هل يوجد في الوجود من (أو ما) يستطيع أن يكتفي بذاته؟

مثل هذا السؤال مناقض لنفسه إلى حد العدم، لأن مجرد وجود كيان أو شخص أو شيء داخل (أو ضمن) الوجود الكوني هو في حد ذاته نفي لصفة الاكتفاء الذاتي عن مثل هذا الكيان أو الشخص أو الشيء، الذي يتحول بالضرورة بمجرد وجوده ضمن المحيط الكوني إلى كيان أو شخص أو شيء ذو علاقة من نوع أو آخر تربطه بهذا الكون.

هنا يجب التمييز بين نوعين من الاكتفاء الذاتي، المطلق والنسبي. فالاكتفاء الذاتي المطلق يقتضي من الموصوف به أياً ما كان أن يكون قادراً بالمطلق على الاكتفاء بذاته، بذاته فقط مع عدم وجود أياً ما كان آخر لكي يتصل به في علاقة أياً ما كانت. هذا المكتفي بذاته المطلق لابد أن يكون موجوداً في عدم، لأن مجرد وجوده ضمن وجود محيط أياً ما كان سوف تترتب عليه بالضرورة قيام علاقة أياً ما كانت بينه وبين ذلك الوجود المحيط، ما يجرده من صفة المكتفي بذاته المطلق. وفرضية الوجود في عدم غير متصورة. فكيف يوجد وجود في عدم؟!

قصة أن إلهاً يتربع كرسييه (مكان)، يخلق الخلق في أيام (زمان) معدودات ولو بألاف السنين البشرية ثم يسير شؤونه، تصبح محض هراء. إذ بمجرد تربع هذا الإله المتصور علياء الكون أينما كان أصبح بالضرورة موجود أياً ما كان شكل وجوده داخل هذا الكون، ومن ثم لم يعد مكتفياً بذاته بالمطلق عن هذا الكون. كذلك وجود الإله ضمن الوجود الكوني يجعله بالضرورة في علاقة ما أياً ما كانت مع هذا الوجود.

أن يخلق الله الكون وهو بداخل الكون، هذا محض هراء؛ لكن حتى لو افترضنا صدق هذا الهراء، فبمجرد أن يخلق الله الكون لا بد أن تنشأ بينه وبين هذا الكون المخلوق بالضرورة علاقة ما أياً ما كانت، الأمر الذي يجرد الله في جميع الأحوال من صفقة الاكتفاء الذاتي المطلق، ومن ثم القدرة على الخلق والربوبية من الأصل. فإذا افترضنا كما تقول القصة أن الله مكتفي بذاته بالمطلق عن الخلق وعن البشرية، وأنه خلقهم فقط للامتحان أو الابتلاء أو حتى للهو بهم، فإن حقيقة الوجود المتزامن لهذا الإله الخالق وهؤلاء البشر المخلوقين داخل الوجود (الفضاء) المكاني والزماني ذاته، علاوة على إمكانية قيام اتصال بين الطرفين، تجعل هذه الفرضية مستحيلة منطقياً.

المكتفي بذاته المطلق لا يمكن أن يوجد فيما سواه بالمطلق، أو لابد أن يكون هو والعدم سواء؛ فمجرد وجوده ضمن فضاء كوني أياً ما كان يجرده من الاكتفاء الذاتي المطلق ويحوله إلى علاقة تبادلية (تكاملية) من نوع أو آخر بهذا الفضاء؛ وبمجرد أن يخلق الله البشر تنشأ بينه وبينهم بالضرورة علاقة من نوع أو آخر، وبمقدار هذه العلاقة يفرط بالضرورة من فضاء اكتفائه الذاتي المطلق.

الاكتفاء الذاتي المطلق لا يمكن أن يسع أكثر من نفسه. فلو كان الله حقاً حقيقة مكتفية ذاتياً بالمطلق، مستغنية عن كل ما سواها بالمطلق، لما وجد بالمطلق سوى الله، من دون كون ومن ودون خلق أياً ما كان

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.