تقتضي مقاربة العلاقة بين الإسلام وحقوق الإنسان الانطلاق من مجموعة من الأسئلة دون التقيد بالاحترازات المألوفة في هذا الصدد، والمرتبطة بضرورة مراعاة حساسية الموضوع لأنه يمس جانبا من مقدس مجموعة يشريه لم تتعود على أسئلة تخلخل يقينها باكتمال الحقيقة التي يمثلها الإسلام، واكتمال الخير والعدل الذي يجسده بحيث لا خير ولا عدل يفوق خيره وعدله.

فهذه المجموعة البشرية ليست مهيأة بعد لتقبل كون الحقيقة التي أتى بها الإسلام تبقى نسبية في نظر الآخر، والخير والعدل اللذان دعا إليهما هما أيضا نسبيان في نظر هذا الآخر، لأنها لا تستحضر البعد التاريخي في النظر إليه، وهذا أمر طبيعي ما دمنا بصدد اعتقاد ديني يستوجب التصديق والتسليم دون الدخول في متاهة أسئلة من شأنها أن تقوض أسس ذلك الاعتقاد.

 والحقيقة أن موضوع الإسلام وحقوق الإنسان يمكن تناوله من زاوية أخرى لا تنطلق من كون طرفي موضوعنا، أي الإسلام وحقوق الإنسان، يمثلان كل على حدة حقيقة ما، بقدر ما يمثل كل واحد منهما رؤية للعالم. فالإسلام تقوم رؤيته للعالم على الدور المنوط بالإنسان في هذا العالم والذي ينحصر في ضرورة إدراك الله كخالق للعالم ومن ثم وجوب طاعته وعبادته. أما حقوق الإنسان فتقوم

رؤيتها للعالم على مركزية الإنسان كأسمى كائن ضمن مجموع الكائنات الأخرى، ويندرج الله في إطار هذه الرؤية ضمن المفاهيم التي بواسطتها فسرت مجموعات بشرية العالم وخففت من خلالها القلق الذي يعتريها وهي تجتاز تجربة الوجود وتواجه سؤال المصير.

والإسلام برؤيته الخاصة للعالم لا يختلف جوهريا عن الديانتين التوحيديتين اليهودية والمسيحية، لأن الديانات التوحيدية الثلاث كلها بوأت المكانة نفسها لله كخالق، وأناطت بالإنسان نفس الوظيفة المتمثلة في معرفة الله وعبادته. فالإسلام إذن يمثل نموذجا للرؤية الدينية وهي تفسر العالم وتقدم أجوبتها الخاصة حوله. أما مع حقوق الإنسان، فإننا لا شك ننتقل إلى رؤية مخالفة تماما لأنها تشكلت في الكثير من جوانبها على القطيعة مع الرؤية التي تمثلها الأديان بما فيها الإسلام نفسه، بل إنها تبلورت في خضم الصراع الحاد معها، وخاصة مع المسيحية في المجال الأوروبي، حيث استطاعت أن تقوض الكثير من الدعائم التي كانت تستند إليها ـ إذ انطلقت في عملية التقويض تلك من أسس العلم ومنجزاته. وبالرغم من ذلك فإن فلسفة حقوق الإنسان تعترف بجميع الأديان كمعتقدات تتساوى في القيمة والاعتبار بينما الأديان محكومة برؤيتها الحصرية لذاتها كحقيقة وحيدة لا تعترف باحتمال وجود حقائق أخرى في دين آخر أو معتقد آخر خارج الأديان.

 ولذلك فالعلاقة بين الإسلام وحقوق الإنسان محكومة بنظرته لذاته كدين ونظرته للمعتقدات الأخرى، بحيث يصعب أن نفكر في السعي إلى إحداث تطابق تام بين الإسلام وحقوق الإنسان من زاوية الاعتراف بكافة المعتقدات وعدم التمييز بينها، لأن ذلك يتطلب في الواقع ترسيخ تمثل مغاير للإسلام لدى معتنقيه مناقض للتمثل السائد له من قبل الأغلبية المسلمة، وهو ما بتطلب جهودا جبارة في تقويض هذا التمثل السائد بالارتكاز على تنشئة دينية جديدة هي جزء من مشروع مجتمعي يروم تحيق نهضة ثقافية وفكرية لاستدراك التأخر التاريخي المزمن وتجاوز معيقات التطور والتقدم.


ولا شك أن التمثل الجديد للإسلام لا يستقيم إلا بجعل فلسفة حقوق الإنسان جزءا أصيلا من حقيقته وهويته كدين ومعتقد بحيث يصبح اعتناق أحدهما هو في الآن ذاته اعتناق ضمني للآخر، وهذا ما سيجعل المسلم الجديد متشبعا منذ النشأة بفلسفة حقوق الإنسان، بل ومدافعا جسورا عنها ومناضلا في سبيلها.


 وتبعا لذلك، فهذا التمثل الجديد للإسلام يستوجب الارتكاز على كرامة الفرد البشري ومكانته كقيمة عظمى، وأن هذه الكرامة لا يمكن أن تتحقق لهذا الفرد إلا بتوفره على مقتضيات الحد الأدنى للعيش الكريم التي تتمثل مرجعيتها في مواثيق وعهود الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.


إن الاستحضار الدائم لهذه المرجعية في تمثلنا الجديد للإسلام سيجعل المجتمعات العربية والإسلامية تتجاوز الكثير من النزاعات والتوترات المرتبطة بالمذاهب والطوائف والعقائد، لأن المسلم وفق هذا التمثل الجديد ينطلق في رؤيته لذاته وللآخرين من نظرة تقر بنسبية الحقيقة في مجال الاعتقاد وتؤكد على كرامة أي فرد مهما كان انتماؤه الديني أو الفكري أو العرقي.


وهذا يعني أن المسلم الجديد لن ينظر إلى الآخر من منطلق العقيدة، بل من منطلق المواطنة كرابطة تقر للفرد حقوقه المتعارف عليها دوليا وتفرض عليه مجموعة من الواجبات نظير تمتعه بتلك الحقوق. ووفق هذه المنظور الجديد للإسلام بصبح أداء الشعائر أو عدم أدائها يندرج ضمن الحرية الفردية للشخص في تمثله للمعتقد، بعدما كان هذا الأداء أحد المعايير التي يتم بها تصنيف الأشخاص وتقييمهم أخلاقيا، بحيث يصنف الشخص الذي يلتزم بهذه الشعائر في مرتبة أعلى من الذي لا يلتزم بها حتى ولو كان هذا الأخير أكثر نزاهة في أداء مسؤولياته في مجال العمل ومجال معاملاته الاجتماعية وأكثر تقديرا لحقوق الإنسان وكرامته. المنظور الجديد للإسلام يفترض إذن منظورا جديدا للأخلاق تستبعد فيه معتقدات الفرد سواء كانت دينية أو غير دينية، لأنها تنتمي إلى ما هو خاص وحميمي لا دخل لأي جهة فيها كيفما كانت فردا أو جماعة أو مؤسسة. وبالتوازي مع ذلك يتم بناء هذا المنظور الجديد للأخلاق على أساس مبدأ ومفهوم المصلحة العامة التي تؤطرها غايات تحقيق وترسيخ الديمقراطية والتقدم والعدل والرفاه لجميع المواطنين على قدم المساواة دون أي تمييز، والسعي إلى تحقيق هذه الغايات العظيمة وبدل الجهود الضرورية من أجلها هو المعيار الأخلاقي الذي ينبغي أن يسود في تقييم الأفراد وتقدير نزاهتهم وإخلاصهم لوطنهم وللقيم الإنسانية النبيل المشتركة.

إن تحقيق هذا التمثل الجيد للإسلام وترسيخه سيشكل بلا شك ثورة ثقافية ستؤدي إلى ميلاد إنسان جديد يكون رافعة ظهور مجتمع مغاير تماما للمجتمع الحالي الذي تسوده نظرة دينية مناهضة لقيمة الفرد وكرامته، نظرة تكرس الأنانية المفرطة لأنها ترسخ لدى الأفراد منظورا لا يعترف للفرد بأي قيمة إلا إذا كان ممارسا للشعائر باستغراق وانضباط، حتى وإن كان هذا الفرد ينخرط في ممارسات لا تعترف بقيمة وكرامة الآخرين، فالمهم هو علاقته بالخالق التي يحرص على متانتها لأنها هي التي تضمن نجاته وفوزه، أما الآخرون، فليذهبوا إلى الجحيم.


ومثل هذا الكائن الأناني، لا يهمه أن تسود الرشوة والفساد ويتعمق الفقر وتترسخ الفوارق الطبقية وينسحق الناس من شدة البؤس والحرمان، مادام هو قد ضمن طوق نجاته من خلال الاستغرق في العبادة وأداء الشعائر
إننا إذن بصدد إسلام مناهض للتقليد ومناصر للحداثة، يندرج ضمن إصلاح ديني شامل يشكل المدخل الضروري لترسيخ التنوير المنشود وتحقيق النهضة العربية المأمولة

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.