إن التفكير بالشعر يعيد للإنسان إنسانيته ، يعيد تلك الخصيصة التي ضيعها الشعراء ، ليس الشعر إلا أكثر من فعل المقاومة ؛ تحرير للذات من سكونيتها من الاسترقاق الشكلي والمعانمي الذي ضيع الشعر وجعله مجرد قالب فارغ من الهوى ، جعله مصكوكا لغويا متنافر من الدنيوة ، جعله مقولا أخرويا قياميا منفلت العبارة عن الإنسان ، بل جعله تركيبا مزدحما بلاإنسجام و لا موقف و لا التزام ..الشعر يتجاوز بالإنسان الأداتية التي سلبت الإنسان ، اهدرته من الداخل ، يعيد تريت تلك الفوضي ، إنه بحث في نزعة الأنسنة و تثبيت لسؤال التنوير :ما الإنسان ؛ إن لم تكن تلك الكتلة العاشقة المتعشقة.


الشعر يرتب الكبنونة يعيدها إلى أصلها إلى التساؤل ، و إذا كان الشعر يتساؤل فإنه على مقربة من الشعر يقول هيدجر:"قد نعرف الكثير عن العلاقت القائمة بين الشعر و الفلسفة ، ولكننا لا نعرف عن الحوار بين الشاعر و المفكر وهما يقيمان الواحد بجوار الآخر " فالمفكر عند هولدرلين " يبسط عالما يقترحه أما الشاعر يمكن لعالم المفكر الانتشار الحي في الكلمة الشعرية و بسط العوالم الأخري التي يمكن ان تتمفصل عن عالم المفكر ، إن المفكر يحاور الواقع و لهذا ينتج المفاهيم بينما الشاعر يحاور المستقبل لهذا يقول الصور " أو كما قال هيدجر :" إن المفكر ينطق بالوجود ، أما الشاعر فيسمي المقدس".


فالتفكير عن طريق الشعر هو لحظة تعيد الكينونة إلى بيتها إلى عواطفها و احاسسيها التي سلبتها الآلة ؛ إنه تبرج باللفظ إلى حالة العشق ، فالشعر يتجاوز الآلية المفاهيمية الغارقة في الدلالة للشعور /الاحساس /حيث تنزلق الذات إلى بؤرة الفعل ما يفضي إلى الرعشة جملة شعرية فجرت الكينونة وجعلتها شظايا على جسد اللغة ، ولا يتم ذلك إلا باكتمال اللذة /الشهوة من خلال دلالة "النطق"المفضية إلى البوح /النطق بما هو لازمة أساسية لاكتمال النشوة للإغراق في الهوي.


البوح هو اللحظة التي يكتمل فيها المشهد /في قلب الحضرة/حين يشعر العاشق أنع وصل إلى سدرة المعنى / هناك ينكشف المستور و يسقط التكليف و يتقاسم الشاعر /هواه /مع الهوى.


إنها لحظة الاتحاد القصوى التي تتقشر فيها المعاني لتصل إلى الهوى/الهو ، وهو يهوه/ مصدر العشق/ ماتبقي من الآلهة على جسد اللغة ، تلك الجمرات التي تثير لهيب الشوق حركة /رقصا/ذوبانا/ اتحادا/ حلولا فيصبح المشعوق كامنا في لسان العاشق ، ينطق عنه /به نتيجة تضخم اللغة و اكتمال مقام البوح.


وهي دلالة الرحمة الوحيدة للنطق من داخل الهوى ، فمن الهوى/ هو / إلى الوله تتحقق رقصة الديوان في شكل تخميسي الدلالة متجذرة في العبارة الروحية ، غارقة في الرؤية من خلال الصوت/الهوى.


في حضرة الشعر يتلاشي الحجاب/ يفضح السر / لا معنى للكتمان حين تتكشف كل الحجب للعاشق عن هواه ، بل ما معنى البوح في حضرة الغياب ؛ إنه الفناء الخارق للعبارة المتبلغ في الإشارة ،الجالب للرحمة ، حين يمتلأ الكأس بالماء ستفيض المعاني على وجه القصيدة هو الفناء في الصوت الذي لا شكل له ، لا صورة له سوى ذلك اللون الأزرق الذي تصبح فيه الدلالة الصغري "أ"البشرية صورة صغيرة في العالم الكبير ، الزرقة المفضية إلى الذوبان /الاتحاد إكتمال التجربة ، إلى المتوجه من النسبة /النقس "أنا" أ/نطق إلى عالم الكمال /الحقيقة / الهوى حيث الاتساع والمدي /حيث يملأ النطق مابين المدين الصغير والكبير ليرجع البوح يورد خذ العاشق في دلالة عن / هتك للحجب /للتكليف /للحواجز والعوائق /لتمارس "عن" قيمة لللتبادل العشقي بين :أنا و العالم الكبير ليرتد القبول الهووي في شكل امتلاء للفضاء ، فأنا /أنطق تملأ بين السماء و الأرض ؛ حينها تصبح كل الزرقة علامة لا معنى لها في حضرة النطق /أنطيق ؛ إنها معاناة الوصل التي تنزلق على عتبات "عن" لتجعل المشهد أكثر اكتمالا.


لأن الشعر هاهنا ما يتبقي من الآلهة ، ما يتكشف عن ذلك اللقاء الذي تشكله دلالة الاستراق بمفهومها الايجابي للإطلاع على الهوى حيث تكون اللهفة في معاني الرؤية حيث تشتغل دلالة أطلق على تخليص الذات من التباسات الفردية من الحزن ، تمسح عنها الشعور بالمأساة ليصفو لها الوداد فتكتسح الحيرة "أنطق عن الهوى " إنها عبارة مثخنة /مقتصدة / تنم عن ثقة الخواص لا عن تجربة المبتدئء.


حيث يمضي الشاعر في هتك المتبقي من بشريته من دمائه لدلالة الأحمر ليصبح في الشعر خليفة /ممثل سيميائي مهم عن الآلهة /عن الهوى /هو يقول:


"أنطق عن الهوي
وهوي محبوبي
يمشي في الطرقات
يمشي في الطرقات
أعطي قلبي من تشتهيها "


النطق هاهنا كشف عن امتلاء القلب / عن بلوغ درجة الضعف / عن هزال الجسد / لتصبح العبارة الوحيدة القادرة على تخليص الوعاء من كدره هو الشعر ، إنه الفضيحة /النطق يقول السهروردي :
"واحسراتاه للعاشقين تحملوا
سر المحبة و الهوي فضاح .."


إن الفضحية متلبسة بالحيرة حيث لا تسع العاشق الجهة ولا الوجه ولا الحركة كلها تسع ولا تسع يقول:


"كنت اهذي في ساعات
الفجر الليلية
وسراب يخرج في موكبه
يتقصي أثر الموت
الموشوم
على أهداب خواطرها
انطق لهوا ..أنطق سهوا
انطق لغوا ".


إن اللغو يشتغل على التكرار المفضي إلى الحب لازمة العاشق وما الشعر إلا الفيض الذي يتساقط عن جوانب العاشق حين يفيض الهيام و تتضخم التجربة في المفارقة للناسوت ، إنه ارتحال إلى قلق المعنى وتوحد المشهد من الأرق إلى الورق يصبح الشعر اللعبة القصوي للتجربة.


فالشعر هو الذي الذي يؤسس للعبور لزمانية الانسان المحمولة فيه يقول جورج باطاي:"الشعر يقود إلى النقطة نفسها التي يؤدي إليها كل شكل من أشكال النزعة الايروتيكية إلى اللاتمايز إلى اختلاط الأشياء المتمايزة وغموضها .إنه يقودنا إلى الخلود الأبدي ...إلى الموت وعبر الموت إلى الاتصال الدائم إن الشعر ذاته الخلود الابدي إنه البحر الممزوج بالشمس " ولذلك لإن حد الشعر مطلوب قد تعصف به رقاب طالبيه لذلك يقول عبد الله حمادي :" فهو المعرف دون تعريف والوافد دون استئذان على القلب الرهيب ".

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.