“حيثما أقيم الحق على السلطة الالهية يمكن تبرير أشد الامور سوءا وظلما”–”لودفيغ فيورباخ”

بداية لم أجد أنسب من بداية ابدأ بها كلامى هنا عن مفهوم (التسامح الدينى فى الشرق)، وفى واقعى الذى نشأت وتربيت فيه بحكم أننى فردا فى وطن مصبوغ بصبغة دينية بحكم المجموع البشرى الاغلب فى تلك الاوطان والتى تحكم تحت بنية نظام (عسكرى سلطوى) و(عشائرى قبائلى) فى تركيبته الاجتماعية فى معظم دول المنطقة العربية ايا كانت ادعاءات زعماء تلك المنطقة بأننا نعيش تحت سيادة (دول حديثة) بمفهوم (الدولة الحديثة) المعاصرة، فلذلك فى مقالى سأسرد هنا مفهوم الحق والتسامح الذى نشأت وتربيت عليه كمعظم أبناء جيلى، مفهوم قائم على نظرة دينية بحتة والذى ينظر بها الجمع لكل ما هو أخر.. فلذلك لم أجد أنسب من مقولة (فيورباخ) لمفهوم (الحق) لكى ابدأ بها.

هناك من يصنف الاديان الى (سماوية) وغير (سماوية) ناظرا الى دينه على أنه أرفع الاديان السماوية والى المنظومة الاخرى من الاديان على أنها، فى أحسن حالاتها رسالات فى الاخلاق والاصلاح الاجتماعى جاءت على أيدى حكماء أو معلمين لا على أيدى أنبياء ومرسلين، ومن هنا سنجد بذرة كل نظرة ألغائية تنشأ مع الزمن وتتحول الى فكر دينى سجالى، فكر دينى مقصده الوحيد هو الغاء هذا الاخر، فكر ينطلق من أن ثمة دينا واحدا صحيحا يبطل ما عداه، فكر دينى يرى بداية التاريخ نشأت مع دينه ونهاية التاريخ ايضا، فكر ينتقل الى كل مسائل الحياة الدينية ليمارس الطقوس أو الشعائر كأشكال جامدة مفرغة من أى مغزى، مركز كل التركيز على أسم جماعته مستخدما كل الوسائل لطمس الاسماء الاخرى أو أناس يشاركونه (الوطن) .

فكرا لا يفهم (التسامح) الا كنوع من العفو عند المقدرة، وكل مفهومه عن (الحوار) وهدفه هو تحويل هذا الاخر عن دينه الى الدين (الصحيح) ! لكى يرضى (ربه) بتصوره المعتقدى.. عبر ما يعتبره هو جدالا منطقيا فى سبيل تثبيت العقيدة . !

فتلك النظرة كانت دوما على صعيد المناظرات التى ستجد نفسك امامها لكلا طرفى النقاش الدينى والتى نشاهدها ونسمعها دوما بين أطراف مختلفى العقيدة فى أوطاننا التى تشتعل يوما بعد يوم ولا سبيل ولا أمل فى طوق نجاه قريب ينتشلنا من غيبوبتنا الزمنية .

ان هذا الاختلال الدينى ومفهوم (التسامح) الذى لا نفهمه الا ونحن داخل دوائر معتقداتنا يقلب كل موازين السلام الاجتماعى والعالمى، هذا الاختلال الذى يفضى فى أقصى حالاته، الى الحروب الدينية الاهلية والقومية والتى تعتبر من أقسى الحروب فى التاريخ البشرى .، ولا ننسى بالطبع الحركات الارهابية وكل أشكال التكتلات الاصولية، وأعلان حربها ضد الجميع بأسم (الدين) .

فلذلك لا تقتصر تلك النزعة الالغائية على العلاقات بين الاديان فى اوطاننا بل ستجدها على أشدها جنونا وسفكا للدماء بين المذاهب داخل الدين الواحد . وهنا تبرز فكرة فئة من دين معين على أنها وحدها (الفرقة الناجية) ومصنفة ما عداها فى عداد (الفرق الهلكى)، ولطالما أدى هذا التصنيف الى حالات ابادة بشرية وتهجير مجتمعات، وحالات من التكفير للكل لدرجة أسوء درجات التصفية الجسدية لكل ما هو أخر ومختلف عنى تحت هذا المفهوم ألا وهو (الفرقة الناجية) .

فلذلك كانت وستكون كل أشكال الصراع الدينى والعصبية العمياء فى واقعنا تجبرنا يوما بعد يوم على تعديل معنى (الحق)، ومعنى (الجماعة) بعيدا عن أشكال التزمت العقائدى والذى يقدم دائما على هيئة (خطاب دينى) يقدمه رجال دين معتنقى لهذا الدين أشبه بخطاب (نازى) معاصر، وأكاد أن أجزم ان تم التدقيق بشكل بحثى ودولى فى بنية وتركيب كافة أشكال (الخطاب الدينى) الذى يقدم للشعوب فى الشرق سنجد أنه أشبه بخطابات (نازية) معاصرة، خطابات توجه الى (الجنس الارى الدينى) بالمفهوم (الهتلرى) وبرعاية الشيخ او البابا (جوبلز) كاتب ومحرر الخطب الدينية فى الشرق .

ان المعنى الاعمق للدين هو ذاك الذى يغلب فيه الاعتبار الفردى أو الشخصى على أى اعتبار جماعى أو خطب عاطفية دينية تثير وتدغدغ مشاعر الاغلبية لكى تحقق بها كل أشكال الكراهية والعصبية العمياء والتى لا يدفع ثمنها الا أوطان وأجيال ممزقة فكريا بكل أشكال الصراع النفسى أولا وصراع الخارج ثانيا . 

هنا سترى دائما كافة أشكال (الالغائية) ودعائتها، وهى نزعة عقائدية منغلقة تحول المجتمعات أشبه ب (جيتوهات) * معاصرة. يرى دعاتها فى كل دين أنهم وحدهم فى الحق وسواهم فى الباطل، أو انهم فى الحق كله وسواهم فى جانب منه .. ومنهم من لا يقبل هذا الاخر أبدا بل يجرد نفسه لمحاربته بكل الوسائل الممكنة

فصحيح أن هناك تنوعات أو أنواعا للتجربة الدينية كما قال (ويليام جيمس) * قبل ما يزيد على القرن . لكن هذا النوع من الفكر والالغاء يجعلنا ندرك لماذل بات العديد من العلماء السلوكيين يربطون الدين بالعصاب على الصعيد النفسى، والتعصب على الصعيد الاجتماعى .

كما يجعلنا نتلمس أيضا بعض الدوافع لابتعاد كثيرون اليوم عن كل أشكال الانماط الدينية التقليدية.. وتم استبدالها بشكل متوارث عبر عصاب وتعصب جمعى من مصادر أخرى وتم تحويل نصوص بداخل كتب مقدسة وتجاهل (أسباب النزول) والظرف الزمنى للنص تحول الى شكل من أشكال العقيدة الجامدة والتى توارثت تاريخيا عبر أوثان أخرى لابد أن تقبل كافة واجمالا بدون نقد او فهم للنص .

فصحيح أن الاخر بمعنى من المعانى، هو كل من ليس (نحن) ولكن الاخر، بمعنى أعمق هو كل من ليس (أنا) . لكن هنا أى قبول ناضج قائم على وعى بالمسئولية لهذا (الاخر) يعنى رعاية حقوقه، وفى رأسها حريته وكرامته وحقه فى الاختلاف . ليس بالمفهوم (القاصر) القائم على الالغاء بحكم المعتقد .

ان اردنا خروج من تلك الدائرة المأزومة والكارثية فى ماضينا اولا وحاضرنا لابد أن نفهم أن الدين خطاب لا للعقل الفردى فحسب بناءا على قواعد الفطرة والتحليل المنطقى لارادة (الاعتقاد) *، بل هو خطاب أدعت جماعة من الناس أنها تحمله من الله الى البشر، الاديان من جهة مصدرها خطاب بين الله أو الحقيقة المطلقة من ناحية والبشر من ناحية أخرى .. فاذا كانت الاديان تتلاقى على الفطرة كما نسمع وعلى العناصر التى تمجد فطرة الانسان السليمة، فهذا يعنى أن ثمة جوهرا للدين يمكن أن نسميه (الدين فى الاديان) كما لقبه اللبنانى (أديب صعب) * فى دراساته النقدية لفلسفة الدين . ولئن كان كان التنوع الدينى أمرا حاصلا بدليل ظهور أديان كثيرة خلال التاريخ واستمرار بعضها عبر ما يسمى أديانا حية .. وأبرزها (الهندوسية والبوذية والمسيحية والاسلام.. الخ فلذلك سنجد أن الوحدة الدينية لها أساس راسخ فى نفوس البشر لكن فى ضوء العناصر المشتركة والجوهر الواحد بعيدا عن أى خطاب مؤدلج يصرخ به أصحاب الديانات بحق مطلق لالغاء كل ما هو (أخر) مختلف عنهم .

الدين يا عزيزى يقدم فى الشرق بلسان (رجال الدين) يرفع دين فوق دين ويحقر من دين ويقلل من أمم ويحقر من قيمة البشر المخالفين له، فكيف يمكن تفسير الخلافات والعنف المتبادل والحروب الدينية بين الاديان، والتى لا يكاد أن يخلو منها مكان أو زمان.. كيف ؟! 

فللك لمن أراد البحث عن طوق النجاة القريب فلابد أن يتم طرح مفهوم (التنوع الدينى) والذى لا يحدث الا بارادة سياسية قوية لكى يتقبلها (العقل العربى الدينى) حتى ولو فيه شىء من الاجبار والفرض على مجتمعاتنا التى تباد يوما بعد يوم.. ان مفهوم التنوع انه النمط الايجابى والذى منه بالامكان تصحيح مغالطات بنى عليها مقدار كبير من (العقل الدينى الجامد) .

فلابد من طرح مفهوم (التنوع الدينى) فى العقل العربى لكى نرى جيلا عربى على وعى حقيقى بقيمة (التسامح) كفكرة لابد من طرحه على رجال دين ورجال لاهوت يقولون ان احتواء دينى على الحق والخير والجمال لا يعنى خلو دين الاخر من الحق والخير والجمال.. لابد من جعل اهداف الحوار فهم الاخر فى العمق أنطلاقا من الجوهر الواحد، أى الفهم القائل بأن ما أحاول تحقيقه بواسطة دينى يحاول الاخر تحقيقه بواسطة دينه أيضا .

لابد من طرح شبه (اجبارى) لمفهوم (التسامح) فى عقول العرب كمجتمعات اولا، ثم كنظم سياسية ثانيا مفهوم اى بمعنى أن المؤمنين يعملون كل عبر دينه من أجل قضيى مشتركة، ويمارس الطقوس قاصدا جوهرها والى هو اعادة للذات واحياء للضمير، وبحثا عن الحقيقة التى أنبثق منها كل شىء والسعى فى كل حين الى السلام.. السلام المذبوح كل يوم على أيدى دعاة الجنون والكراهية فلذلك يوجد ثلاثة أنواع من الانتماء كفيلة لاخراج متطرف بتعريف (جيرالد برونو) * وهم :

— الانتماء بالوراثة : هو الانحباس بداخل سجن معرفى أقلوى

— الانتماء بالاحباط

— الانتماء بالكشف / الانكشاف

ومن هذا كان وسيكون (الخطاب الدينى) على مر العصور يلقى على البشر وكأنهم قطيع من (الغنم).. فلذلك يقول (جيرالد برونو) بكل صراحة صادمة :”بأن هذه السمات الثلاث الرئيسية وهى خصائص الانتماء العقائدى فى الفكر البشرى وفى بنية معتقداته ستبقى (مجتمعاتنا مجتمعات أعتقاد، بغض النظر عن حالة تطور المعرفة الانسانية) ولكن يتبقى امر هام أمام كل من ينادى بالحداثة والتطور الفكرى هو أن يشذب أظافر (الخرافة والمعتقد) أولا بأول ليس أكثر.

لانه حتى تلك المعتقدات التى نلقبها بالمتطرفة لن تختفى من أفق عالمنا المعاصر، لانهم ليسوا وحوشا غير عقلانية، بقدر ما هم منطقيون للغاية ما داموا مثل جميع البشر.. محكومون بحدود المعرفة والثقافة والادراك!

فلذلك أخيرا يااصدقائى ان كنتم تنظرون الى (الاخلاق) فى اطار الدين فهى نظرة قائمة على نظرة دينية بحته الى العالم والى الجنس البشرى المحيط بك عموما.. لابد أن نرى الصورة بأبعد من ذلك التصور القاصر واللحظى للاخلاق والدين الذى ننظر به الى العالم، والى أحكامنا.. نحن كائنات متوسطة ان الاشخاص المحيطون بى سيحددون من أكون، ان اللغة الذى أتحدث بها ستقوم بنحت وتشكيل ادراكى للعاالم ، ان الثقافة التى أعيش فى ظلها هى التى ستشكل رؤيتى للعالم.. أليس كل هذا يكفى لاعادة النظر من أكون ؟.. أتلك هى خياراتى ؟ هل اخترت كل هذا بارادة حرة ؟

ولا اتذكر الان كلمة فى احدى محاضرات (ديفيد لينسون) ويقول فيها :”أنا أصمم، لذا أنا أكون”.. انه التصميم المعرفى الحقيقى الذى تقوم به لتشكيل وعيك بارادة حرة بعيدة عن تصورات وتشكيلات الوراثة وقناعات الموروث والتلقين الاعمى.. وقتها فقط سنرى الانسان فى الشرق فى وجه (الله) واحدا فى تجلياته الرائعه ويسمع صوته واحدا فى سيمفونية غنية من الاصوات .

وعندئذ ينكشف له الجوهر والذى فيما معناه بالحس الصوفى (الدين فى الاديان) أو (الوحدة فى التنوع) . ولا يسعنى الان الا ان أنهى المقال وأعتذر عن الاطالة جدا بكلمات ابن (الاندلس) امام (المحققين) (ابن عربى) وهو يقول فى (ترجمان الاشواق) :

“لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي.. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ.. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ

ِوبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ.. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن

أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ.. ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.