الإرهاب ليس مجرّد مجموعة من جرائم القتل والترهيب. عمليّات القتل تأتي ضمن صيرورة محدّدة تحكمها جملة من التفاصيل البسيطة. النقطة الرئيسية في هذه التفاصيل هو استهداف شريحة عمريّة معينة لإعدادها نفسيًّا وماديًّا لقبول التضحية. هذه الفئة يتراوح عمرها بين 14 و 18 سنة. هذه الفئة هي الأكثر استجابة للتنفيذ وإنجاز العمل المطلوب.

 
الأكثر استجابة من ضمن الفئة المذكورة، هو الشباب “الحيّ والفطن” والّذين لديهم مؤهّلات دراسيّة عالية أو على الأقل متوسّطة، إحدى الخاصيات المشتركة لهؤلاء أنّ أغلبهم ينحدر من أسر من الطبقة المتوسّطة. أسر محافظة مرجعيّتها في القيم هي الدين ولا شيء غير الدين. يخافون على أطفالهم من كلّ ما يعتقدونه فسادا فيسهرون على تربية أبنائهم على حبّ الدراسة وعلى القيام بجميع الواجبات الدينيّة وتلقينهم منظومة القيم القائمة على الحقد على “الفاسقين” بجميع أصنافهم وتحميل مسؤوليّة نكبة الأمّة الإسلاميّة في تخلّيها عن الرسالة المنوطة بعهدتها وابتعاد هذه الأمّة عن دينها. أطفال هذه العائلات ينتقلون إلى المدرسة فتتأكّد لديهم صحّة ما اكتسبوه في أحضان عائلاتهم ويقع التجسيد الحيّ لتلك المقولات المتعلّقة بالأخلاق العالية الّتي يرضى عنها الإسلام. ففي المدرسة يقوم المعلّم المتشبّع بنفس المنظومة القيميّة الدينيّة Le système référentiel des valeurs بفصل الإناث عن الذكور و معاقبة ولد بجعله يجلس مع فتاة أو العكس وفي حصص الرياضة يتمّ طرد الفتيات ...

 من هنا تبدأ مرحلة كاملة من الإعداد وفق مرجعيّة قيميّة حاصلة على ما يمكن اعتباره إجماع مجتمعي. مرجعيّة تقتل كلّ إبداع وتصادر جميع الأسئلة المزعجة الّتي تتبادر إلى ذهن الأطفال. سيحاصر الأطفال بالثقل الهائل لمنظومة الفكر السائد. هذا الفكر سيحاصر كلّ الشّواذ ويجعلهم مدانين وحتّى الّذين يحاولون انتشال أنفسهم سرعان ما يغرقون وذلك بمجرد الاعتراف لهذا الفكر السائد بأنّه هو الصحيح والخروج عنه يعدّ جريمة. من ذلك أنّ كثيرا من الكهول يحجبون نمط حياتهم عن زوجاتهم وأطفالهم (كتناول الخمر وعدم الصوم...) ولكن لا يمنعهم ذلك من القيام بمحاضرات حول حقّ الاختلاف وحقوق الإنسان... أهداف فشلوا في تحقيقها داخل أسرهم ويتوهّمون إنجازها في مع الآخرين-
هذه هي بعض سمات البيئة المساعدة على إنتاج الإرهابيّين.

إنّ نجاح مقاومة الإرهاب يكمن في قدرة النخب “المنعتقة” من نفوذ الفكر السائد على إنتاج مقاربة قابلة للتنفيذ لزعزعة المنظمومة القيميّة الحالية الّتي يتربى عليها الأطفال بأجهزة فعّالة ومتعدّدة الرؤوس منها أساسا المدرسة والمساجد.

يعمد المستفيدون سياسيًّا واجتماعيًّا من المنظومة القيميّة الّتي تنفذّها المدرسة إلى اعتماد طرق جهنّميّة و على غاية من الذّكاء للمحافظة عليها وتجويدها. المعركة على الإرهاب تبدأ في المجال الّذي له علاقة بالناشئة والإعداديات والمعاهد وإن أمكن رياض الأطفال. ألا يدّعي الساهرون على الفكر السائد اعتناقهم لمبادئ حقوق الإنسان ومبادئ حقوق الطفل ومبادئ التسامح ومبدإ لا إكراه في الدين فلنترجم جميع هذه المبادئ في مناهج التعليم برياض الأطفال والابتدائيات والثانويّات بتـمكين الأطفال من الاطّلاع على الديانات الأخرى وعلى طقوسها وعدد مريديها من اليهوديّة والمسيحيّة والبوذيّة. لنقم بورشات عمل لفائدة الأطفال بالمدارس والإعداديات لتقديم أفلام وثائقيّة عن ديانات أخرى. لنعلم أطفالنا بحقيقة تاريخنا والنزاعات الدمويّة بين فصائله المتعدّدة. لنقل الحقيقة عن تاريخنا وعن كيفيّة “فتح” شمال إفريقيا من قبل القادمين من الشرق. لا ندعو إلى للتّشهير بل إلى تدريس الوقائع وتمكين الأطفال من بناء نظرة متعدّدة الأبعاد. ما الّذي يمنع طفلا، نلقنه عشرات السنين بأنّ الخلافة الراشدة هي أفضل نظام عدل عرفته الإنسانيّة، من أن يتحوّل إلى إرهابي من أجل العودة لهذا النّظام .

ما الّذي يمنع طفلا من التّحول إلى إرهابي إذا حجبنا عنه معلومة أنّ عثمان بن عفّان الخليفة الثالث وجامع القرآن مات مقتولا بعد حصاره في منزله لمدة طويلة وأنّه منع من الدّفن في مقابر المسلمين.

إنّه من غير الواقعي ومن اللامنطقي، الادّعاء بتكوين أجيال تُعوّل على نفسها وتبتكر وتبدع وتثمّن احترام حرّية التّعبير وحرّية الاختلاف وحرّية الضمير والمعتقد وتتبنّى وتدافع عن نظام سياسي ديمقراطي، وفي الآن نفسه نحجب الحقائق التاريخية على الأطفال واعتبار المعارضين لنظام الإسلام السياسي في عصره زنادقة ومختلون وكفرة.

تعمل جميع المؤسّسات الرسميّة والمعارضة على أنجاز أفلام ومسلسلات لتمجيد قتل المعارضين في عصر الإسلام الأوّل وتعتبر أنّ النّاس دخلوا هذا الدسن طواعية دون مقاومة عدا قلّة من المارقين والسفلة. نحن نقوم بأفعال لتّجريم معارضة السلطة عبر تاريخنا وإلى حدّ هذا اليوم نلصق بها جميع النعوت والاتّهامات.

يجب القيام بمجهود فعّال من أجل أن تطلع الناشئة على أنّ بتاريخنا معارضة للسلطة الدينيّة وأن نزاعات دمويّة دارت معها وبداخل فصائلها. يجب العمل ليس فقط على الاعتراف بوجود معارضة بل بتثمين دورها وعدم تحقيرها.


من حقّ النّاشئة الاطّلاع على المقاومة المستميتة الطويلة الأمد الّتي قام بها أهل إفريقيّة حين تعرّضوا للغزو. ابن خلدون وغيره كتبوا في هذا الشأن ما يكفي.
إذا ما اقتصرت معركة الإرهاب على مسائل أمنيّة وفنّية فإنّ الإرهاب سينتصر.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.