كان كتاب “ملف إسرائيل” لروجية جارودى هو نقطة التحول فى حياة مؤمن سلام طالب الثانوى بمدرسة الرهبان الكاثوليك سان مارك بالإسكندرية. اقتناع سلام بما ورد فى كتاب جارودى عن المؤامرة الصهيوصليبية ضد الإسلام والأمة الإسلامية دفعه للانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين للدفاع عن الدين وما يتعرض له من تشويه خارجي على يد أعدائه. رحلة سلام منذ انضمامه للجماعات الأصولية عام 1987، والتي تدرج فيها حتى أصبح مسؤول اللجنة الثقافية لجماعة الإخوان المسلمين فى جامعة الإسكندرية، و حتى اليوم مرت بمحطات متعددة وتحولات أيديولوجية مختلفة نتج عنها انه لم يخلع فقط ثوب الأصولية، بل وأصبح اليوم من اشد المدافعين عن العلمانية والمؤيدين لضرورة فصل الدين عن السياسية وذلك حتى تتمكن الدولة المصرية من الخروج من حالة الجمود والتخلف التي تعاني منها منذ قرون. وقصة تحول سلام من الأصولية إلى العلمانية يمكن الإطلاع عليها على الموقع الالكتروني “حركة مصر المدنية” والذي هو احد مؤسسيه.



قام سلام، والحاصل على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة الإسكندرية عام 1995، بتجميع بعض من مقالاته عن العلمانية التى نشرت على الموقع الالكتروني “حركة مصر المدنية”، فى كتاب بعنوان “العلمانية ببساطة ….. الدين لله و الوطن للجميع” – و كما هو واضح من عنوانه، فالكتاب يشرح بطريقة مبسطة مفهوم العلمانية وتوضيح الالتباسات التى قد يسئ الكثيرون بسببها الفهم لتعريف العلمانية، وخاصة بعد أن تمكن الإسلاميون ورافعي شعار “الإسلام هو الحل” من الترويج ضدها وبأنها دعوة للكفر والإلحاد، بينما العلمانية من اتهاماتهم الباطلة براء.


فى مقدمة الكتاب يأخذ سلام القارئ عبر تاريخ مصر المعاصر منذ انفتاح المجتمع المصري على الغرب مع تولى محمد على الحكم والطفرة الثقافية والاجتماعية والعلمية التى حلت بالبلاد آنذاك. هذه الطفرات التنويرية استمرت حتى نكسة 67 والتي كانت بمثابة أول مسمار يدق فى كفن الروح العلمانية والتنويرية التى حلت بالبلاد والتي أصابها التراجع والتردي بعدها. استغل الإسلاميون الصدمة التى عانى منها المصريين نتيجة الهزيمة ليروجوا بأنها عقاب من الله وانتقام منهم لنهجهم المنهج العلماني الكافر. وازداد الفكر الأصولي فى التغلغل داخل المجتمع مع تولى السادات الحكم والذي أطلق العنان للجماعات الإسلامية لممارسة نشاطها الدعوى فى المجتمع بحرية كاملة. ومع ازدياد نفوذ وتأثير الإسلاميون فى المجتمع بدأت الأفكار العلمانية والتنويرية فى التراجع ليحل محلها الأيدلوجية الوهابية التى ازداد تأثيرها فى المجتمع مع عودة العمالة المصرية من دول الخليج بعد تعرضهم إلى عمليات غسيل للعقول.


كان اثر احتكاك المصريين بالثقافة الخليجية لسنوات طوال واضحا فى ازدراء العائدين من الدول الخليجية لثقافتهم المصرية وإحلالها بالثقافات الصحراوية. ومع ازدياد تأثير هذه الثقافات الدخيلة على المجتمع، كما أوضح سلام فى كتابه، بدأت عملية أسلمة المجتمع المصري وتدمير الحياة الثقافية والفكر المصري وتكفير الفنون والتمثيل والغناء والموسيقى وطمس للهوية المصرية وإحلالها بالهوية الوهابية. ومع تشبه المصريين العائدين من الخليج بأهل تلك الثقافات الصحراوية بدأ ظهور الحجاب واللحى والجلباب السعودي. وبالطبع بما أن العلمانية بأفكارها التنويرية كانت هي الوسيلة الوحيدة القادرة على الوقوف أمام ودحر الأفكار الأصولية، فهي اصبحت مستهدفة من الأصوليين والشغل الشاغل لهم للقضاء عليها، وذلك عن طريق الترويج فى عقول البسطاء بان العلمانية هي الكفر والإلحاد.


من خلال المقالات التى كتبها سلام على الموقع الالكتروني “حركة مصر المدنية” و التى جمعها فى كتابه، أوضح بأسلوب ميسر مفهوم العلمانية منذ نشأتها وكذلك حاول الرد من خلال هذه المقالات على تساؤل الكثيرين عما إذا العلمانية بالفعل كفر وإلحاد أم أن هذه الاتهامات هي فقط دعاية سوداء يروج لها الفكر الأصولي.


“يعنى ايه دولة علمانية” هو أول فصل فى الكتاب ومن خلاله شرح سلام تعريف العلمانية وأول ظهور لها فى التاريخ فى عهد الدولة الرومانية والتى مرت بعدها بمراحل مختلفة حتى وصلت للصورة أو التعريف المتداول الآن. و كذلك أوضح سلام الفرق بين العلمانية الشمولية والعلمانية الجزئية و كيف أن الدين يمكن فصله عن الدولة ولكن لا يمكن فصله عن الحياة، هذا الفرق كان احد الأسباب الرئيسية فى فشل منظومة العلمانية الشمولية، وعليه فان العلمانية لم يعد لها تعريف الآن سوى فصل الدين عن السياسة.


لقد استغل الإسلاميون الصراعات السياسية فى مصر لشن حربهم التكفيرية ضد العلمانية والليبرالية مستفيدين من الأمية المنتشرة فى المجتمع وانحدار المستوى الثقافي لدى الكثيرين و تدنى مستوى التعليم، وسلطوا أسلحتهم لغسيل عقول العامة بالتلاعب بالنصوص الدينية للترويج ضد العلمانية. وقد تمكن الأصوليين من التوغل فى عقول العامة لدرجة أصبح معها لفظ علماني أو ليبرالي يدين كل من يعتنق هذا الفكر أو يروج له على اعتبار أنها دعوة إلى الفجور والفسق والكفر بالله.


قد يفاجأ الكثيرون بان العلمانية ليست مستحدثة على الإسلام،ربما المصطلح حديث ولكن تطبيق العلمانية بمفهومها الحديث – وهو فصل الدين عن السياسة – تم أيام الدولة الإسلامية. وأوضح سلام فى كتابه كيف أن التاريخ الإسلامي ملئ بالقرارات والمواقف التى تنم على فصل تام بين الدين والسياسة. وأعطى أمثلة عديدة لتطبيق العلمانية بعد وفاة الرسول وفى أيام الخلفاء الراشدين، وكيف تم تعطيل النص الديني وتفعيل قرارات سياسية لصالح الدولة والمصلحة العامة بالرغم من تعارض هذه القرارات مع النصوص القرآنية. ومن خلال كتاباته فهو أيضا يحث الناس على قراءة التاريخ الإسلامي من مصادره الأصلية وليس من كتب الأصوليين ليتأكدوا أن العلمانية ليست كفر ولا ضلال ولكنها كانت من صميم تاريخ العرب والمسلمين. moomen6


دافع سلام فى كتابه عن العلمانيين وعن الأنظمة العلمانية التى تكفل حرية وحقوق الأفراد الدينية والمدنية فى المجتمعات التى تمارسها. فالعلمانية ليست ضد الدين بل هى الحارس الأمين على حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، كذلك فقد انتقد التدين الظاهري السائد فى المجتمع والذى لا علاقه له بالدين سوى من حيث الشكل والمظهر الخارجى والتعصب ضد الأخر.


أوضح سلام أن نجاح الأصوليين فى حربهم القذرة ضد العلمانيين – باتهامهم بالانحلال الأخلاقي لنشوية صورتهم أمام العامة – يعود إلى أن حروبهم تشن فى مجتمع تصل فيه نسبة الأمية التعليمية إلى 40 % والأمية الثقافية إلى 90%. نتيجة لذلك فان افراد هذا المجتمع أصبحوا فريسة سهلة لتصديق أكاذيب الأصوليين أما نتيجة للجهل وعدم القراءة، أو نتيجة لتسليم عقولهم لشيوخ المنابر والفضائيات الدينية.


يلفت سلام النظر إلى أن نتيجة الالتباس لمعنى بعض الشعارات لدى البعض واختلاف المفاهيم لدى الكثيرين – وخاصة الذين يرفعون شعارات الليبرالية والعلمانية بدون وعى شامل أو إدراك تام لما تعنيه هذه المسميات – أدى بالبعض منهم إلى انتقاء من كل أيديولوجية ما يعنيه وما يفيده فى نشر أفكاره، رافضا أفكار أخرى من نفس الأيدلوجية. وردا على ما اسماه بالأيدلوجيات التفصيل، أوضح سلام أن العلماني هو من يرفض تدخل كل من الكنيسة والأزهر فى الشئون السياسية. أما أن يدعى مريد العلمانية رفضه لتدخل الكنيسة فى إدارة شئون البلاد بالرغم من ترحابه بتدخل الأزهر فى الشؤون العامة ومرجعيته فى تفسير نصوص الدستور المستمدة من الشريعة، فهذا فكر ليس علماني. العلمانية لا ترحب بتدخل اى رجل دين فى شؤون الدولة السياسية. وانتقد سلام كذلك من يدعى الليبرالية ولكنه فى ذات الوقت يرفض حرية العقيدة لأديان معينة.  وأوضح سلام أن من يبارك الانتقال من دين لأخر فى اتجاه دين معين بينما يؤمن بحد الردة فى حالة انتقال العقيدة إلى الاتجاه الأخر، فهذا الشخص أصولي يستتر تحت غطاء علمانية زائفة.


عقد سلام مقارنة بين التيارات العلمانية والتيارات الأصولية المتواجدة على الساحة السياسية المصرية. وأوضح انه بالرغم من جهل الأصوليين بشؤون الدين وتزييفهم للحقائق وتجنبهم الدخول فى تفاصيل تكشف مدى جهلهم، فان التيارات الأصولية تمكنت من فرض تواجدها على الشارع المصري بنجاح يفوق التيارات الليبرالية والعلمانية. لقد نجح التيار الأصولي فى السيطرة على الشارع المصري والمواطن البسيط نتيجة لرفع الشعارات الجياشة التى تغازل عواطف المواطن ووجدانه الديني. وأفرد سلام فصلا بأكمله عن جهل الأصوليين بشؤون إدارة البلاد اقتصاديا وسياسيا ودوليا. فالأصوليين لا يملكون الخطط ولا الرؤية وكل ما يحتكمون عليه هو الشعارات الزائفة. وخير دليل على هذا الكلام هو فشل إدارة الإخوان تحت رئاسة محمد مرسى فى إدارة شؤون البلاد والتى أوضحت مدى إفلاسهم السياسي.


بعد تعريف العلمانية تطرق سلام إلى شرح معنى الديمقراطية وكيف أن الدولة الدينية ليست دولة ديمقراطية بالرغم من أن الأصوليين لا يتورعوا عن تزييف الحقائق والمسميات لإيهام الناس أن مسلك الدولة الدينية قائم على الديمقراطية. ديمقراطية الإسلاميين هي ديمقراطية المرة الواحدة والتى مبتغاها هو الوصول إلى كرسي الحكم مع العمل على القضاء عليها لاحقا باعتبارها مخالفة لشرع الله.


اختتم سلام الكتاب بفصل بعنوان “أزمة عقول لا أزمة تدين” ومن خلال هذا الفصل عقد مقارنة بين الإسلام السياسي والعلمانية. الإسلام السياسي ولد على يد حسن البنا والذي سعى منذ نشأته إلى ترويج فكرة أن سبب تخلف المسلمين وتراجعهم هو الابتعاد عن الدين. وفى ذات الوقت عمل مروجيه على محاربة العلم والعقل والفلسفة والفكر تحت شعار أن الإسلام هو الحل. وكانت النتيجة أنهم تمكنوا من نشر مظاهر التدين دون جوهره. فانتشرت اللحى ومعها انتشر سوء الخلق، وانتشر الحجاب ومعه انتشر التحرش، وانتشرت قراءة القرآن ومعها انتشر الإهمال فى العمل. وصدق الناس أن الأزمة هي أزمة تدين وان انتشار اللحى والحجاب وقراءة القران كفيلة بتحويل مصر إلى دولة متقدمة تنافس الدول الغربية، بل وربما تفوقت عليها. هذا الخطاب الديني الذي ظل ينخر فى جسد الدولة المصرية لثمانية عقود لم يستطع التيار العلماني مواجهته والتصدي له لان الإسلام السياسي قابله بحرب من التكفير والتخوين والعمالة والتآمر على الإسلام، مما أدى ليس فقط إلى خرس الألسنة التى تدعوا إلى العلمانية، بل وصدق العامة من الناس هذا الهراء الذي يروج إليه الأصوليين. ومع خاتمة الكتاب دعي سلام إلى نهضة شاملة للتصدي للفكر الأصولي وأفاد أن النهضة لن تتحقق بانتشار اللحى والحجاب ولكنها ستتحقق إذا اعترفنا بان الأزمة هي أزمة عقول، بعدها يتم إفساح المجال لكل عالم وخبير ومبدع ليتصدر المشهد ويقود الدولة نحو النهضة دون التفريق بين اى مصري على أساس النوع أو اللون أو العقيدة أو الطبقة.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.