قراءة في كتاب يورغن هابرماس "تحدّيات الديمقراطيّة ما بين المذهب الطّبيعي والدّين"


لقد هيمن فلاسفة العدميّة واللاّعقلانيّة والفوضويّة أو ما كانوا يدعون أيضا بفلاسفة ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيويّة أو فلاسفة التّفكيك من أمثال ميشال فوكو ودريدا و جيل دولوز وفرنسوا ليوتار على الساحة الثقافيّة الفرنسيّة على اِمتداد أكثر من عقدين من اُلزمن تميّزوا خلالها بنقدهم اللاّذع ومهاجمتهم الشّرسة لأسس الحضارة الأوروبيّة كالديمقراطيّة وحقوق الإنسان الّتي كانوا يرون أنّها قد جلبت إلى الإنسانيّة المصائب والويلات مذكّرين بالحربين العالميتين وبالقنبلة الذريّة وبالأسلحة الكيماوية، أمّا على الصّعيد الفلسفيّ والفكري فقد اِنتقدوا النّزعة المركزيّة الغربيّة والفلسفة الإنسيّة لاُحتقارها للحضارات والثّقافات الأخرى، كما كانوا يرون في التّطور العلمي والتقني نوعا من الهيمنة الاِستبداديّة للعقل المفضيّة إلى فرض السّيطرة والِاستغلال اللّذين اِرتبطا بالعلم والمعرفة وتوظيفاتهما. لهؤلاء الحقّ في نقطة واحدة وهي أنّ التّقدم العلمي والتكنولوجي إلى ما لانهاية قد أصبح غاية في حدّ ذاته بدلا من أن يكون وسيلة لخدمة الإنسان وإسعاده.

لقد أصبح عبارة عن حركة جهنميّة متسارعة لا تستطيع أن تقف عند حدّ بل أصبح الإنسان ذاته مجرّد رقم في مسار العلم والتقدّم والحضارة …لكن لا ينبغي أن يتطرّف دعاة ما بعد الحداثة في اِنتقادهم ويمسحون بجرّة قلم مكتسبات الحداثة والعقلانيّة. إنّه موقف مراهق ولا مسؤول. لمواجهة هذا التيار العدميّ الّذي يستلهم التراث النيتشويّ اِنبرى هابرماس إلى التصدّي له وإلى كشف زيف اِدّعاءاته وفي معقله في “الكوليج دو فرانس” يلقي الفيلسوف الألماني درسا موضوعه “الخطاب الفلسفي للحداثة” شنّ فيه هجوما شديدا على نيتشه أثار حفيظة ميشال فوكو الّذي اِعتبر أنّه مستهدف شخصيا 1.اِنتصر هابرماس في تلك الفترة للعقلانيّة الّتي اِخترقت كلّ قطاعات المجتمع من أقصاها إلى أقصاها ـ أي قطاع الإقتصاد والعلاقات الاِجتماعيّة وتأويل التراث وقطاع العلم والتكنولوجيا والتقنية. ففي الوقت الّذي كان فيه فوكو ينتقد الحداثة ولا يرى فيها إلاّ الجوانب السّلبيّة راح هابرماس يشدّد على الجوانب الإيجابيّة ويرى أنّه لا ينبغي أن نخرج من الحداثة بل أن نسير فيها ونكمل مشروعها الّذي لم يكتمل إلى حدّ الآن 2 إنّ الخلفيّة الفكريّة الّتي تقود هابرماس في تقييمه لمسار الحداثة والعلمنة تنبني على ضرورة الإستخدام النّقدي للعقل فهو بالنسبة إليه أهمّ إنجاز أورثه إيّاه كانط .لأنّ هذا الإستخدام النقديّ هو الّذي يحمي العقل من الوقوع في فخّ التّصلّب والتشنّج والدوغمائيّة . فالعقل بحسب المفهوم الكانطيّ يقوم بعودة نقدّيّة على مساره وعلى منجزاته السّابقة باِستمرار بل يتوجّب عليه فعل ذلك حتّى يصحّح الأخطاء الّتي تكون قد وقعت أثناء المسار السّابق فعن طريق هذه العودة النقديّة يحصل التقدّم 3 .

ذاك هو البراديغم الّذي اِعتمده هابرماس في تأليف كتابه “تحدّيات الديمقراطيّة ما بين المذهب الطبيعيّ والدّين” وفيه اِستعاد بفكر نقديّ مسار العلمنة والسّياسة والديمقراطيّة في الغرب ورصد المآزق الّتي بلغها ذلك المسار بالتّزامن مع اِنتشار ظواهر جديدة تهدّد علمانيّة الدّولة ونظامها الديمقراطي. ألم يقل فلاسفة السّتينات في فرنسا “إنّ العقل هو السّجن” لأنّه إذا ما تجمّد فقد قدرته على التّواصل والانفتاح على الآخر وأصبح قيدا رهيبا منغلقا على يقينيّاته. وقد حاول هابرماس مقاربة هذا الموضوع من خلال طرحه لمسالتين هامّتين الأولى “الوعي بما هو مفقود” بآعتبارها المدخل لتحديد أوجه القصور في مسار العلمنة والثّانية إعادة النّظر في مكانة الدّين في الفضاء العمومي كحلّ لتجاوز مآزق الحداثة و الديمقراطيّة.

1_ الوعي بما هو مفقود 4

يجد مفهوم “الوعي بما هو مفقود”. مشروعيته من خلال رصد هابرماس للعجز الّذي بلغه العقل الديمقراطي والمسار الطّويل للعلمنة في البلدان الأوروبيّة والّذي تمتد على أزيد من قرنين من الزّمن، عجزه على توفير الحياة الجيّدة. لقد أخلّت الفلسفة الليبراليّة بالإيفاء بآلتزاماتها أمام مواطنيها. وهي الّتي وعدتهم بتوفير حياة تقارب الكمال في طموحها لكلّ فرد دون اٍستثناء. لقد ولّد ضعف المؤسّسات الاِجتماعيّة في الدول الديمقراطيّة خيبة أمل من ناحيّة وكرّس حتميّة التّكافل الاِجتماعيّ في الواقع المعيش من ناحيّة أخرى. مع اِنتشار ظاهرة العولمة، تضخّم دور السّوق حتّى أصبح أكبر من الدولة، مخترقا للحدود الجغرافيّة ومنتهكا لسيادة الدّول. لقد عملت العولمة على نحت كائنات بشريّة ذوات بُعد واحد على حدّ عبارة المفكّر الأمريكيّ ذي الأصل الألماني هربرت ماركوز ـ1899 ـ1978 “الإنسان ذو البُعد الواحد” ضمن هذه الرؤية تسنّى لآقتصاد السّوق أن يشكّل العالم على النّمط الّذي يرتضيه، نمط الِاستهلاك حيث يستحيل الإنسان كائنا روحه الجوع تطمس كلّ أبعاده ويتمّ الإبقاء على بُعد واحد تنصهر فيه كلّ الأنشطة الاِستهلاكيّة، تنسدّ حينذ كلّ الآفاق ويُستلب الإنسان وتُجهض كلّ نزعة للتّسامي وهي النّزعة الّتي تعمّق التّناقض بين المثال والواقع حتّى يُعطى للتاريخ معناه وفي ذلك الشّرخ يجد الكائن مساحة يمتلك فيها حقّه المشروع في نحت كيانه وفق إرادته الحُرّة.5

لم يعد بهرج الليبراليّة الجديدة ذات النّزعة التبشيريّة بالجنّة الأرضيّة الموعودة يقنع المفكّرين والفلاسفة لأنّها أفضت إلى خراب كونيّ كشف زيف الشّعارات الّتي رُفعت، وعمّق اِغتراب الكائن. ويبدو أنّ هابرماس أصبح مقتنعا أنّ العقلانيّة ليس بمقدورها لوحدها أن تفرز مجموعة من القيم باتت المجتمعات الغربيّة اليوم في أمسّ الحاجة إليها. من هذه القيم: التّضامن، الخلاص، الأمل، المواساة، المحظورات الأخلاقيّة… إنّها أزمة الخطاب الفلسفيّ الحديث الّذي يتيح للخطاب الدينيّ أن يطلّ برأسه ويطرح نفسه بديلا جديّا لحداثة مريضة، قد اِهترأت على مرّ العصور. يقول ميكائيل فوسيل “هكذا يزيح الخطاب الديني التّجريد الحداثي عن الحياة الجيّدة بآسم غائيّة أعلى للوجود آضطُرّ الفكر الليبرالي للتّخلي عنها، وهابرماس نفسه لا يمكنه التملّص من القاعدة الّتي أصبح بمقتضاها الدّين، من جديد، رهانا وذلك عندما تعاني الفلسفة من قيودها الخاصّة ” 6.

لم تقتصر العلمانيّة على فصل الدّين عن الدولة بل إنّها، وضمن توجّهها الكلياني، فصلت مجمل حياة الإنسان عن الدين والأخلاق. هذا الانفصال عن القيم عمّق الشّعور بالاِستلاب لدى الإنسان المعاصر ممّا دفع بمجموعات اِجتماعيّة إلى التّقوقع على ذاتها والاِحتماء بهويّاتها المهدّدة واِجتراح قوانين خاصّة بها تعيش وفقها، هذه المجموعات الدينيّة المختلفة أصبحت تملأ الفضاء الأوروبي وتسعى إلى فرض نفسها في الفضاء العمومي في تحدّ صارخ لقوانين الدولة وتشريعاتها. لذلك توجّب البحث عن حلول عاجلة لهذا الخطر الّذي يتهدّد النّسيج الاِجتماعي لهذه المجتمعات وأولى ملامح الخروج من هذه الأزمة هو الإقرار، وفي إطار العدالة السياسيّة، بأّنّ المعتقدات الدينيّة تحمل البعض من المضامين المعرفيّة، فالمحبّة والِاستقامة الأخلاقيّة والأمل في الخلاص يمكن أن تكون من مستلزمات الحياة المشتركة الّتي تشكّل عناصر للحوار الديمقراطي.7

يرى هابرماس أن لا شيء يقف دون اِمتلاك المجتمع الديمقراطيّ اليقينيات الدينيّة فلطالما ظلّت تلك اليقينيات تعزّز القوى الحافزة للعقل وبالتّالي من حقّها أن تصبح جزءا من العناصر المكوّنة للفضاء العموميّ. ففي الحقبة الّتي ضعُفت فيها الدوافع الاِجتماعيّة المتّصلة بالتّكافل ـ مثل الإحسان ـ يمكن أن يكون اِستخدام المعتقدات الدينيّة استبدالا مشروعا لها. إنّ هذا اللّطف المعلن تجاه الأديان ينبغي أن يُفهم عند هابرماس “بالرّغبة في تعبئة العقل الحديث ضدّ الاِنهزاميّة الكامنة فيه” .8

لا يجانب هابرماس الصّواب عندما يُرجع السّبب في فقدان ـ الحياة الجيّدة ـ ،و الّذي تمّت صياغته في مصطلح ” الوعي بما هو مفقود “، إلى التّعارض بين الإنسان الاِقتصاديّ والإنسان الدينيّ. من ناحيّة وإلى فرضيّة مشتركة بينهما وهي إنكارهما للسياسيّ لذلك عمد في تمشّيه لتملّك المحتويات الدلاليّة الدينيّة إلى بناء صيغ للتّوافق في مجتمع تسوده تعدّديّة القيم وهو تمشٍّ يتجاوز الإطار الأخلاقي للمسألة ليصبح اِستجابة عقلانيّة لإحدى تحديات الديمقراطيّة.

2_ مكانة الدّين في الفضاء العموميّ

لم يعُد صاحب نظريّة العقل التواصليّ يثق في قدرة العقلانيّة الإجرائيّة والتواصليّة على توفير قاعدة محفّزة كافيّة لمواجهة الأخطار المختلفة الّتي تتهدّد الديمقراطيّة الغربيّة فقد لاحظ أنّ “الحداثة تنزع نحو الخروج عن مسارها “9، وأنّ ” هناك وعيا معياريا بدأ يتلاشى في كلّ المناحي” ،10 وأنّ ” اِجتياحا للمذهب الطبيعيّ وعقيدته العمياء بدأ يصيب مجال العلم ” .11 ولذلك توجّب على هابرماس العمل على تمكين العقل من اِسترجاع زمام المبادرة بيده في البحث عن خيارات أخرى بغرض مواجهة التّحديات الّتي يطرحها اليوم عودة الدينيّ….. ممثّلا في الأصوليّة الدينيّة والتطرّف الدينيّ. في تمشّيه الفلسفيّ يتوسّل هابرماس بالعلمنة لقدرتها على إصلاح أخطائها بنفسها، لأنّها ليست نصّا مقدّسا وذلك في سعيه لآستعادة التطلّعات السياسيّة والاِجتماعيّة والرمزيّة الحديثة تحت لواء الديمقراطيّة. وهذا يقتضي إعادة ضبط مفهوم العلمنة نفسِه على ضوء المستجدات الحديثة لأنّه صار مطلبا ملحّا وهو ما سيكون له أثره المباشر في مفهوم الديمقراطيّة نفسها بآعتبار أنّ الديمقراطيّة هي الوجه السياسي للعلمنة وهي المعبرّة عن الإرادة الشعبيّة، رغم أنّ ربط العلمانيّة بالديمقراطيّة ليس صحيحا دائما فألمانيا النازيّة وروسيا البلشفيّة كانا نظامين علمانيين إلّا أنّهما نظامان كلينيان اِرتكبا من المجازر ما جعلاهما وصمة عار في تاريخ الإنسانيّة. فالعلمانيّة علمانيات ومنها ما هو صنو للديكتاتوريّة. فبسبب ظهور التطرّف الدينيّ من ناحيّة وهيمنة معايير السّوق على قواعد الحياة الديمقراطيّة من ناحيّة أخرى أصبحت الأنظمة الليبراليّة تعاني من نقص في الشرعيّة، لا يستطيع أيُّ شكل من أشكال التّمثيل القانونيّ المعروفة أن يتغلّب عليه. فالقانون الوضعي يعكس فقط تثبيتا ظرفيا لحالة الرّأي العام إنّ حالة عدم الاِستقرار هذه يؤكدّها اِستمرار وجود نُظُم تفسير دينيّة للعالم تستطيع بفضل اِتّساقها الردّ على “المفتقد” الّذي تعاني منه الدول الدستوريّة 12. وإذا القانون الليبيرالي يمتنع عن سنّ أحكام تتعلّق بالصّراعات الأخلاقيّة أو الدينيّة فإنّ هابرماس يرى أنّه ” على الدستور الديمقراطي أن يستوفي عجز الشرعيّة النّاتج عن حياد الدّولة تجاه وجهات النّظر المختلفة للعالم ” 13. يطالب هابرماس بتجاوز التّوافق الأوروبيّ حول الديمقراطيّة المكتسب بعد الحرب العالميّة الثانيّة ويراه قوسا تاريخيا بات اليوم مهدّدا اليوم بالانغلاق ويفضّل الاِعتماد على أمثلة ناجحة من الترجمات بين الإيمان والعقل مثل تلك الّتي تقرّ بوجود “إنسانيّة على صورة لله، مجسّمة في الكرامة السويّة والاحترام غير المشروط اللّذين يستحقّهما جميع البشر ” 14. يشعر هابرماس بالحرج الشّديد حين يرى اليوم اِستمرار الأنظمة الليبراليّة في حمل مواطنيها على الوصول إلى حالة اِنفصام الشخصيّة ـ الشيزوفرينيا ـ حين يُمنعون من الاِعتراف بحقّهم في تقديم قناعاتهم ممّا يضطرّهم إلى العيش مزدوجي الشخصيّة بين ما يظهرونه وما يبطنونه. فأفعال التّنديد والسّخط على الديمقراطيّة تنبني على أساس الظّلم المعاش ولرفع هذا الظّلم يتوجّب حسب هابرماس رفع الحجر المسلّط على المعتقدات الدينيّة من الوصول إلى ساحة الديمقراطيّة. وإذا كانت الوطنيّة الدستوريّة تقوم على أساس المعتقدات المتأصّلة فإنّها حتما تلتقي مع المعتقدات حول ” الحياة الجيّدة ” الّتي شريطة اِعتمادها على مبادئ دولة القانون، تصبح تنتمي إلى التّبادل العقلانيّ المشروع.

إنّ التّبادل العقلاني يقتضي أنّ أصوات الملحدين وأصوات المؤمنين يمكن أن تتعايش في فضاء واحد، حيث يتاح لكلّ منهما أن يطرح قناعاته دون أن يزعم أنّها قناعات معصومة سواء كان مصدرها الاِله أو كان مصدرها الأغلبيّة البرلمانيّة. إنّ الأمر يقتضي تقديم تنازلات متبادلة من هذا الجانب أو ذاك، لأنّه توجد قيم مشتركة يمكن أن تشكّل أسسا لحوار ديمقراطيّ شريطة أن لا ترفع هذه العناصر إلى درجة المطلق ضمن هذا المنحى يعتبر هابرماس الكنائس شركاء ديمقراطيين حقيقيين يقول” من مصلحة الدّولة الدستوريّة أن تكون متسامحة إزاء المصادر الثّقافيّة المتنوّعة الّتي تغذّي الوعي المعياري والتّضامن المدنيّ ” 15. لعلّ ما بين الديمقراطيّة والمعتقدات الدينيّة من وشائج من شأنها أن تكبح غلواء التطرّف الدينيّ المهدّد لإمكانيّة العيش المشترك من ناحيّة وتروّض توحّش معايير السّوق المنفلتة من المسارات السياسيّة المنوطة بها وظائف التّعديل في مجال الحياة من ناحيّة أخرى. إنّ التجربة المعاشة للظّلم في ظلّ اِستفحال الفوارق الاِجتماعيّة هي الّتي تدفع النّاس إلى طرح مسألة العدل. وبما أنّ الأديان، عكس الدّول، لم تتخلّ عن خطابها المعياريّ حول المعنى الكامل للحياة، تبدو أفضل تسلّحا للردّ على اِحتلال الوجود الذاتيّ من قبل معايير الرأسماليّة الإداريّة الّتي يقودها عقل اِقتصادي منفلت من قيوده.

إنّ التنازلات المتبادلة بين أتباع الديانات وأنصار الديمقراطيّة من شأنها أن تشكّل أرضيّة مشتركة لمواجهة عولمة الإديولوجيات الّتي تعمل على نشر” نِزاعات بين شموليات متنافسة “16. إنّ هذه الرؤية الّتي يتبنّاها هابرماس تظلّ محفوفة بمخاطر من شأنها تأجيج نَزعات أنتروبولوجيّة جوهرها تساؤلات حول الماهيّة الإنسانيّة، العلاقة بين المذكر والمؤنّث، الطبيعي والمرضي …متأتيّة من مصادر دينيّة وتنتصب في قلب المجتمعات الليبراليّة. إنّ الأمر لا يتعلّق فقط بالإقرار بفشل مشروع العلمنة وإنّما بعودة العقائد الأنتروبولوجيّة الدوغمائيّة داخل الديمقراطيات. لقد أصبح الفضاء الاِجتماعي يعاني من التجزئة ومن التمايز ممّا وضع شرعيّة النّظم محلّ اِختبار وهو ما أتاح تنشيط المجال الدينيّ للتّغذي من نقاط فشل الديمقراطيّة. فعدم الاٍستقرار الميدانيّ للمجتمعات المعلمنة جعلها تُجبر على اِنفتاح ليست من صنّاعه كما يقول كلود لو فور 17. لقد فرضت الأديان نفسها بما تختزنه من قدرة على رتق تلك الفروق الاِجتماعيّة. وبذلك تثبت أنّها أعرق من الديمقراطيّة الحديثة، ليس فقط بالمعنى التاريخي بل لأنّها تعطي الوحدة الِاجتماعيّة مقروئيّة هي غائبة في المجتمعات التعدّديّة.

الخاتمة

تكتسي عبارة هابرماس الوعي بما هو مفقود أهمّيتها لأنّها تلخّص في إيجاز بليغ أزمة سلطة تأسيسيّة تعاني منها الديمقراطيات وتتجلّى أعراضها في عودة الموضوعات الدينيّة إلى النّقاش العام. ويؤكّد هابرماس هنا على أهميّة القانون في تسويّة الصّراعات. قانون يكون محكوما بفلسفة علمانيّة منفتحة حيث يمتنع الجمهوريون العلمانيون عن رفع معتقداتهم إلى مرتبة المبادئ المطلقة حتّى يتيحوا للمؤمنين / المتديّنين تنسيب معتقداتهم حسب ما يقتضيه الفضاء العمومي الجديد من تأسيس لديمقراطيّة تشاركيّة منفتحة على الجميع قائمة على الإختلاف والتنوّع والإعتراف بالاَخر المغاير .

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.