تناقلت وسائل الإعلام خبر قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري الكائن في مسقطه معرة النعمان، في محافظة أدلب. بعد فترة وجيزة، اختفى تمثال الشاعر محمد الفراتي القائم في واجهة مديرية الثقافة في مدينة الفرات، في دير الزور. في الفترة نفسها، شهدت مصر اختفاء تمثال رأس طه حسين المثبت على قاعدة هرمية في شارع كورنيش النيل وسط ميدان مدينة المنيا في الصعيد، بينما اعتلى مجهولون منصة تمثال أم كلثوم المنتصب في ميدان الثورة في مدينة المنصورة، ووضعوا نقاباً على وجه كوكب الشرق.


 شهدت مصر في العامين الماضيين سلسلة من الحركات المعادية للتماثيل والأنصاب. طالب بعض السلفيين بتغطية التماثيل الفرعونية بالشمع، وغطّى البعض الآخر وجوهَ مجموعة من التماثيل الحديثة في الإسكندرية، وحاولت بعض الجماعات الدينية تحطيم تمثال الكاتبة عائشة عبد الرحمن المعروفة بـ”بنت الشاطئ” في طنطا. في سوهاج، حُطِّم رأس تمثال الرئيس عبد الناصر في سوهاج. وفي مدينة السينما في الهرم، أُحرِق تمثالً للمخرج السينمائي محمد كريم، وكان هذا التمثال قد تسبب في نشوء أزمة بين السلفيين و”الإخوان” من جهة، ووزارة الثقافة من جهة أخرى. آنذاك، اقترح وزير الثقافة الدكتور شاكر عبد الحميد وضع تمثال المخرج المصري الرائد في الشارع أمام أكاديمية الفنون، إلا أنّ الإسلاميين اعترضوا على ذلك، مما أدّى إلى وضعه في مدينة السينما. بعدها تسلّلت مجموعة مجهولة إلى داخل المدينة، وأشعلت النار في رأس التمثال، وألبسته قبعة على هيئة علم أميركا، وجاء ذلك بعدما أبدت الدعوة السلفية رفضها إقامة التمثال في الشارع لكونه “صنماً يحمل دعوة للشرك بالله”.


بعد هذه السلسلة من الحوادث، جاهر بعض الدعاة السلفيين في مصر بالدعوة إلى هدم الآثار، وادّعوا ان الأهرامات الثلاثة وأبا الهول هي أصنام، ويجب أن تُحطَّم حتى لا تُعبَد من دون الله. رأى الشيخ يوسف البدري ان هدم الآثار وكل الأصنام والتماثيل الموجودة في مصر واجب شرعاً، خوفاً من إثارة الفتن والعودة إلى عبادة الأصنام من دون الله، مشيراً إلى أن الرسول عندما فتح مكة حطّم كل الأصنام والأوثان التي كانت حول الكعبة الشريفة. في المقابل، نادى القيادي في الدعوة السلفية الجهادية الشيخ مرجان سالم الجوهري بتحطيم نصب أبي الهول والأهرامات وكل التماثيل التي تمتلئ بها مصر، في لقاء له مع الإعلامي وائل الإبراشي ضمن برنامج “العاشرة مساءً” الذي تقدمه قناة “دريم” الثانية. في هذا اللقاء، رأى الشيخ أن “المسلمين مكلفون تطبيق تعاليم الشرع الحكيم، ومنها إزالة تلك الأصنام كما جرى في أفغانستان”، وقال إنه شارك يوم كان ضمن حركة “طالبان” بتحطيم تمثال بوذا في أفغانستان، بينما فشلت الحكومة هناك في تحطيمه، وأكّد أنه سيأتي يوم قريب يستيقظ المصريون فيه، فيجدون مصر إسلامية خالية من التماثيل والأصنام. حدث هذا في زمن يتردّد فيه الحديث عن “الفتح الإسلامي الثاني لمصر”، بعد فتحها الأول على يد عمرو بن العاص في عهد خلافة عمر بن الخطاب، كأنّ الإسلام هجر بلاد وادي النيل بعدما دخلها في زمن الخلافة، وكأنّ ملايين المسلمين في مصر ليسوا مسلمين في الواقع، أو أنّهم كفرة من حيث لا يدرون.
 


في هذا الخضم، تختزل صورة تمثال أم كلثوم المنقّب، التحوّل الكبير الذي تعيشه البلاد في العقود الأخيرة، وصعود التيارات المتطرفة في مواجهة الثقافة المدنية على اختلاف انواعها. ظهرت هذه الصورة في الذكرى الثانية لتنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك، وتصدّرت عناوين الأخبار بينما كانت مصر تستعيد مشهد نائب الرئيس عمر سليمان في السادسة من مساء الجمعة في الحادي عشر من شباط، يعلن تخلي مبارك عن السلطة في بيان قصير يقول نصه: “بسم الله الرحمن الرحيم أيها المواطنون في ظل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد، والله الموفق والمستعان”. خطفت صورة كوكب الشرق المنقبة المشهد، وتكرر بثها على الشاشات في الثاني عشر من شباط، بعد مرور سنتين على خروج مبارك، بينما كان ألوف الكلثوميين يحتفلون على طريقتهم الخاصة بمرور ثمانية وثلاثين عاماً على رحيل سيدة الغناء العربي في الثالث من شباط 1975.


المراحل الثلاث
ولدت أم كلثوم في نهاية القرن التاسع عشر، وبدأت مشوارها الفني وهي صبية يافعة، وصعدت سلّم المجد بسرعة في العشرينات من القرن الماضي. في ربيع 1926، خصّصت مجلة “المسرح” المطربة الصاعدة بثلاث مقالات متتالية ضمن ملف حمل عنوان “الغناء والمغنيات في مصر”. قسّمت المجلة يومها حياة أم كلثوم ثلاث مراحل. أولاها، “حياة البداوة، أو حياة القرية من سنة 1915 إلى سنة 1918″، وثانيتها “ما يلي ذلك إلى مبدأ حضورها إلى القاهرة من سنة 1920″، وثالثتها، من 1920 إلى 1926. في الدور الأول، “بدأت أم كلثوم تظهر شيئاً من جمال الصوت وهي تغنّي عند قطف القطن في بلدتها طماي الزهراء، مركز السنبلاوين. وشاعت لها سمعة حسنة في القرى المجاورة، فكانت تُستدعى لقراءة الموالد بأجر زهيد”. أعجب محافظ دمياط بصوت هذه الصبية، وراح يستدعيها لتنشد في سهرات خاصة يحضرها جمع من الموظفين في دائرته، وكانت أجرتها يومها “اللي فيه النصيب”. كان أول دور غنّته أمّ كلثوم في تلك المرحلة المبكرة دور “مولاي كتبت رحمة الناس عليك”، وبحسب مجلة “المسرح”، “كان هذا الدور مبدأ شهرتها، وفاتحة سعادتها، وهذا هو السر في أنها تفتتح به كل حفلة من حفلاتها مهما كلّفها ذلك من سخط السمّيعة وضجرهم”.


مثل محافظ دمياط، أُعجب بأمّ كلثوم قاصد من بلدة مجاورة لبلدتها يُدعى توفيق بك زاهر، “وحدّثها عن القاهرة وما فيها، وأفهمها من طريق لطيف انه خير لها أن تهاجر إلى العاصمة، وأخذ يغريها على السفر بكل السبل”. أصغت الصبية إلى هذه النصيحة، وسافرت إلى القاهرة في منتصف عام 1918، وبدأت هناك الدور الثاني من حياتها. غنّت أمّ كلثوم في حفل أقيم في شارع الدواوين، وقابلها الجمهور بالترحيب، و”سمعت التصفيق يرنّ في فضاء صالة الاجتماع”. تكرر ظهور الصبية في القاهرة، وعندما أنشدت كعادتها “كتبت رحمة الناس عليك”، ردّ أحد الموجودين قائلاً: “كتبت الغلب علينا ياختي”. ظنّت أم كلثوم يومها أن هذا المستمع يستهزئ بها، و”ما كانت تنتهي من الغناء، حتى أخذت تبكي، وعبثاً حاول من معها أن يُفهموها الحقيقة”. تلاحقت الحفلات بسرعة، وانتقلت من شارع الدواوين إلى دار التمثيل العربي وصولاً إلى الكورسال، إلى عماد الدين: “ومن هذا العهد أصبحت أمّ كلثوم معروفة في مصر للجميع، وامتدت شهرتها إلى الضواحي وإلى باقي المحافظات والمديريات والبلدان”. في عام 1920، التقت أمّ كلثوم بالملحن أحمد صبري النجريدي، وبدأت معه الدور الثالث من حياتها، وغنّت من ألحانه مجموعة من الأغاني نالت نجاحاً كبيرا. بعدها، ظهر أحمد رامي في حياة المطربة الشابة، وكتب لها أدواراً وطقاطيق، وباتت “أم كلثوم أفضل مغنيات العصر”.


 بدأت أمّ كلثوم مشوارها الفني منشدةً للتواشيح الدينية، وكانت تعتمر العقال والكوفية عند أول ظهورها على مسارح القاهرة. “وكان عقالها يتوسّط أربع عمائم بيضاء تعلو رؤوس أفراد تختها الذي كان يلازمها في كل حفلاتها، شأنه شأن فرقة الأوركسترا الكبيرة التي تحيط الآن بمطربتنا في حفلاتها العامة التي تبدو فيها في أبهى حلة وأجمل زينة، مما يتمشّى مع عصرنا الحاضر، لا عصر العقال الغابر”، كما كتبت مجلة “الكواكب” في منتصف تموز 1953. حضر الشيخ الأزهري مصطفى عبد الرازق واحدة من حفلات أمّ كلثوم الأولى، بالعقال والكوفية، وكتب في وصفها في نهاية عام 1925: “كلما ذكرت الشيوخ ذكرت أمّ كلثوم أميرة الغناء في وادي النيل. فإنّ لها هي أيضا شيوخاً يحفّون بها في عمائمهم المرفوعة وأكمامهم المهفهفة وقطاطينهم الحريرية الزاهية اللامعة وجيبهم الطويلة الواسعة. عن اليمين شيخان وعن اليسار شيخان، حول فتاة معتدلة القوام لا يُشتكى منها قصر ولا طول، ولا يشتكى غلظ فيها ولا نحول، تنظر بعينين فيهما شباب وذكاء، وفيهما نزوة الدعابة ودلال الحسناء، في وجهٍ ليست تفاصيله كلها جميلة ولكن لجملته روعة الجمال، تحت ذلك العقال البدوي مكفكفاً على جبينها بطراز مذهب”. وصف الكاتب كيف “تظهر أم كلثوم بادئ الأمر رزينة ساكنة وتشدو بصوتها الحلو شدواً ليناً، من غير أن يتحرّك طرف من أطرافها، إلا هزّة لطيفة، تنبض بها رجلها اليسرى أحياناً”. بعدها، “ينبعث الطرب في هيكلها كله، فتنهض قائمة، وترسل النغمات المتعالية، تذهب في الآفاق هتافاً مردداً، أو تترجع رويداً حتى تتلاشى حنيناً خافتاً، وتهزّها أريحيّة الشباب والطرب فتساير النغمات في حركاتها، متدفّقةً بوثبات الشعور وراء مذاهب الفن، وتتلوّى عن يمينها وشمالها أعناق الشيوخ”. في ختام هذا الحديث الجميل، دعا الشيخ الأزهري المطربة الناشئة إلى خلع العقال، وجاءت هذه الدعوة بصيغة سؤال: “أم كلثوم نعمة من نعم الدنيا، فما بالها تأبى إلا أن تتجلّى على الناس بمظهر الآخرة؟”.


 خلعت ثومة زيّها الأول في القاهرة، وظهرت “في أبهى حلة وأجمل زينة، مما يتمشّى مع عصرنا الحاضر، لا عصر العقال الغابر”. غنّت كوكب الشرق الاغاني العاطفية، كما غنّت الأناشيد الوطنية والقصائد الدينية، وبرعت في كل هذه الحقول. في عام 1946، اضطلعت بدور البطولة في فيلم “سلامة”، وفيه ظهرت تتلو آيات من سورة ابراهيم. كان ذلك في منتصف الأربعينات، ولم تشكل تلك التلاوة خروجاً على التقاليد. شهدت مصر بعد ثورة 1919 ظهور قارئات تألّقن إلى جانب نجوم فن التلاوة، أشهرهن الشيخة كريمة العدلية والشيخة منيرة عبده اللتان عرفهما الجمهور العريض من خلال ميكروفون الإذاعة المصرية. وجاءت تلاوة أمّ كلثوم لتشكل إضافة جديدة في هذا الميدان. حصدت كوكب الشرق إعجاب الصفوة والعامة، ونالت استحسان بعض أشهر مشايخ العصر. على سبيل المثال لا الحصر، نشرت مجلة “دنيا الفن” في شباط 1947 حديثا أجرته النجمة مديحة يسري مع الشيخ محمود أبو العيون، وفيه عبّر الداعية الأزهري عن اعجابه بمحمد عبد الوهاب، “رجل التاريخ في فن الغناء في هذا العصر”، كما عبّر عن إعجابه بأمّ كلثوم، وذكر من أغانيها قصيدة أحمد شوقي: “سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل على الجمال له عتابا”، وقصيدة أحمد رامي: “أيها الفلك على وشك المغيب قف تمهل ان لي فيك حبيب”. وختم هذا الحديث بقوله: “عبد الوهاب وأمّ كلثوم هما أبطال فن الغناء في العصر الحديث، ونتمنّى لهما البقاء”.



الصراع المحتدم
كان ذلك في عام 1947، ولم يكن كلام الشيخ أبو العيون يومذاك ثورياً. تبدلت الصورة في العقود الأخيرة، وعاد القائلون بأن صوت المرأة عورة، وغناءها حرام. من هذا المنطلق، تأتي صورة تمثال أم كلثوم المنقّب اليوم لتشهد بشكل صارخ على صعود التيارات المتطرفة التى تدّعي أن الفن والأدب حرام. بعد تغطية وجه سيدة الغناء العربي بالنقاب في المنصورة، اختفى رأس تمثال عميد الأدب العربي طه حسين المثبت على قاعدة هرمية في شارع كورنيش النيل في مدينة المنيا، وتصاعدت الأصوات الداعية إلى مواجهة صعود التخلف والجهل والتعصّب.


رأى الكاتب بهاء طاهر أن ما حدث من اقتلاع تمثال طه حسين ووضع نقاب على تمثال أمّ كلثوم يرمز “لما يريد تحقيقه التيار المتطرف من اعتداء فعلي على المثقفين والمبدعين”، وتوقّع أن تحدث اعتداءات على تماثيل أخرى في الفترة المقبلة، “وخصوصاً أن التيار المتطرف يدّعي أن تلك التماثيل عبارة عن أصنام يجب تحطيمها”. من جهته، قال الفنان التشكيلي محمد عبلة ان الصراع سيحتدم بين الثقافة والجهل في الفترة المقبلة، و”الثقافة ستكون الحائط المائل الذي ستعلّق عليه الجماعات الاسلامية شماعتها بحجة أنها أصنام ويجب تحطيمها”.


حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.