عاد النّقاش ليُطرح مجدداً في إسبانيا حول الموت الرّحيم والتبعات القانونيّة لفعل الانتحار أو مساعدة شخص على الموت برضاه؛ وذلك بعد أن أقدم أنجيل هيرنانديز على مساعدة زوجته ماريا خوسي كارسكو، المصابة بالشّلل الكلي، على الموت.

وقد طرح النّقاش في منتصف التسعينيات مع رامون سامبيدر الكاتب الإسباني الّذي تحوّلت قصّته إلى فيلم سينمائي شهير من إخراج أليخاندرو أمينابار، وهو الفيلم الّذي حمل عنوان “البحر داخله” “Mar dentro . إذ طالب رامون سامبيدر من القضاء الإسبانيّ بأن يسمح له بالموت الرّحيم ليتخلّص من حياته الصّعبة مع الشّلل.

وقضيّة أنجيل وماريا لا تختلف عن قضية رامون، غير أنّ قصة أنجيل وماريا أكثر تراجيديّة ورومانسيّة رغم أنّها جعلتنا أمام جريمة قتل، حسب القانون، وإن تمّ برضا الميت.ّ

لقد تكفّل أنجيل برعاية زوجته ماريا لمدّة تزيد عن ثلاثين سنة، بيد أنّه قررّ أن يحقق لها طلبها الّذي رغبت في تحقيقه عن إرادة حرّة منذ أن تمّ تشخيص حالتها بالمرض قبل ثلاثة عقود.

قدّم أنجيل لزوجته ماريا محلولاً مميتاً لتشربه وتنهي من خلاله معاناتها، ووثق العمليّة من أوّلها لآخرها في شريط مصور، تحدّث فيه مع زوجته عن رغبتها في الموت، وعن الطريقة الّتي ستنهي حياتها. وكان يهدف من تصوير الشّريط تبرئة نفسه، وتوضيح أنّ الفعل كان بإرادة زوجته.

اعتقل أنجيل ووجهت إليه تهمّة مساعدة شخص على إنهاء حياته، وهو فعل يعده القانون الجنائي الإسبانيّ جريمة، كما قد تتم متابعة أنجيل بجريمة أخرى وهي جريمة ممارسة العنف ونشره عبر وسائل التّواصل.

الألم أقسى من الموت

إنّ الموت الرحيم يطرح إشكاليات فلسفيّة كثيرة بداية من تأمّل عبارة ” الموت الرّحيم “، إذ كيف يكون الموت رحيماً؟ فالموت هو المصير الّذي يهرب منه الإنسان، ويقاومه بالطب وبالفنّ وبالإنجاب [1] … وبالتّالي؛ لا يمكن أن يكون رحيماً أبداً، وإلاّ كان الإنسانُ متصالحاً معه.

لكن لا بدّ أن هناك ما هو أقسى من الموت حتّى يصبح الموت رحيماً. وما هو أقسى من الموت هو “الألم” الّذي ينتهك الكرامة الإنسانيّة الّتي لا يمكن أن تصان بالرعاية الصحيّة أو بالتخدير الطبيّ فحسب، بل بضمان قدرة الشخص على الاختيار وتقرير مصيره الشخصيّ، بحيث لا يكون هذا المصير بيد غيره، بيد الجماعة أو القانون مثلاً. لهذا كان اليونانيون القدامى يسمون الموت الرّحيم بالأوتناسيا Euthanasia، أي بالموت الجيد أو الحسن. ومثال الموت الجيّد نجده في قصة سقراط وشربه لسم الشكران بعد أن حكم عليه القضاء بالإعدام. وكان الرواقيون يرون الموت الجيد أمراً طبيعياً إذا لم يكن هناك مفر منه. وعادت فكرة “الأوتناسيا” أو “الموت الرّحيم” لتطرح من جديد مع بيكون صاحب التفكير العلميّ والمنهج الاستقرائي.

إنّ الموت الرّحيم يصارع الألم، وهو شرّ، لكنّه أخفّ الشّرور مقارنة بالألم وانتهاك الكرامة. لهذا يرغب فيه بعض المرضى، لكن هناك من يعارضه بشدّة، ويستند في معارضته أيضاً على مبرر الكرامة الإنسانيّة.

فحسب تصوّر الرّأي المعارض للموت الرّحيم فإنّ الحقّ في الحياة حقٌّ مقدّس، والحياة هبة إلهيةّ ينبغي الحفاظ عليها، وأن مانح هذه الهبة هو الوحيد الّذي يحقُّ له أن يأخذها، أي الإله.

يبدو هذا التّصور المعارض للموت الرّحيم تصوراً دينياً، وهو بالفعل كذلك؛ إذ تقف الكنيسة الكاثوليكيّة وبعض الأحزاب اليمينيّة في إسبانيا ضدّ التوجهات الّتي تطالب بالسماح بالموت الرّحيم، وإلغاء جريمة مساعدة شخص على الموت برضاه.

القانون أمام ظلم الألم وحقّ الاختيار

يعاقب القانون على التّعذيب الّذي يمارسه الأشخاص في حق بعضهم، بل يجعل عقوبة العنف المصحوب بالتّعذيب عقوبة مشددة، لكنه أمام الألم والتّعذيب الّذي يسببه المرض أو الطبيعة يقف عاجزاً عن فعل أي شيء حين يقرر تجريم فعل الانتحار أو الموت الرحيم. وهكذا؛ فالقانون لا نجده يقف في وجه “ظلم الألم” الّذي تسببه الطبيعة، لأنّ الإنسان عاجز أمامها، رغم محاولاته العلميّة المتواصلة للسّيطرة عليها.

صحيح أنّ الموت لا يحل المشاكل، كما يؤكّد معارضو الموت الرّحيم، لكنه، على أي حال، ينهي الألم، ولكن ما أدرانا أنّ الألم لن يستمر بعد الموت؟ حجّة معارضي الموت الرّحيم تقوم على هذه الفكرة، وهو أنّ الألم قد يستمر في الجحيم، وقد يكون مخلداً هناك، وليس مؤقتاً كما هو في هذا العالم. لهذا؛ ينبغي الصبر والتحمل كما تحمل أيوب آلامه. كما يرون أنّ الموت الرّحيم مخالف للغريزة الطبيعيّة للإنسان، وهي غريزة البقاء.

لكن أليس للفرد حقّ الاختيار، ومن ثمّة؛ تحمل تبعات اختياره؟ بمعنى، أنّ الرّغبة في الموت لا تؤذي أحداً ولا تهدّد حقّ حياة الغير، خاصّة إذا كانت بسبب المعاناة غير القابلة للشّفاء. أما تبعاتها الميتافيزيقيّة فلا يهمنا أن نتحدث عنها، لأنّها تندرج ضمن حريّة المعتقد، لذا؛ ليس من واجب رجال الدّين أن يضمنوا السّعادة الأخرويّة للناس بأن يفرضوا عليهم تحمل الألم والاستمرار في الحياة، بل كلّ ما يمكن أن يقوموا به هو أن يعبرّوا عن موقفهم الميتافيزيقيّ الّذي يدين فعل الموت الرحيم، ويتركوا للأفراد اللذين يتألمون حرّيّة الاختيار بين الاستمرار في الحياة المصحوبة بالألم أو تقديم طلب الموت الرّحيم.

الموت الرّحيم السلبي والموت الرّحيم الإيجابي

من الواضح أنّ موضوع الموت الرّحيم موضوعٌ إشكاليّ. ولعلّ السبب في ذلك راجعٌ إلى اختلاف زوايا النّظر الّتي ينطلق منها كلّ شخص حين يفكر في هذا الموضوع أو حين يناقشه. فقبول الموت الرّحيم أو رفضه ينطلق أساساً من تصوراتنا حول الإنسان ووجوده، وهذا ما يجيز لنا أن نقول إن فهمنا للإنسان سيساعدنا على إبداء رأي أخلاقيّ حول الموضوع. ولعلّ التصورات الجديدة حول الإنسان ومركزيته في الوجود مع انبثاق الفكر العلمي في القرن السّابع عشر هي ما جعلت فكرة الموت الرّحيم تبعث من جديد مع فرانسيس بيكون.

من الملاحظ أنّ عملية الموت تتمّ طبياً في حالات كثيرة، على سبيل المثال، في حالة الموت الدّماغي. ومن الناحيّة القانونيّة يحقّ للمريض، في بعض المجتمعات كما هو الحال في إسبانيا، التوقف عن أخذ الأدويّة الّتي تطيل حياته، وهذا التوقف يعدُ تسريعاً للموت، أو يمكن أن نسميه بالموت الرّحيم السلبي. لكن ما هو مجرم ” فعل الموت”، بحيث يقرّر المريض موعد النهاية وطريقتها بمساعدة غيره في حالة عجزه عن القيام بذلك بنفسه، وهذا الفعل يمكن أن نسميه بالموت الرّحيم النّشيط أو الإيجابيّ.

لا بدّ من التنبيه إلى أنّنا حين نتحدث عن الموت الرّحيم، فنحن لا نتحدث عن الانتحار، ولعلّ الخلط بين الفعلين هو ما يؤدي إلى الارتباك في إعطاء رأي أخلاقيّ حول الموضوع. فالانتحار لا يقوم على أساس، بل قد يكون نتيجة حالة نفسيّة سرعان ما تتغيّر. أمّا الموت الرّحيم، فيقوم على فكرة تجنب الألم وإنهاء المعاناة الّتي لا أمل في التخلص منها. وحتّى وإن كانت العناية الطبية، إن وجدت، تخفف من الألم، فإنّه لا يمكنها أن تمنح الأمل للمريض، ولا أن تخفف من معاناته النّفسيّة وشعوره المتواصل بفقدان كرامته وعدم احترام حريته في إنهاء حياته. ثمّ إنّ الموت الرحيم في بعض البلدان الأوربيّة، القليلة جدّاً، يتمّ وفقاً للقانون وتحت إشراف الأطباء.

في الختام، الحياة كنزٌ ثمين، ولاشكّ أنّه ينبغي على الإنسان أن يحافظ عليها لأطول مدّة ممكنة، ولكن، حين تصبح الحياة عذاباً متواصلاً بسبب بعض الأمراض المؤلمة الّتي يستحيل مواجهتها، أو التقليل من أعراضها الفتاكة، فإنّه ينبغي أن يسمح للأفراد باختيار مصيرهم الّذي يرضيهم، وأن يموتوا كما قال الحكماء الأوائل موتاً حسناً أو جيّداً أو جميلاً.



حاشية:

1 ـ يقول محمود درويش في أبيات بليغة من الجداريّة:

“هزمتك يا موت الفنون جميعا ..

هزمتك يا موت الأغانيّ في بلاد

الرافدين، مسلة المصريّ، مقبرة الفراعنة،

النقوش على حجارة معبد هزمتك

وانتصرت، وأفلت من كمائنك الخلود…

فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريد…”

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.