الإنسان شيء لابدّ من تجاوزه، لعلّ هذه العبارة هي العبارة الأكثر ترديداً عند نيتشه وهي الفكرة المركزية في فلسفته، وهذا ما جعله يتطلع إلى تلك المفاهيم التي تعبّر عن الفلسفة الإنسانية، لكن بأدوات وآليات ميّزته عن سلفه وخلفه ممن تعاطوا مع الإنسان وفلسفته، وإنّ أهمّ ما ميّز نيتشه هو رفض التعاطي بالإنسان ومعه على قاعدة القيم والأخلاق التقليدية، بل تجاوز ذلك إلى إبداع مصفوفة أخلاقية خاصة به (النيتشويه)، فالإنسان الذي لا بدّ من تجاوزه هو إنسان القيم البالية، إنسان الميتافيزيقية واللاعقلانيّة، وعلى هذا الأساس استندت فلسفته على “قلب القيم”، وهذا قطعاً لا يعني إحلال السالب عوضاً عن الموجب أو العكس، بل يعني صراحة ًهدم الأصنام وعقلنة الأخلاق، كي تكون أخلاقاً خارجة ومرتبطة عن هذا الإنسان وبه، وعلى هذا الأساس أسقط نيتشه مفاهيم عديدة من فلسفته بشكل عامّ، وما يخصّ الإنسان والإنسانية بشكل خاصّ، ومن هذه المفاهيم: “الله”، “الروح”، “الفضيلة”، “الحقيقة”، “الماوراء” وغيرها، كي يختزل المفاهيم المحدّدة لهذا الإنسان ذاته.

كيف يصبح المرء (ما هو)؟ بهذا السؤال، أو بهذه الإشكالية إن صحّ التعبير، يبتدئ نيتشه فلسفته حول الإنسان، وبهذه الإشكالية أيضاً يكون قد لامس الجانب الإبداعيّ في فنّ حفظ الذات “فنّ إيثار النفس”، وبالتالي فإنّ الخطر يكمن في تعرّف المرء على نفسه بالنظر إلى تلك المهمّة. أن يصبح المرء(ما هو) يُفترض أن لا يكون لديه أدنى دراية بـ(ما هو)، ومن وجهة النظر هذه تغدو حتى الأعمال غير الصائبة التي تحدث في الحياة ذات معنى وقيمة، وكذلك السبل الجانبية والسبل الخاطئة التي يسلكها المرء لفترة من الزمن، ووقفات التردّد والركون إلى الأوضاع “المتواضعة” والجهود الجديّة التي تنفق في مهمّات مجانية للمهمّة الحقيقية. وهنا تتجلّى حكمة كبرى، بل الحكمة الكبرى، ألا وهي “اعرف نفسك بنفسك”؛ فنسيان الذات وسوء فهم الذات وتحقير الذات (الذات الإنسانية) وأيضاً التحوّل إلى كائن ضيّق الأفق ورديء، تغدو عين الحكمة أمام القفز إلى الماوراء دون معرفة ماهيّة ما تمّ القفز فوقه، وعليه لا يعتبر نيتشه هؤلاء (العظماء) المزعومين،

 والذين ساهموا وما زالوا يساهمون بسنّ الأخلاق والقيم المحددة للإنسان حتى في عداد البشر فيقول: فهم في نظري نفايات البشرية، ونتاج للمرض وغرائز الانتقام، إنهم كائنات فظيعة ومضرّة وغير قابلة في جوهرها للعلاج، غايتها الانتقام من الحياة.

ويطالب نيتشه نفسه بأن يكون نقيضاً لهذا النوع، وأنه رغم (اعتلاله في بعض الأوقات) - حسب تعبيره - إلّا أنّ ذلك أنتج منه كائناً يخلو من الأمراض، وفي هذا يقول: “عبثاً سيحاول أيّ كان أن يستشفّ لديّ أثراً للتعصب، كما لن يعثر المرء لديّ على شيء من هيآت الغرور أو الانتفاخ الحماسي، فالتفخيم الذي ُيضفى على الهيأة لا ينتمي بحال إلى العظمة، ومن كان بحاجة إلى اتّخاذ هيأة ما فهو مزيّف”. فنيتشه لم يعرف في ممارسته للمهمات الصعبة من طريقة أخرى غير اللعب، وبأقلّ تكلّف، وببسمة غير متجهّمة ودون نبرة شديدة في الحلق، وعدّ هذه المظاهر مآخذ ترفع ضدّ الشخص وبصفة أكبر ضد أثره. فالإنسان الحقّ عند نيتشه،

هو ذاك الإنسان الذي لا يدعو إلى العفّة، فالعفّة حسب وصفه: تحريض عمومي معاكس للطبيعة. كما اعتبر تحقير الحياة الجنسيّة وارتباط هذه الحياة بفكرة “الدنس” هي جريمة في حقّ الحياة، وإذا ما اعتُبرت خطيئة من قبل المثاليين، فالخطيئة عند نيتشه هي المثاليّة ذاتها، فالإنسان هو الإنسان الحرّ، والإنسان الحرّ هو من يمتلك عقلاً حرّاً، أي عقلاً محرّراً استعاد تملكه بذاته، ومنه فالإنسان المستقيم هو الإنسان الذي يعي نفسه كنقيض لأكاذيب آلاف من السنين. وليس من اليسير عند نيتشه الوصول لهذه الاستقامة، فمن يرغب بالوصول إليها عليه أن يكون قادراً على رؤية الكذب ككذب، أي عدم الإصرار على عدم الرغبة في الرؤية الكيفية التي يتكوّن عليها الواقع في الأساس، وأن ينظر إلى أوضاع البؤس بجميع أصنافها كاعتراض وكشيء ينبغي إزالته في جميع الأحوال، ومنه أيضاً فالإنسان المبدع عنده هو الإنسان الذي يجب عليه أن يكون أوّلاً إنساناً “مدمّراً” وأن يحطّم القيم“فالشرّ الأعظم هو جزء من الخير الأعظم، لكن ذلك هو الخير المبدع”. والإنسان الأرقى في فلسفة نيتشه هو الإنسان الذي يتمثّل الواقع كما هو، ويمتلك ما يكفي من القوّة لهذا الغرض، “الإنسان الأرقى ليس غريباً عن هذا
الواقع وليس ببعيد عنه، إنه هو ذاته، وهو ما يزال يحمل في داخله كل فظاعاته وإشكالاته، بهذه الكيفية فقط يمكن للإنسان أن يكون ذا عظمة”. والإنسان الأكثر حقارةً هو ذاك الذي لم يعد قادراً على احتقار نفسه، والأحمق هو الذي ما يزال يتعثر في حجر أو بشر،

والإنسان القادر على العطاء هو الإنسان الذي مازال يحمل شيئاً من الفوضى “كي يَلد نجماً راقصاً”.

كما يرى نيتشه أنّ الإيمان ليس كما يُعبّر عنه حاليّاً، أي أنّ المؤمن ليس هو ذاك الإنسان الذي ينتهي به الأمر إلى قناعة أساسية مفادها بأنه لابدّ أن تُملى عليه أوامر من الخارج، وبالمقابل فهو يرى الإيمان على أنهما ذاك التصور وتلك الرغبة بالقدرة على استقلالية القرار، أي حرية إرادة، بموجبها يودّع عقل ما كلّ إيمان وكلّ رغبة في اليقين، ويكون ذاك الإنسان قد امتلك دربه الخاصة في الحفاظ على توازنه، مثل هذا الإنسان - يقول نيتشه – سيكون مؤمناً، حراً ومنعتقاً.

هكذا نظر نيتشه إلى الإنسان، وهكذا عرّفته فلسفته الخاصة، انطلق منه وانتمى إليه انتماءً خاصّاً، انتماءً إنسانياً، متفرّداً، خارجاً بذلك عن القيم والمثل والأخلاق (ما قبل نيتشه)، والتي يحبّذ هو أن يسمّيها بالقيم المنحطّة، فإنسانية فيلسوفنا هذا، إنسانية تكفر بالشفقة وتناهض العواطف التجميلية الكاذبة والمخادعة، وهو بذلك يرفض أن تكون أخلاق الإنسان مستمدّة من الماوراء، وأن يدّعي هذا الإنسان امتلاكه للحقيقة، كما أكّد دائماً على نسبيتها وهذا ما دفعه إلى “تقويض القيم” حيناً و“قلبها” أحياناً أخرى، كما دفعه ذلك إلى إطلاق دعوة “هدم الأصنام” في كل العصور الماضية والمستقبلية.

إنسان نيتشه هو إنسان العقل، إنسان الخير والشر كما يراهما العقل، وتقييم الخير والشّر عليه أن يكون “تقييماً أرضياً وليس فوق – أرضي”، وهو بذلك يضع الإنسان ولأوّل مرّة في تاريخ البشرية، بكلياته وتناقضاته موضعاً انسانياً، ومحيطاً إيّاه بأخلاق جديدة وقيم ومثل إنسانية أرضية، هذه الأخلاق وتلك المثل مشروطة، ليس فقط بتصالحها مع العقل، بل اشترط ان تكون نتاجه أيضاً ونتاج تداعياته الموضوعية، فالإنسان وإذا ما أردنا ان نكثـّفه حسب نيتشه لتوضحت لنا ملامحه بتجلٍ سليم: “هو المحارب الذي يجنّد كلّ قواه وطاقاته الاثباتيّة في الصراع من أجل التطوّر والتجاوز”. وإنّ أصغر الفجوات لأكثرها تعذّراّ على التجاوز.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.