كانت الرجعية العربية ، وما تزال ، احد الاضلاع الاساسية المكّونه لمثلث برمودا منطقة الشرق الاوسط ، مع ضلعيه الاساسيين الاخرين : الامبريالية والصهيونية . مثلث الهيمنه والنهب والحروب .

مثلث قهر شعوب المنطقة والسيطرة على ثرواتها ومصادرة مستقبل ابناءها . وكان دورها ، كعصى عرقلة في عجلة تقدم وحرية واستقلال شعوب المنطقة وحجر عثرة في وجه كل تطلع نحو غد افضل ، معروفا ومّسلما به ، كدور ، لابد منه ، تضطلع به قّوة مناهضة لسيرورة التاريخ ، قوّة ميّته ، مومياء خارج منطق ونبض العصر ، لاتجد لها بقاءا او استمرارا الاّ بالدم ، والظلام . فيهما تعيش ومن خلالهما تتجدد ! لقد ارتهنت الرجعية العربية نفسها ، منذ البداية ، مخلب شر بيد القوى الاستعمارية وحليف معتمد للصهيونية .



 وكانت عواصمها اوكارا للتامر وخطط وصفقات العدوان مثلما كانت اراضيها منطلقات للعدوان ، لكن الفارق بين خمسينات القرن الماضي واليوم هو انها انتقلت من ادوار المواربة والدعم السري وتمويل الثورة المضادة ودفع تكاليف العدوان الاجنبي الى مستوى نوعي جديد ، يتمثل في اللعب على المكشوف والنزول بنفسها الى ميدان المواجهة ، ولهذا الامر ، بالطبع ، دوافعه واستحقاقاته . خلال خمسينات وستينات القرن الماضي ، تصدت الرجعية العربية وفي مقدمتها السعودية ، لثورات مصر والعراق وسوريا واليمن والجزائر وغيرها محاولة دعم واسناد قوى الثورة المضادة ( كما حصل في اليمن والعراق ) او شق قوى الثورة نفسها بدعم الاجنحة اليمينية في معسكرها وصولا الى اثارة الحرب الاهلية( اليمن ، العراق، السودان، لبنان ) او استثمار المصاعب الاقتصادية و اسناد ودعم العدوان الخارجي ( مصر )، وكانت آلية هذا التصدي تتراوح بين تقديم الدعم المالي ، شراء الذمم ، الرشوة ، الضغوط السياسية والدبلوماسية ، لكنها لم تتجرأ، يومذاك ،على اللعب المكشوف لاعتبارات مهمة منها :

 1-ان طبيعة المرحلة كانت مرحلة تحرر وطني والتفاف جماهيري كاسح حول برامج اصلاح اجتماعي وشعارات الوحده القومية والبناء الاشتراكي والاستقلال الوطني وكان العداء للامبريالية والصهيونية على اشّده ،مع افول لقوى وشعارات ودعوات الثورة المضادة ،املت انكماش هذه الانظمة داخل قواقعها ، او التخفيف من فعاليتها المضادة ، على الاقل في العلن ، كنوع من آلية للدفاع بانتظار الفرصة المناسبة .

 2-ان ميزان القوى كان مختلا اختلالا كبيرا لغير صالحها من ناحية القدرة على تعبئة القوى المادية اللازمة للمواجهة ، وكانت تعرف ان بيتها ، بالفعل ، اوهى من بيت العنكبوت ، ولذلك فقد كانت مقتنعه بما يلعبه وكلائها ورجالها ان كانوا قوى واحزاب او قبائل ، او شخصيات دينية و سياسية او جنرالات ، من ادوار ، في ميادينهم الاقليمية وخارج حدودها الوطنية ، كونها ساحات ضعيفة تماما ، خصوصا امارات ومحميات الخليج العربي ،وقد وفرّت لها حرب الخليج الاولى ، والثانية على وجه الخصوص، والدعم والحماية الامريكية والدولية والهيمنه التي فرضت على المنطقة في اثرها ، امكانية المجاهرة ببعض الدور الداعم رغم اعلانها الحياد والسعي الى التسوية بين المتحاربين. .

 3- لم تكن قد طوّرت بعد ايديولوجيا مضادة تملك الحد الادنى من التاثير على وعي الجماهير وقادرة على بلبلة افكارها وشق وحدتها، ولكن مع التدخل في افغانستان ، وجدت افكار الجهاد ضد الشيوعية وتكفير الاخرين والوهابية ، ارضا خصبة ، خصوصا في ظل البلبلة والتراجع الذي منيت به الدعوات والافكار القومية والاشتراكية لاسباب معروفة ، وراحت تطرح نفسها كبديل لمعالجة حالة الاحباط والياس التي عانت منها الجماهير مع ضعف وتدهور الانظمة القومية الحاكمة واستبدادها وفسادها وعجزها عن تقديم حلول حقيقية .


ثم وجدت الوهابية وافكار الاخوان المسلمين ، وما تطور عنها من افكار تطرف وتكفير ، المجال امامها رحبا في مواجهة صعود الثورة الايرانية ، وامكانية طرح نفسها كبديل ، وقطب طائفي مضاد ، محّولة الصراع عن مجراه الحقيقي الى صراع طائفي تتولى هي فيه مهمة الدفاع عن السنه في مواجهة التهديد الشيعي والايراني ! .


 4- لم تكن قد عرفت امكانية الاستثمار في الاعلام ، وتمويل اجهزة ومنظومات اعلامية ، تمتهن التضليل والديماغوجية وتستقطب عبر بذل المال بسخاء وشراء الذمم ، الاقلام والامكانيات ، مما جعلها تمتلك حضورا اعلاميا مؤثرا ، ومنحها بعض القدرة على قلب الحقائق وخلق الغيلان الوهمية وافتعال المعارك الجانبية وبث سموم الفرقة والطائفية، وهيأ لها ، بالتالي ، امكانية ان تجد بعض المقبولية واعطاها بعض الثقة بالنفس، وشجعها على ان تبادر الى الفعل بنفسها .


 5- كانت وما تزال تعّول ، كثيرا ، على سلاح المال في كسب الانظمة المتهالكه على الدعم كالسودان وتلك التي تبحث عن دور كبندقية للايجار كالنظام المصري اوالاردني الذي سبق وان قام بدور مشابه في البحرين ، بل وجرّت الى ساحة الصراع انظمة ودول تهدد بتوسيع رقعة الصراع الى مديات غير معروفة العواقب ، كالمغرب والباكستان . ان انظمة الرجعية الخليجية والسعودية بالذات تجر نفسها والمنطقة الى تطورات غير مأمونه وكوارث محتمله .


 6-وجدت لنفسها ، دورا ” شعبيا ” ، بعد الغزو الامريكي للعراق ، والتدخل الامريكي والغربي في شؤون المنطقة على اوسع نطاق : ليبيا ، سوريا، العراق ، اليمن ، حيث اصبحت عرّابا لبعض القوى الطائفية، وداعما لشكل من اشكال المقاومة يعنى بالانقسام الطائفي اكثر مما يعني بمقاومة الغزاة . ووجدت في الادعاءات الطائفية تعويضا عما تعانيه من نقص على صعيد الايديولوجيا والتعبئة الفكرية.


ثم سرعان ما مكنّتها الساحة السورية بالتنسيق مع تركيا ، الاردن ، قطر ، من تجنيد اذرع مسلحه ومن ترتيب اصطفاف اقليمي يضم الى جانبها ، تركيا اوردغان ومصر والاردن ، المغرب ، اضافة الى عناصر وقوى سياسية في العراق وسوريا واليمن ولبنان ، جميعها تسير في ركب الترتيب الامريكي الاسرائيلي لمصائر المنطقة وشعوبها وتسعى الى انفاذه . •


7-لقد جربت قوى الرجعية العربيه وعلى رأسها السعودية التدخل في البحرين ، وهي تحسب نفسها مع النظام البحريني في خانة الفوز مما شجعها على ان تذهب بعيدا فتقدم على فعل اكبر حجما واقوى تاثيرا ، فتتصدى للتدخل في اليمن على صورته التي شهدناها ، اليوم . وقد نشهد بعض صفحاتها الاكثر دموية لاحقا، خصوصا وان السعودية ومحميات الخليج ، ترى ان اليمن هو باحتها الخلفية ، وان تطورات الاوضاع فيه باتت مهددة ومخيفة لها بالفعل واكثر ، بكثير مما يمكن السكوت عنه .

وانه بات من المبرر بل والمطلوب اندفاعها الى شن عدوان مباشر وواسع النطاق . خصوصا مع ما تأمله من دعم وحماية امريكية وغربية ان تطورت الامور في غير صالحها .



 8- من الممكن ان ما يحصل هو بداية لتفجير صراع طائفي مطلوب ، تم العمل على ايصاله الى هذه الذروة على قدم وساق منذ بضعة سنوات ، كتتمة ضرورية ، وخاتمة سوداء ، لابد منها ، تستنزف شعوب المنطقة في حالة احتراب مهلكة ، لاتبقي ولا تذر . ولن يربح منها الاّ الامبريالية العالمية واسرائيل .


وكنت قد اشرت الى ذلك ، قبل بضعة سنوات ، في مقال بعنوان ” الحرب الطائفية قادمة وشعارها … تحيا اسرائيل !”، ومن الممكن ان يكون هذا العدوان مقدمة للتدخل السافر في ايران وسوريا والعراق من قبل امريكا والحلف الغربي واسرائيل ، التي سوف لن تكتفي بالمباركة والدعم اللوجستي الذي اعلن عنه اوباما بل وستبادر الى شن عدوان مباشر وواسع النطاق .وبحسب مقتضيات الحال الذي لا تراقبه عن كثب فحسب ، بل ومتورطه فيه الى اقصى الحدود .


 9-يخامرني الشك في ان تزامن العدوان السعودي الرجعي على اليمن واالاعلان عن بدء الهجوم على تكريت من قبل القوات العراقية وقوات الحشد الشعبي وعشائر المنطقة ، بعد غموض وتردد اكتنف هذا الهجوم وضغوط داخلية واقليمية مورست ضده ،ليس محض مصادفة وان للاول علاقة لابد منها ليس بتطورات الوضع في العراق بل وفي سوريا ولبنان وعموم المنطقة . 10-من غير المستبعد ، ان يكون هذا العدوان ، وتوسعته المرتقبه ، اشارة الشروع لقوى داخلية ، ستهيء لتلعب دور حصان طروادة في ايران على وجه الخصوص وفي بضعة بلدان اخرى ، كلبنان والعراق .


 ان كل ما تقدم ، قد يكون اغرى السعودية ومحميات الخليج والقوى الرجعية العربية ، بشن حرب ” مضمونه العواقب “، تذكّر بالنزهة التي وعد بها نظام صدام حسين العراقي حينما هاجم ايران .



 فهل يعني ذلك ، ان هذا العدوان ، سيّمر ، دون ان تكون له عقابيله المدمره على السعودية ودول الرجعية العربية مهما قدم لها من ضمانات ؟ اشك في ذلك ، واعتقد ان التورط في المستنقع اليمني سيكون وبالا عليها وعلى دول الخليج ، بالذات ،فاليمن ليست البحرين ، ذات الحراك السلمي في الجوهر ، وعدوان ال سعود ومن يسير في ركابهم ، المباشر ، استقطب على الفور ، الرفض اليمني على اوسع نطاق ، وقد يكون سببا في تطورات جذرية في اليمن ، غير مرغوبة ابدا، من قبل السعودية ناهيك عن ان قوّة الحوثيين واللجان الشعبية والجيش اليمني ليست مما يستهان به ، خصوصا في مواجهة عدوان خارجي ، ورغم التلميحات الى احتمال ان يرافق او يعقب الضربات الجوية عدوان بري ، الا ان شكوكا كبيرة تحيط بامكانية ذلك ، واذا حصل بالفعل ، حتى ولو اعتمد على تجنيد و دعم قوى داخلية ، فسيكون كارثة على السعوديين وثقبا مهلكا يقودون قواتهم اليه.


هذا في اطار بقاء الفعل ورد الفعل في اطار الشأن اليمني ، وهو امر غير ممكن بفعل طبيعة وآليات الصراع الدائر ، اما اذا توسعت الدائرة ، وانتشر اللهيب ، وهو الاحتمال الارجح ، فمن المؤكد ان المنطقة ، برمتها ستُجر الى حد فاصل ستكون فيه ملامحها وطبيعة قواها السائدة بعده ، غير ما كانت عليه ، تماما ، قبله .


ولن يعود بامكان دراكولا الرجعية العودة الى حالة المومياء بانتظار دماء، جديدة ، اخرى !

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.