ما يجب أن يدركه قادة الحكم في بلاد العرب، وأن يدركه على الأخص من يقدّمون النصح والمشورة لأولئك القادة، أن الشعوب تستطيع ممارسة الصبر والانتظار بالنسبة لبعض المظالم والمطالب السياسية. فهي تستطيع أن تتحمّل، مع كثير من التململ، التباطؤ في الانتقال إلى نظام ديمقراطي عادل وحقيقي غير مزيّف، إذ تدرك أن الوصول إلى كذا ديمقراطية يحتاج إلى نضال قاس مرير، وأن الطريق إلى تلك الديمقراطية طويل ومتعرّج لكل المجتمعات البشرية. 

  


وهي، أي الشعوب ، تستطيع أن تتحمّل الفروق الجائرة في الثروة والجاه والسلطة بين أقليّة تهيمن وأكثرية تعاني وتكافح، إذ تدرك الشعوب وتأمل بأن الزمن، طال أو قصُر، بعد مئة سنة أو ألف عام، سينهي أية فروق غير عادلة. فوعي الإنسان وقدراته في نمو دائم ونضج متراكم، وستفرض القيم الإنسانية إرادتها على القيم الأنانية الظالمة التي حكمت ولاتزال تحكم طول العالم وعرضه. 


  


الشعوب تستطيع الصبر والانتظار على تأجيل أحلامها الكبرى لأنها تعلم بأن ممارسات الاستبداد والظلم وآلام وفواجع القوانين الجائرة والفساد والنهب موزّعة فيما بين الخلق كلهم، وأن مواجهتها هي من مسئولية الجميع لأنها تمس الجميع. 


  


لكن تلك المظالم التي تطال الجميع تختلف جذرياً عن التمييز الموجّه إلى فرد أو مجموعة أفراد. نحن هنا أمام ظلم يفعل فعله الموجع والمدمر في الواقع الحاضر، وفي الحال. فالإنسان الذي يحرم من خدمات صحية أو تعليمية من حقّه كمواطن، والإنسان الذي يحرم من الحصول على مكافأة يستحقها، والإنسان الذي يُميَّز ضدّه في الحصول على وظيفة أو سكن ويُقدَّّم غيره عليه… هذا الإنسان لا يواجه مشكلة تستطيع الانتظار أو التأجيل لحين حلّها. إنه يواجه فرصة قد ضاعت، وحقاً قد سُلب، وحاضراً دُمًّر. 


  


فلنتصوّر شاباً، من عائلة محدودة الدّخل، عاش طيلة سني طفولته ودراسته في المدرسة وهو يحلم بأن يحصل على بعثة دراسية ليصبح مهندساً أو طبيباً أو عالماً أو محامياً. لقد اجتهد، وأبدع في دراسته، وحلم مع أفراد أسرته بالخروج من ضنك العيش ومغالبة متاعب الحياة. حتى إذا جاء يوم الحصاد والمكافأة واجه واقع التمييز ضدّ حقه في المكافأة بسبب كونه فرداً من هذه القبيلة أو الطائفة أو الدين أو الأصول العرقية، أو كونه فرداً من هذه المدينة أو تلك القرية. 


  


لا حاجة إلى القول بأننا في تلك اللحظة أمام مأساة فردية تدمّر الحاضر وتشوّه المستقبل وتغلق أبواب الأمل وتقتل الأحلام التي ترعرعت عبر السنين. أحلام ذلك الإنسان وأحلام محبّيه ممن ارتبطت حياتهم بحياته. 


  


لا يمكن الحديث هنا عن الزمن الذي سيحلُ هذه المشكلة. إن الزمن سيحلُّ مشاكل آخرين سيأتون بعده، لكنّه لن يحلّ مشكلة هذا الفرد إيّاه في هذه اللحظة إيّاها. 


  


هذا الوضع الظالم التمييزي العبثي ينطبق أيضاً على الشابة التي حلمت بالحصول على وظيفة معقولة محترمة بعد تخرّجها من الجامعة، لتكتشف أن التمييز قد أعطى وظيفتها التي تستحقها إلى غيرها، بسبب الانتماء لجماعة أو دين أو مذهب أو جهة. 


  


وهو الوضع نفسه بالنسبة لشاب يريد الزواج والعائلة التي حلم طيلة حياته ببنائها، ولكنه لا يستطيع بسبب عدم حصوله على مسكن أُعطِيَ لغيره دون وجه حق، وبسبب مفاضلة تمييزية جائرة. 


  


في جميع تلك الحالات نحن أمام ممارسات ظالمة شرّيرة تئد الأحلام، وتدمّر الحاضر، وتسدّ آفاق المستقبل. 


  


هل من حقنا أن نلوم عند ذاك هذا الشاب أو تلك الشابة إن هما توجّها إلى أقصى درجات الغضب، واليأس من العدالة والشكّ في كل القيم، والالتحاق بجماعات التطرف والعنف العبثي؟ 


  


التمييز إذاً لا يمكن الحديث عنه في صيغة المستقبل وفي الوعود بالحلول الآتية من الشفق البعيد. التمييز ليس موضوعاً سياسياً يقبل التفاوض والأخذ والعطاء، والحلول الوسط. ولا يمكن الحديث عن الصبر على نصف أو ربع تمييز بانتظار ما سيأتي به الغد. وهو ليس نصف موت، إنه موت وجودي كامل. فعندما يدمّر الحاضر وتسدُ أبواب المستقبل وينحر الطموح وتذوي الأحلام، فإن الحديث عن أيّ نوعٍ من الوجود هو وهمٌ وعبثٌ بائس. 


  


ستحسن أي سلطة ومستشاروها صنعاً إذا أدركوا حساسية وعمق الفرق الفلسفي والقيمي بين ممارسة السياسة وممارسة التمييز، فالأخير هو موضوع إنساني وجودي يعطي البعض على حساب وحقوق البعض، يدمّر حاضر البعض من أجل فتح أبواب المستقبل للبعض الآخر. هذه ليست لعبة سياسية وليس لها مكان في قاموس السياسة. إنها لعبةٌ شيطانيةٌ تهزأ بالقيم والأخلاق وعدالة السماء وضرورة تحكيم الضمير. 


 



 

بقلم الكاتب د. علي فخرو

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.