تطرح علاقة الرواية العربية الحديثة بمرجعها الواقعيّ مجموعة من الإشكالات التي تَنْصبُّ حينا على كيفية بنائها الفنيّ وتروم حينا آخر مساءلتَها عن مدى خُلوصها لوظيفتها التجديدية في رسم ملامح الواقع الاجتماعي والسياسيّ والفكريّ الذي يشكّل العلامة الحضارية لمعيش المواطن العربيّ.

* أبو بكر العيادي: الاستفادة من التراث أمر مشروع لدى أي كاتب
يرى الروائي التونسي- المقيم بفرنسا- أن الرواية العربية تتجاذبها في نظره ثلاثة تيارات رئيسية:

أولها، التيار المنبهر بالرواية الغربية، والذي لا يزال ينهل نهلا متواصلا من المنابع المغذية لها، ويرى أن الشكل الغربي للرواية هو الشكل العالمي الذي ينبغي الاحتذاء به.

ثانيها، التيار التجريبي الذي يبحث له عن أشكال مستحدثة، ويتأرجح بين تمثل أشكال التجديد المتعاقبة في الغرب، وبين الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية.

وثالثها، التيار التأصيلي الذي يستند إلى التراث السردي العربي القديم لإبداع رواية عربية الملامح.

هذا التيار الأخير يتشعب إلى فئات، منها من انكب على التراث يستلهم منه لغته وأشكاله السردية لتأصيل كيان، كما هو الحال لدى محمود المسعدي ومن والاه من التابعين، ومنهم من عاد إلى هذا التراث نفسه يغترف منه قصصا وشخصيات ووقائع ليعيد صياغتها وفق رؤية مخصوصة، وهو ما عرف لدى بعض النقاد بترهين التراث، ومنهم من ينهل من الموروث المدون والشفوي أساطير وحكايات فيها من العجيب والغريب ما عدها القدامى أنفسهم خرافات وأحاجي، كانت تؤثث الأسمار في البيوت والحوانيت ثم المقاهي.

وإذا كان المأخذ الأساس الذي ووجهت به الفئتان الأولتان توسلهما بلغة قديمة لا تناسب العصر، وحصرهما الأحداث في زمن قديم، هو زمن وقوعها، مما يجعل النصوص التي أفرزتاها رواية تعيد وقائع ولّت، فإن الفئة الثالثة التي تحفل كتاباتها بالدراويش والجن والمردة والأرواح يعاب عليها أنها تعيد إنتاج الخرافة في عصر يشهد ثورة مذهلة على سائر الأصعدة.

إن الاستفادة من التراث أمر مشروع لدى أي كاتب، فالإبداع، وإن عُرّف عادة بكونه إنشاء على غير مثال، مدين ولو بنزر قليل لما سبقه، ولكن من يقفو خطى غيره لا يترك أثرا يذكر.

فالعودة إلى التاريخ لا ينبغي أن تبطن أي حنين إلى الماضي، ولا أن تخفي أي شوق لاستحضار مرحلة سابقة، فالماضي يهم المبدع بقدر ما يدعوه إلى الحوار معه. والذين نجحوا في الإفادة من التراث هم أولئك الذين استلهموا أحداثا من الماضي، ثم أعرضوا عن جذورها التاريخية لتنمو شخصياتها ليس بوصفها حقائق لا تقبل الدحض، وإنما لكونها شخصيات حية تعيش في الواقع وتطرح مشكلاته.

فالتاريخ لديهم مجرد قناع يتوسلون به تعبيرا عن موقف أو إدانة لنقائص الراهن، بلغة العصر وإيقاعه.

والدوافع عند تلك الفئات مختلفة، فالجماعة الأولى تسعى لرواية عربية أصيلة، في شكلها ولغتها، تدير الظهر للمنجز الغربي وتنهل ما استطاعت من المدونة القديمة بقاموسها وبنيتها السردية؛ أما الجماعة الثانية.

فهي تبحث عن التفرد هي أيضا، ولكن باتباع المسعى الذي قاد رواية أمريكا اللاتينية إلى الانتشار والعالمية، أي بالغوص في المظاهر العجيبة والغريبة التي تسم مجتمعات جنوب القارة الأمريكية، وتنسى أن الرواية في تلك البقاع من الأرض لا تقدم واقعا هلاميا تسكنه الأرواح والأشباح، بل تستمد من موروثها وعادات أهلها أحداثا مفعمة بهواجس الحاضرومثقلة بهمومه، وهو ما بوّأ أعمال ماركيز وأستورياس وخوان رولفو وأمادو ويوسا وغيرهم تلك العالمية التي نلهث خلفها بلا دليل.

هل ساهمت تلك الأعمال في التبشير بالسلفية الإبداعية ؟ ربما، ولكن الثابت أنها، شأنها شأن صحافة الإثارة ومواعظ الفضائيات العربية، مهدت لثقافة الدجل والشعوذة وتكفير التفكير والأدب الحلال.

فما جدوى استعادة حكايات خارقة نعثر عليها في "المستطرف" للأبشيهي و"ذم الهوى" لابن الجوزي" و"عجائب المخلوقات" للقزويني، وغيرها لا يحصى عددا، إذا لم نحسن توظيفها لنقد الحاضر وتعرية مساوئه واستشراف البديل الأفضل؟

* حافظ محفوظ: الرواية لم تعد رغم أصولها الغربية ذات شكل مفرد

يذهب الشاعر التونسي حافظ محفوظ إلى القول إن مسألة استغلال التراث السّردي العربيّ ما تزال تثير أسئلة عديدة إما على مستوى الأشكال أوعلى مستوى المضامين. وإن استطاع الدّارسون ضبط بعض السمات المميّزة لهذه الظاهرة الأدبيّة فإنّ تجويد النظر في أبعادها الحضارية والأيديولوجية قد يقودنا إلى تبيّن مسالك يمكن أن تقود إلى أسباب احتواء هذه النزعة التي استوت ظاهرة منذ ستّينات القرن الماضي.

يرى بعض الدّارسين للرّواية العربيّة أنّ التفات الكتّاب العرب إلى التراث السردي إنّما كان موقفا من الغرب ومن إنتاجاته الفكرية و ربّما بحثا عن التأصيل التدريجي للمادّة الأدبيّة في مختلف تجلّياتها شعرا و نثرا.

من هنا عادت إلى مضان النّصوص الجديدة أشكال أسلوبيّة و مضامين حفظتها الذّاكرة الجمعية و راح الشعراء، شعراء التجديد، ينبشون النّصوص القديمة بحثا عن رموز وأقنعة و استلهامات قد تثري مواضيع قصائدهم و تحفر تربتها الخاصّة في محيطهم الذّاتي دون البحث في الثقافات الغربية عن انعكاسات لما يكتبون. كذلك فعل الرّوائيون وكتّاب القصّة القصيرة بل إنّ الأمر تعدّاهم إلى المسرحيين و السينيمائيين بأشكال مختلفة.

تعدّدت التجارب الرّوائية من أجل ما اصطلح على تسميته بتأصيل الرّواية العربيّة تعدّدا هدّد في نصوص عديدة كتبت بهذا الوعي بما يمكن أن يكون ضياعا للجنس الأدبيّ ذاته. الرّواية كجنس أدبيّ إنتاج غربيّ خالص. وليس لأحد أن يدّعي عكس هذا الرّأي. فالأشكال السردية العربية القديمة مهما تكاملت و بدت شبيهة بالرواية تظلّ مفتقدة لجوهر الرواية كما تبدّى لدى الغرب.

ومهما يكن الأمر فإنّ جميع الأسئلة التي تطرح حول هذه المسألة شرعيّة و متأكّدة لما قد يفرزه البحث من عناصر جديدة في التراث السردي العربيّ الغسلامي أو في إمكانات استغلاله وتوظيفه من قبل الرّوائيين. فعمل المويلحي يختلف عن عمل نجيب محفوظ في هذا المجال و عمل جمال الغيطاني يختلف عن عمل الدرغوثي أو عمر بن سالم وعمل المسعدي يختلف عن عمل الطيّب صالح وهكذا.

ومن حقّ الباحث أن يضع سؤالا نزقا طيّ أسئلته من قبيل الأسئلة التالية:

- هل إنّ العودة إلى التراث السردي واستغلاله شكل من أشكال رفض الحداثة و بالتّالي ارتماء في أصولية ما؟

- هل كان وعي الروائيين الذين التفتوا إلى هذا التراث السرديّ سليما من العلل الحضارية والأيديولوجية؟

- هل كانت العودة تلك عملا بريئا أم هو عمل قائم على غايات ذاتية و موضوعية؟

إنّ الرّواية باعتبار إمكانياتها اللاّمحدودة في الإفادة من سائر الموجودات الفكرية والإنتاجات الإنسانية لم تعد رغم أصولها الغربية ذات شكل متفرد، لا يمكن تجاوزه بل إنّ الحاصل الثقافي لكلّ أمّة قد يغيّر فيه حتّى على مستوى العناصر الأساسيّة المكوّنة لهذا الجنس و هذا مبحث آخر جدير بالنّظر.

لقد بنيتُ روايتي " حوريّة " 2006، على نصّ قديم هو " كنّش باش مملوك" الذي كان يحوي خلاصات لشؤون الحكم في العهد الحفصي و ما يليه وصولا إلى آخر البايات الأتراك الذين حكموا تونس إلى حدود سنة 1956.

ولكنّ هدفي من ذلك كان مقارنة وضعين أو قل ظرفين سياسيين متشابهين و كان همّي الإثراء إلى جانب التقيّة فشخصية شاذلية الساحلية تشبه في سلوكها شخصية ليلى بن علي. وهذا ما أدّى إلى نفس النتيجة الأولى التي أدخلت البلاد في حالة من الفوضى نجمت عنها انتفاضات في أرجاء المملكة والثانية أوصلت البلاد إلى ما دفع بالشعب إلى ثورة 14 يناير.
"العرب اونلاين"


حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.