كيف لي أن أحسم هذه الزلزلة وقد أخرجت أثقالها أو موتاها التي اكتسحت الأرض وانتشرت بسرعة الجراد وقوة النار ولهيب التنين، تراجعت الأسطورة واعتلت منصة حياتي التراجيديا. الأنا الميتة لفرديتي وجماعتي ومجتمعي، المترابطة والمعقدة وذات الخلائط النتنة، انطلقت بشراسة المحتل الدموي تقمع وتصد وتقتل بكل الأساليب الخارقة التي لم يفكر فيها من قبل تاريخي الحيوان الآدمي للمسخ الأسطوري لهويتي. هكذا تنهار وتحترق مدن أعماقي على مرأى ومسمع العالم وأنا عاجز لا أقوى حتى على البكاء. وتتحول جذور حضارتي الممتدة عبر التاريخ الإنساني إلى مجرد أنقاض ذاكرة مرمية في سلة الأخبار الساخرة الغريبة والرتيبة، والمغذية لمتخيل منطق القوة الهمجي القادم من غرب أفول شمسي المنهكة بعنف اقتتال بدو الرحل والترحال في صحاري وواحات أصولية أصولي القبلية والعصبية الطائفية المزدانة بقبب معمار مذاهب العتبات المقدسة لشيوخ وزعماء سياسة الوحل البشري المدنس. أية حمم غبن وإذلال واحتقار وازدراء هذا الذي يتصاعد من أحشاء هويتي لأب مهزوم شلته حروب الذكورة النخرة للاستبداد الشرقي؟


لا وقت للتعجب والسؤال في شأن محرقة البركان الداخلي لأنواتي هذا الذي تنتهجه أناي الميتة، ولا خوف من ضلال الابتكار والإبداع و البدعة واختراق مألوف تصفية أصوات وروح أنواتي، ليس فحسب بمنطق قوة عنف الخيال والرمز، وإشباع صور هوامات العدوان والاقتتال والموت والاعتداء والتنكيل والدم المسفوك للحياة النفسية للعصاب الأسود الدامس القادم من بحر ذاكرة ألم الموت في ظلام مقبرة طفولتي المنتقاة بحد رعب الرهاب، وعنف التسلط، وخوف فناء الحياة، والروحانية الأبوية لعبودية الإيمان الكاذب، بل إنما بقوة نيران الصورة وهي تجتث جوفي الحي، وتقتلع عيوني بخوف موت الأمن والأمان، والإجهاز النهائي ليس فقط على تنوعي واختلافي وتعددي، على تناقضاتي وظلالي وكثرتي، بل أيضا على بصيص الضوء المنبلج في فجر حياتي، أن أعيش إنسانا حرا كريما خلاقا مبدعا عاشقا ﻵخري الذي لا يطابقني في شيء سوى حب الحياة وكره ابتزاز خوف الموت المسلط من عل، أن أحيا بلغة تسعني و هي مأوى وجودي، ولها حد الربط بين القلب ونبضه، بمعجم وقاموس لغوي حي تملؤه جوارحي بمعاني وألغاز الحياة، لا وجود فيه للفظ الخوف ومرادفاته، أو تداعيات ايحاءاته المرهبة للنوع الإنساني، وللكوكب الأزرق المفعم بالحياة وأسرارها السخية الخصبة المعطاء.


 هكذا أجبر تحت وطأة أشباح أنا موتي الجمعي المترسبة في أعماقي كرها لا حبا أو عشقا على رؤية دماء وأشلاء إبادة أنواتي، أو أخرى كمرايا ذاتي في عمقها الداخلي وهي تذبح، من وريد بغداد إلى وريد دمشق، مرورا بكل عيوني من القرى والمدن الأخرى، بيدها كانتحار ذاتي استجابة لنزوة شعور عظمة تسلط أنا موتي بقوة تخطي الاستبداد في عبادة الموت وعشق الظلام إلى الطغيان الملهب لعنفها وعدوانها الداخلي، ولسان حالها التنيني لا تكف نيران سقره على أن تميت بموتها كل شيء حي، وهي تلتهم بحرائقها كل ما تطاله، لفاحة لكل أنواتي الأخرى، لا تبقي ولا تذر. تكره التعدد والكلام والإنصات العميق لإرجاع الأثر، والحوار والأخذ والرد، لذلك لا تهدأ ولا تأخذها سنة ولا نوم. تطوف أنا موتي لأب مهزوم تناثرت قيمه خرقا بالية بفعل رياح عاصفة الغرب العاتية التي فاجأت شرف رجولة نومه الثقيل. مهزومة أناي الموروثة، لكنها تظل تطوف في كل الأرجاء والزوايا العادية والرقمية لذاكرتي الحديثة والموغلة في قدم تعفن عودة الموات الأبدي لماضي جماعتي ومجتمعي، متورطة، وهي المولعة بكوابيس وهلوسات الزمن المؤمن، من حيث لا تدري في لعبة الزمن الكافر المدمن على الصيرورة. همها وركام عبئها الثقيل أن تخرس وتقمع وتغتال كل أصوات الأنواة الأخرى التي تجرأت على الوجود والحضور بحق الكلام.


تتوعدها، وتهددها بلعنة النبذ وبصمة الكفر واستباحة الدم وهدر الروح، لتزج بها في دوامة استعذاب ألم القبر، عاشقة ولهانة في حفلة الموتى، أو مذهولة بخوف الصرع النفسي من متع ولذات وجمال وروعة الإقبال بشراهة على التهام الجمال الأخاذ لطبق الحياة وفنون العيش.

وككل الكائنات الحية عندما وصل الحصار إلى أقصى أنواع إرهابه في حرب أنا الموت الشرس، ليس لإبادة تجليات أنواة حضوري ووجودي في شكل عبودية لا ترحم، بل بالفناء النهائي لجوهري الإنساني، أدركت بأنه لم يعد هناك خيار للهرب والاختباء، ولا وقت للتبلد أو فقدان الذاكرة لضمان بقاء النوع الإنساني.

هنا والآن التحمت أنواتي في خفايا دواخلي، وانطلقت من منطقة مجهولة حيث لا أعرف سر مصدر انفجار تدفق طوفانها الهائل والكثيف بنعمة الحياة، للدفاع عن البقاء واستمرار الحياة.

ما أجملك أيها العشق الجنوني لروعة انتصار الحياة حين تصحو. ما أروعك أيها الفرح الكبير لجنون الأمل في شروق شموس أنواة غضبي و تمردي ومقاومتي وثورتي. وهنا أيضا أدركت سر المقاومة في الحياة هو أن أتغلب أولا على أنا موتي الفاشل المهزوم شر هزيمة، والقابع الساكن أسدا علي في الحد الرابط بين ثورة القلب ونبضه، وبين حرية حلم سمائي وأرضي. عندها انزلقت من ذاكرة لساني روعة حكمة معاناة ألم مخاض الشعر في مواجهته بشاعة وهمجية الطغيان – إن خرابا بالحق بناء للحق – فعرفت أنني منذور لخراب النفس مع قلب استراتيجية الصوفي، ليس في التلاشي كمريد يحلم بالتمكن يوما ما من أسرار مقامات الشيخ لفتح زاوية الثغور، أو الكهوف، معلنا ولادة ولاية كرامات وخوارق ذهان هذيان بركات الولي الحليم، أو لعنات الولي الجزار المزعوم، والاضمحلال في إفناء الذات، بل من أجل بناء الذات والتطلع بشهوة عارمة إلى ممارسة حب الحياة، قصد التخلص من زبالة شر أشباح موت أنا ميتة تعاند الدفن وإعلان الحداد.


ما كان لسوط الخوف من الردى أن يغلب صوتي، وأنا أسمع و أرى نداء الصوت العاتي، الآتي من أنا غضبي وتمردي ومقاومتي وثورتي، ضد خوف شوه بمسخه إنسانية قلبي وعقلي وكينونة كيان فرديتي الجميلة.

قاوم..تكلم وانتزع حرية استقلال فرديتك لأراك.
لأراك في مسافات الرؤية والفهم والقراءة والتأويل أخرا مختلفا.
قاوم.. لترى أنا موتك الجمعي خارجك لا داخلك.

تكلم ولا تخف وأنت تلتفت يمينا ويسارا. تكلم دون خوف من سطوة بطش ليست إلا أنا ميتة خارجك، حالت دون أن تكون لك أنا مستقلة داخلك. هم المدينة كبير لا شأن لأشباح مقبرة خارجك، مادامت الحياة تنبض داخلك. عينك الثالثة داخلك لا في أخلاق العيب والعار خارجك، فالعيب والعار هو أن تلوذ بالصمت منبوذا منفيا متروكا كالزبالة خارجك. وعندما تفقد حرية فرادة فرديتك يختفي داخلك، ويتعثر الكلام خارجك، فينتهي الكلام وتنتهي خارجك بلا داخل لك. ومن لا داخل له لا خارج له. تكلم لترى حضورك داخلك يضع يده في يد وجودك، وترى كيف تتشابك أسرار حرية أصابع فرادتك وفرديتك بآخرك في حضن مرايا ذاتك المفعمة حبا بحرية داخلك.

بهذا الزفاف التعددي المختلف، المؤسس لقاعدة طمأنينة ارتياح القلب وانفتاح العقل على قلق السؤال داخلك، تتحرر من سلطة خارجك ويزهر ربيع الحرية داخلك.
تكلم لتخلق فوضى الحرية داخلك. تكلم لتتحول وتتغير وتهاجر نفسك لتغتني ويقوى داخلك، دون خوف الضياع أو فقدان الذاكرة ونسيان حق الغناء وعشق الكلام مع أنا ثائرة عليك ولك داخلك. ليست الطيور وحدها من يملك حق الهجرة والرحيل.

ابتعد في المسافات عن عش ذاتك الموروثة، واكرها انجذابا بعشق الصيرورة ما أمكنك ذلك تكتسب داخلك، وأنت تكون كل صباح أكثر جرأة لتتورط خارجك. تكلم لتسخر من موتك و أنت تضعه خلفك أو خارجك، وتقترب أكثر من أنا غضبك وثورتك داخلك، وأنت تتعلم كيف ترحل وتهاجر ذاتك عبر الفصول والأيام، فتفرح كعاشق يضبط نفسه متلبسا بكتابة رسائل غزل يومياته بنقد الغيرة الصريح في التجدد والتبدل والتخلص من مساحيق الأقنعة العنيدة.

تكلم وتغير فمن لا يرى التغيير فهو أعمى...

تكلم لتكون قادرا على اتهام نفسك بوقاحة الوفاء لوهم الثوابت، وعذرية حب الإخلاص لألم الموت والهزيمة والانكسار، فأنت الآن في أمس الحاجة لخيانة ومراوغة وخدش مأوى وجودك داخلك وخارجك. لا تخف ولا تخجل فأنت الآن حر وحر وحر...

قال الحرية هي الروح، وقالت اللاخوف وقلت أن أمتد عميقا في شك سؤال لا ينتهي..

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.