أعني باللغة العربية التي لا تستخدم في مجالات الحياة اليومية، ووفق تحليل أندرسون أنه كلما قل استخدام اللغة في الكلام اليومي كان أفضل حيث يكون لكل واحد منفذ إلى عالم من الكلمات نقي وخالص؛ لذلك لا يمكن أن تكون لغة كهذه إلا لغة مقدّسة مرتبطة بنظام قوة فوق أرضي، وفي حالة الدولة الإسلامية في العراق والشام فإن اللغة العربية الفصحى هي اللغة المقدسة لأنها لغة القرآن الكريم.


وإذا ما وظفت مع بعض التعديل تحليل أندرسون للجذور الثقافية للقومية لتحلّل الجذور الثقافية لتنظيم الدولة الإسلامية، فإن عربية القرآن الكريم هي التي جعلت الأمة الإسلامية قابلة للتخيّل. وإذا كان هذا صحيحا من جانب؛ إلا أن ما وصل إليه تنظيم داعش لا يمكن أن يفسر بالنص المقدس ولغته؛ ذلك أن قراء القرآن في هذا التنظيم يقتصر على العرب وقلة من غيرهم، وقد حتّم هذا الوضع أن تكون اللغة الدينية المنتشرة خالية من المفاهيم والمصطلحات .


يخرج من يستمع إلى التسجيلات المرئية أو المسموعة لهؤلاء بنتيجة مهمة وهي أن من يتحدث ليس عالما في الدين إنما خبير به. وهناك فرق بين العالم والخبير؛ ففي حين تقتصر لغة العالم على التنظير؛ أعني على المفاهيم والمصطلحات، تكون لغة الخبير إجرائية تتعلق بما يُفْعل.


ما يلفت النظر أكثر هو انتساب البغدادي إلى قريش، ويمكن أن نتفهم هذا الانتساب في ضوء أن داعش من حيث هي جماعة أمة متخيلة لها جذر ثقافي آخر هو الخلافة التي تستمد شرعيتها من السماء. ومن يتابع خطابات التنظيم بعد تنصيب أبي بكر البغدادي خليفة يلحظ أن الذين بايعوه إنما بايعوه لأنهم لا يتصورون أنفسهم يعيشون في نظام ملكي أو رئاسي أو جمهوري.


لقد شهدت الشرعية التي كانت تحظى بها الخلافة انهيارا بطيئا إلى أن أُلْغيت عام 1924. لكن وبالرغم من إلغائها إلا أننا يمكن أن نعدد ثلاثة تنظيمات عالمية دعت إلى إعادة نظام الخلافة الإسلامي وهي جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير وتنظيم القاعدة. وهناك أيضا تسعة تنظيمات محلية هي جماعة العدل والإحسان ( المغرب ) وتنظيم دولة الخلافة ( تركيا ) ومجلس الخلافة ( بنغلاديش ) وتنظيم الحوثي ( اليمن ) وحركة حماس ( فلسطين ) وتنظيم الجهاد ( فلسطين ) وحركة الشريعة المحمدية ( باكستان ) وأنصار الشريعة ( لندن ) وتبدو أهمية هذه التنظيمات أن أتبعاها يشكلون المدد الأساسي للمقاتلين من أجل الخلافة والمتعاطفين معها.


هكذا إذن فإن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام لم يكن ليكون جماعة متخيّلة إلا بعد أن فقد تصوران ثقافيان جوهريان سطوتهما البديهية على عقول الناس وهما اللغة العربية القديمة المقدسة والخلافة الإسلامية. وحين يعاد هذان فذلك يعني بشكل مجمل أن الأمة خالدة، وغير قابلة للانقسام وتستحق التضحية. هي أرضية الوجود لأن وجودها مرتبط بإيمان جماعي. وأن الأمة حين توجد بالإيمان فإنها هي الأمل السياسي، وهي في الوقت ذاته ميدانا للعمل الأخوي.

هناك سؤال يلح علي وهو: إذا كان هناك تنظيم الآن تحول إلى دولة تشغل مكانا واسعا من العراق وسوريا فما الفرق بين هذه الوطن وبين أوطان الدواعش الأصلية؟ لكي أجيب سأستحضر برهان إميل بينفينيست على القول الشائع “المنزل ليس البيت”؛ حين فرق بين الجذور اللغوية لمفهومي البيت باعتباره العائلة؛ أي باعتباره وحدة اجتماعية شعورية، وبين البيت باعتباره مبنى ( منزل ).


انطلاقا من هذا التفريق؛ اقترح أحد الباحثين الاجتماعيين تعريفا لعملية إنشاء موطن باعتبارها “بناء الشعور بالوجود في ألفة حميمية البيت” وكما هو البيت في هذا التعريف المقترح مُنْشأٌ شعوريٌ يمكن أن تكون كذلك دولة الخلافة حيث تكون وطنا؛ “صرحا شعوريا مبنيا من لبنات شعورية... ولكي يتم تشييد هذا البناء الشعوري بنجاح، يجب أن تُبنى بلبنات شعورية تؤمن، إما بحد ذاتها أو بالاشتراك مع لبنات أخرى، أربعة أحاسيس رئيسية: الأمان والألفة والجماعة وشعور بالإمكانية والأمل، وهي الأحاسيس التي يتعين على عملية إنشاء موطن أن تعزّزها وتصل بها إلى حدها الأقصى؛ وأن تجمعها لتشكّل منها بنية شعورية تحمل مقومات الحياة”.


هناك إمكانات كامنة في تحليل غسان الحاج الممتع لفكرة طبيعة البيت ومعنى بناء الموطن تعبّر عن نفسها حين أوظّفها بشكل مختلف وفي مكان مختلف يتمثل في معنى بناء وطن هي الدولة الإسلامية في العراق والشام ومغادرة الأوطان الأصلية؛ ذلك أن أوطان الدواعش الأصلية لا تعطيهم القوة اللازمة ليرضوا حاجاتهم فيقصون الآخرين المهددين لهم، ولا تمنحهم بلدانهم الشعور بهذه القوة، بينما تعطيهم هذا كله دولة الخلافة في العراق والشام فيشعرون بأنها بيتهم.


يتولد إحساس الدواعش بالألفة في دولة الخلافة( بيتهم ) لأنهم يستطيعون أن يوظفوا فيه استعداداتهم الجسدية إلى الحد الأقصى. يشعرون بأنهم يمتلكون ما يدعوه بورديو الهبيتوس؛ فالهابيتوس “يرمي من وراء بناء موطن إلى خلق فضاء يستطيع فيه ممارسة استعداداته الإستراتيجية إلى الحد الأقصى. ويتضمن ذلك خلق فضاء يمتلك فيه المرء دراية عمليّة قصوى: أي معرفة وجود مكانه دون أي تفكير، ومعرفة إلى أين يجب أن يتوجه لتحقيق أهداف معينة. وينطوي هذا على إمكانية التحكم المكانية والعملية التي تتضمن بداهة الإحساس بالأمان”.


ينعش تنظير الحاج أفكارا أخرى تتعلق بالإحساس بالجماعة؛ وهي أفكار يمكن أن تنطبق على الداعشي في وطنه ( دولة الخلافة )؛ فما حوله ينتمي إليه، ويشعر أنه ينتمي إليهم. يشعر بالرموز المشتركة، وبالقيم المشتركة. وهناك ما هو أكثر حيث الفضاء مفتوح للأمل.


وإذا كنا ما نزال نرغب في الحديث عن فكرة الخلافة ودولتها؛ فحري بنا أن نعود إلى الربع الأول من القرن العشرين، لنبدأ من الحماس القومي الذي دفع كمال أتاتورك إلى أن يلغي الخلافة الإسلامية في عام 1924، وأثر ذلك في الفكر الإسلامي على الأقل منذ تحليل القاضي الأزهري علي عبد الرازق الذي بدأ به حقبة جديدة من النقاش عام 1925؛ أي بعد عام من إلغاء الخلافة، وبصفة أساسية رؤيته في عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام؛ فقد تُرك هذا الأمر للمسلمين لكي يختاروا شكل دولهم، على أن تلتزم بتحقيق مصالح الشريعة الإسلامية الكلية.


يحتاج تفصيل ردود الفعل على هذين الحدثين وتحليلها إلى كتاب وليس إلى فقرة موجزة ، بيد أن الصيغة الأقصر التي تهم موضوعي لرد فعل الجماعات الدينية بمختلف توجهاتها هي كما يلي: الخلافة فريضة عظيمة، أجمعت عليها الأمة، واتفق عليها الأئمة. ولم لتكن الخلافة لتغيب لو أن المسلمين لم يتخلوا عن دينهم، وعن التمسك بالقرآن الكريم والسنة النبوية.

لم يتحقق شيء منذ 1924؛ يتعلق بإعادة الخلافة؛ فكل شيء يذبل وهو ما يزال برعما، حتى صعد أبو بكر البغدادي منبر المسجد الجامع الكبير في الموصل ( 4 يونيو 2014 ) ثاني أكبر مدينة من مدن العراق؛ ليستعيد ما بدا أنه قد فُقد إلى الأبد، وفي الواقع فإن اختياره مدينة الموصل يدل على أنه استوعب الطبيعة التاريخية لتاريخ العراق المميّز على مستوى حقبة الإسلام التاريخية .


صحيح أن ذلك اليوم هو الجمعة، والخطبة خطبة جمعة، لكن المجمل كله بدا كما لو كان حفل تتويج ( طقسا ورمزا ) فكل شيء مشحون بالرموز والأصداء التي تشير إلى عالم من الماضي، لا يعكّر عتاقة الموقف إلا المرْوحة التي علقت خلف الخليفة، وساعة الرولكس التي في يده اليسرى.


قبل ذلك اليوم ظهر الدواعش في الموصل كما لو كانوا رُحّلا؛ أولئك الذين قال عنهم نيتشة: يحلون كالقدر. وقال عنهم كافكا: يستحيل فهم كيفية وجودهم في العاصمة ذاتها. ومع ذلك فإنهم هناك. ويبدو أن في كل صباح يكثر عددهم. وهم الرحّل الذين قال عنهم دولوز أنهم هم الذين اخترعوا آلة الحرب، وأن تنظيم الحرب من ابتكارهم لأنهم لا يتوفرون على جهاز دولة.


آنذاك كانت الموصل مقبرة منبوشة، لكن ما إن صعد الخليفة منبر الجامع إلا وصدحت لغة الماضي، استرجع فيها البغدادي لغة الخلافة الأمر الذي يدفعنا إلى أن نقول إنها خطبة الخلافة في القرن الواحد والعشرين، استند فيها إلى القرآن الكريم والسنة النبوية. كل هذا شيء عادي في مناسبة كهذه، لكن الملفت للنظر هو استشهاده بأول خطبة للخليفة الأول (أبو بكر الصديق ).


إن كنيتهما واحدة. ينقل الثاني عن الأول “أيها الناس، إني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويٌ عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل اللّه إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم” . وهكذا لا يوجد هنا شيء اسمه المصادفة؛ إنما يوجد هنا شيء اسمه المحاكاة؛ حيث تستأنف الخلافة من حيث هي نظام حكم رشيد إسلامي بمحاكاة الخلافة الراشدة الأولى في تاريخ المسلمين.


لقد ارتبط مشروع الخلافة في خطبة البغدادي بالماضي، وناهض الحاضر. غير أن الحاضر المدمّر سيكون هو القوة الملهمة لخلافته ما إن توضع إزاء ماضي الخلافة الإسلامية. وهكذا لن تستأنف خلافة أبي بكر ( البغدادي ) إلا من غياب مفهوم الخلافة التي بدأها أبو بكر ( الصديق ). وتركيز البغدادي على أن الخلافة من حيث هي شكل الحكم هي ما يجعل من الإسلام عمليا ووجدانيا.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.