كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية
الفصل الأول : استفادة المماليك من الصوفية
استغلال التكفير كسلاح سياسي لقتل الخصوم السياسيين بحكم الشرع:

1ـ صارت لطائفة الاتحادية ومتطرفي الصوفية شأن كبير وقد رددته المراجع الصوفية والتاريخية على السواء بل قد ظهر منهم من ادعى النبوة والألوهية مثل الباجربقى وابن اللبان وابن البققي وآخرين واقترن ذلك بالدعوة بإهمال الفرائض الإسلامية ،ومن الطبيعي في هذا الجو أن يحتدم الصراع بين أولئك الصوفية والفقهاء . ومع تمتع أكثرية الصوفية بالحظوة لدى المماليك فلم يكن ذلك مانعاً من سهولة اتهام بعضهم بالكفر. والفقهاء في العصر المملوكي دان أغلبهم بالتصوف وتركوا الاجتهاد وأثر فيهم الجو العقلي السائد مع حدة العاطفة وشيوع الجهل واضطراب العقيدة فسهل الوقوع في القول المكفر وكثر الاتهام بالكفر حتى بين الفقهاء أنفسهم ..

2- وأتاح ازدهار التصوف الطردي في الدولة البرجية أن يستخدم التكفير الذي انتشر استخداما سياسياً ، وبدأ ذلك ببداية الدولة البرجية التي شهدت فتنة منطاش مع برقوق فرددت المصادر المملوكية أن منطاش أرغم العلماء على الإفتاء بتكفير برقوق قبل موقعة شقحب .

3ـ إلا أن عهد السلطان جقمق (842- 857 ) شهد ازدهاراً مقيتاً لهذا النوع من التكفير. فقد بادر جقمق باستعمال سلاح التكفير ضد حليفه قرقماس الذي ثار عليه فاعتقله وأعد له السلطان مجلسا في القصر حضره القضاة الأربعة (لأجل قتله) كما يقول العيني وقد وصف المجلس حيث قام (بالدعوى) على قرقماس المعتقل القاضي نور الدين ، فادعى (أن قرقماس نقض الأيمان التي حلفها وخامر على السلطان وقاتله وقتل بسببه كثيرون) ،وطلب القاضي ابن يعقوب (البيان) فشهد بذلك جماعة من الأمراء المقدمين وغيرهم وقبلت شهادتهم وطلب الداعي بقتله بمقتضى مذهبه فأجاب وحكم بذلك ، وعين السلطان(طوغان) واثنين من الشهود(لإعلام) المتهم بالحكم وكتب بذلك إلى نائب الإسكندرية ـ حيث كان قرقماس معتقلا ـ فطلبه وقرأ عليه الكتاب بحضور قاضي الإسكندرية ثم نفذ فيه حكم القضاة .

وبرز أبو الخير النحاس وعلا نجمه ثم حاقت به المحنة فسجن وحاول جقمق التخلص منه فجعل شريفا يدعي عليه بالكفر وطلب جقمق من القاضي المالكي أنه إذا ثبت على أبى الخير الكفر فليضرب عنقه( بسيف الشرع) .

بل إن جقمق استعمل نفس السلاح ضد أعوانه في تنفيذه ـ وهم القضاة ـ وذلك حين غضب على قاضي القضاة السباطي وعزله ـ حمله إلى قاضي القضاة ـ علم الدين البلقيني فادعى عليه ولم يثبت عليه شيء فحنق السلطان وسجنه بالمقشرة ثم أخرجه منها ماشياً إلى قضاة آخرين للدعوة عليه ولم يستجب القضاة لرغبة جقمق في الحكم بتكفير زميل لهم وقتله، وهو الذى شارك بنفسه قبل ذلك في الحكم بتكفير قرقماس . بل إن بعضهم لمس تجني السلطان على خصومه فقد تغيظ السلطان جقمق على القاضي الحنفي بسبب تأخيره الحكم في الصارم إبراهيم بن رمضان .

وخدع شيخ صوفي السلطان جقمق فأوهمه بمعرفته الكيمياء وتحويله المعادن ذهباً فعقد له مجلس بين يدي السلطان وادعى عليه عند المالكي بأنه دهري منكر للبعث والتمسوا منه الحكم بقتله فتوقف المالكي لما رأى من مزيد التعصب وقال إن مذهبي قبول توبته ، وساعد (الدسيطي) (والشاذلي) السلطان في اتهام الكيماوي بالكفر وكان غرضهما أن يوليهما السلطان القضاء وفوض النظر فيه إلى الدسيطي فبادر إلى الحكم بضرب عنق الكيماوي لثبوت زندقته عنده وأنه كذاب وملحد .

4ـ ويذكر أنه عندما انهزم السلطان الناصر فرج بن برقوق أمام الثائرين عليه (شيخ ونوروز) سنة 815 اعتقل وعقد مجلس لتكفيره " وقام في ذلك القاضي الحنفي قياماً تاماً " وأشهد الخليفة أنه خلع الناصر فرج من الملك ( لما ثبت عنده من الكفريات وانحلال العقيدة والزندقة) فحكم ابن العديم بسفك دمه .
وحين استعد المؤيد شيخ لحرب قرا يوسف سنة 821 كفّر فيه عدوه ونودي بذلك في المدينة .

واستخدم الظاهر خشقدم سلاح التكفير لقتل خصمه ابن الصفا وتحامل على القاضي المالكي حتى أفتى بقتله باستخدام الشهود الزور .

وعقد خشقدم مجلساً آخر لأحد مشايخ العرب المشاغبين حيث ادعى عليه بدعاوٍى شنيعة من أخذ أموال الناس والتجاهر بالفسق والسجود للشمس . وحاول القاضي التوقف في الحكم وتعلل بأمور فنقلت الدعوة عند ابن حريز المالكي سالف الذكر فحكم في الحال بسفك دمه فنفذ فوراً .

وقد ضرب منصور الأستادار ابن كاتب . ولما عزل منصور مغضوبا عليه من خشقدم سعى ابن كاتب في قتله ـ بموافقة الظاهر خشقدم ـ فأشاع أنه وقع في كفر وادعى عليه ابن حريز المالكي و(خدم بماله له صورة ) .. (وقام معه قضاة الجاه حتى أثبتوا عليه ما يوجب تكفيره ) حتى ضربت عنقه .

وضرب الأمير تمراز رجلاً أفسد جارية له وكان السلطان غاضباً على تمراز وندب إليه من ادعى عليه فحكم بسفك دمه .

وكان من السهل الاتهام بالتكفير والقتل تأسياً على ذلك وقد هدد ابن الطبلاوي غريمه بعد شتمه وكفره وقال : (أوسطك من غير مراجعة وأثبت عند القضاء كفرك وأضرب عنقك ) .

وفى سنة 911 أشيع على الثائر الشيعي الكفر وأنه يتوضأ باللبن حتى ظنه ابن إياس ساحراً لا ثائراً ... وتلك أمثلة سريعة وأليمة توضح إستخدام السلطة العسكرية المملوكية قُضاتها الصوفية فى الانتقام من الخصوم . وهى عادة سيئة فى أى نظام عسكرى إستبدادى .

تصوف الأمراء والوزراء في ساعة الشدة
1
ـ كان بعضهم إذا فقد جاهه وأحس بالخطر يهدد حياته ادعى التصوف.

ففي سنة 761 هـ قبض على الأمير منجك بعد ما أقام مختفياً نحو سنة ( فحُمل إلى مصر إلى السلطان وهو لابس بشتاً من صوف وقد اعتم بمئزر من صوف فعفا عنه ).
إلا أن النتيجة قد اختلفت بالنسبة للوزير تاج الدين حين ترك الوزارة مُصادراً ، فتصوف وانقطع بجامع عمرو إلا أن الأتابكي برقوق قبض عليه وصادره ثانياً واستمر يعاقبه حتى مات ، ذلك أن برقوق وهو خير من استخدم التصوف لخدمة أغراضه السياسية كانت تساوره الظنون في كل من يحذو حذوه. ونلاحظ هذا في حادثة تغري يرمش أمير سلاح حين تصوف وترك ممالكه وحاشيته فانقطع بجامع قوصون وأبى أن يعود لإمرته إلى أن ندم ووسط أكمل الدين البابرتي عند برقوق ليعيده إلى إمرته فغضب عليه برقوق ونفاه للقدس .

وكان خلفاء برقوق أكثر تساهلاً منه. ففي سنة 801 هـ وحين تولى فرج بن برقوق طلب الأمير الطبلاوي إلى القاهرة فخاف وتصوف وترك الإمرة وقال عنه تنم نائب الشام لمن جاء يستقدمه(هذا رجل قد قنع بالفقر فاتركوه) وبعد ذلك حدثت فتنة استعان فيها تنم نائب الشام بابن الطبلاوي وأقامه متحدثاً في أمور الدولة . أي أن تصوفه كان باتفاق مع تنم . والجدير بالذكر أن حياة ابن الطبلاوي السياسية لم تنته بتصوفه بل استمرت حتى أنه ولى القاهرة والقرافة ..

وفي شوال سنة 875هـ حضر قاسم شغيته الوزير المعزول الذي هرب من بيت كاتب السر يصحبه الشيخ إبراهيم المدبولي إلى بيته وهو لابس جبة على هيئة الفقراء وعلى رأسه مئزر وقد سأل المقر الزيني في الصبر عليه وتوجه لبيته بالقرافة وأقام بتربته .

وبعد مقتل الأمير يشبك سنة 885 سأل الأمير خايربك السلطان قايتباي في إقطاعه فرفض السلطان فأقام خايربك في منزله مغاضبا للسلطان وتكلم في حقه فاستدعاه فاختفى وارتدى زى الصوفية وأخذ بيده سبحة وادعى أنه قد ترك الدنيا وبقى فقيرا مجردا وانقطع بجامع قيدان ..


ويذكر أن بعض الأمراء قد سار على طريقة ابن الطبلاوي في ادعاء التصوف للتآمر ، فشاع في المدينة أن الأمير جركس المصارع ترك إمرته ولبس زى الفقراء ونزل في الزاوية . وقد قيل أن ذلك حيلة منهم على أن يجمعوا الأمراء الكبار ليلة الأربعاء عند السلطان بسبب ذلك ثم يمسكون من كان بينه وبين (جكم) مودة وصحبة ، ونفذوا ذلك، مما سبب ثورة الممالك على السلطان ..

وقد استغل التصوف للتهرب من القتال ، فقد ندب السلطان الأمير الكبير أزبك الأتابك للخروج إلى حلب لقتال العصاة (أقبردي وجماعته) فادعى الفقر وأنه (إن خرج ما يخرج إلا للصلح) .


2ـ وإلى جانب ذلك استعانوا بالصوفية في أزماتهم فالوزير ابن السلعوسي ـ وقد كان متسلطا في أيام الأشرف خليل ـ كان في الإسكندرية حين قتل سلطانه الأشرف فتركها خفية إلى القاهرة وامضي الليل بزاوية الشيخ جمال الدين بن الظاهري خارج باب البحر ولم ينم طول الليل ـ إذ تولى أعداؤه الأمر بعد مقتل الأشرف خليل ـ واستشار شيخ الزاوية هل يختفي أو يظهر فلم يشر عليه بشيء وقال:هذه الأمور الفقير قليل الخبرة بها ... وهذا الموقف السلبي من ذلك الصوفي يقابله موقف آخر من فقراء المقام الدسوقي حين استعان بهم الرئيس كمال الدين عندما تغير خاطر الغوري عليه(فطلع بهم للسلطان وهم يذكرون ومعهم أعلام ومصاحف وكمال الدين بطيلسان وعذبه في عمامته ) أي بهيئته الصوفية ...

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.