أشعل مقتل الأسير اللبناني المحرر سمير القنطار مواقع التواصل الاجتماعي، وكشفت التعليقات على هذا الحدث عن عمق الشرخ الذي أحدثته الأزمة السورية في المجتمعات العربية.


وثار الجدل حول اغتيال القنطار بعد إعلان حزب الله اللبناني ومواقع سورية عن استهداف منزل كان يقيم فيه الأسير المحرر والقيادي في حزب الله في جرمانا شرقي العاصمة السورية دمشق. مواقف القنطار السياسية وبخاصة حول الأزمة السورية، وموقفه الداعم للرئيس بشار الأسد كان لها الأثر الأكبر في  كيفية استقبال الخبر والتعليق عليه. فالموالون اعتبروا أن استهداف القنطار يأتي ضمن المخطط "الصهيوني-الأمريكي المدعوم من الوهابية" ضد محور الممانعة والمقاومة، وطال قامة رفضت الانحناء للعدو طوال 30 عاما في السجون الإسرائيلية، قبل أن يخرج طليقا مرفوع الرأس بصفقة تبادل للأسرى مع إسرائيل، ويجدد الولاء لنهج المقاومة وينضم إلى حزب الله اللبناني، بالرغم من أصوله الدرزية، وولائه الفلسطيني الذي دفعه إلى تكرار محاولة اختراق الحدود الإسرائيلية والقيام بعمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي ما كلفه زهرة شبابه في السجون. فيما تنكر، معظم معارضي الأسد، لتاريخ القنطار النضالي المشرف منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وتأكيده عقب تحريره في صفقة الوفاء في 2008 أنه لم يخرج من فلسطين إلا كي يعود إليها في دليل على أن سنوات الأسر لم تزده إلا إصرارا على درب النضال ضد إسرائيل الذي اختاره مذ كان شابا يافعا في السادسة عشرة من عمره.


وفي حرب التعليقات المشتعلة على اغتيال القنطار ذهب بعض معارضي الرئيس بشار الأسد، وتدخل حزب الله في الأزمة السورية، إلى أن العملية جاءت بالتنسيق مع حزب الله والحكومة السورية. ورأى البعض أن الحزب ضحى بالقنطار بهدف تلميع صورة "حلف الممانعة"، ولم يستبعد هؤلاء أن ينسق الحزب مع إسرائيل للردّ على العملية بإطلاق بعض الصواريخ، أو عملية من الجولان أو جنوب لبنان لرفع أسهم الحزب والتأكيد على أنه مازال يحارب إسرائيل وأنه مستهدف بسبب مواقفه الثابتة من الصراع العربي الإسرائيلي ودعمه المتواصل للفلسطينيين.


وذهب البعض إلى أبعد من ذلك بكثير وتبنوا الروايات الإسرائيلية حول قتل القنطار لطفلة إسرائيلية في الثالثة من عمرها في 1979، ما يعني عمليا وصمه بالإرهاب وتشويه سمعته. فيما الحقيقة، حسب مصادر عدة، أن القنطار شارك في عملية فدائية موجعة لإسرائيل أسفرت عن قتل جنود وخبير نووي وهو ما يفسر الحكم القاسي عليه.


كما أشارت تعليقات إلى خروج القنطار سليما معافى من سجنه وقد بدت عليه علامات السمنة بالرغم من ثلاثة عقود من الأسر في تكرار للدعاية حول إنسانية إسرائيل التي سمحت للقنطار أيضا بمتابعة تحصيله العلمي في السجن. وعقد آخرون مقارنات بين أحوال السجناء في السجون السورية وأحوال القنطار عندما خرج من السجن، في مقارنة يراد منها أن تمنح إسرائيل صفة إنسانية هي أبعد ما تكون عنها، وتتجاهل نضالات الأسرى المتواصلة في سجون الاحتلال الإسرائيلي والتي كانت السبب في منحهم حقوقا لا تساوي مهما بلغت ثمن البقاء خلف جدران الزنازين.


وتكشف المواقف من اغتيال القنطار "النظرة البائسة" لدى البعض في الدول العربية إلى التاريخ، وتوضح جانبا من سّر استمرار حروب كان يجب أن يطويها النسيان منذ قرون، لكنها تعود بين الفينة والأخرى لتؤجج  نار الحقد في القلوب. ويبدو أن هناك من هو مستعد لإنكار كل حسنات أي شخص وشيطنته لمجرد اصطفاف اتخذه لا يمكن الجزم بصوابه من عدمه، وأسباب تبني هذا الاصطفاف سواء كانت مبدئية أو نفعية في دليل واضح على أزمة عميقة يعيشها الكثيرون في عالمنا العربي اليوم وتكمن في عدم الإيمان بحرية الاختلاف وفضله في تطوير المجتمعات ودفعها إلى التطور.


المؤكد أن إسرائيل لها مصلحة كبيرة في قتل القنطار وكل من ناضل ضدها بإخلاص وتبنى نهج الكفاح المسلح. لكن الواضح أن الجدل سوف يتواصل حول العملية، وكيف استطاعت إسرائيل الوصول إليه، وكيفية جمع المعلومات اللوجستية اللازمة لإتمام الاغتيال. ولكن المؤسف أن يغيب صوت العقل والإنصاف، وأن يتجاهل معظم من يعلق على اغتيال  القنطار قول السيد المسيح  الشهير "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله".  ويجب عدم الحكم على اغتيال "عميد الأسرى العرب" السابق من زاوية أو أخرى، وإلا فإننا نساهم في شرعنة ممارسات إسرائيل، وتعميق الشرخ المجتمعي في منطقة عاشت قرونا عديدة منارة للتنوع الإثني والطائفي، ما أسهم في إغناء الحضارة العالمية، وتثبيت كثير من شرائع الكرة الأرضية.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.